صديق على الضّفة الاخرى


أيها القادم إلينا من سفر الأرض الطيبة، قمراً شمالياً في الغياب، مرت الأيام الأربعون لحظة غادرتنا، وفي الروح سر الوفاء، كان ولا يزال نشيداً على شفاهنا. سلام لك يا صاحبي، يا رفيق مهدي. لك في قلوبنا حكاية وفاء ولحزبك الشيوعي عربون محبة، لأنه فيك وأنت فيه، تصير حكايتنا، حكاية أشمل وأمثل لرفاق طريق واحد. في سن اليفاع، وقبل ثلاثين سنة كان التماس الأول، يوم أومأ لنا مخيم نهر البارد أن نلتقي؛ المخيم ذاك الكائن الحي، الذي تنفس فيه اللاجئ بأدنى شروط اللجوء المعتمدة عالمياً وفق قوانين البشر، وتنفس معه المواطن بأقل شروط المواطنة أيضاً... أنساقاً اجتمعنا بين غربتين، من وطن ضائع ومواطنة مضيعة. أنت القادم من ذاك الوادي السحيق في عكار العتيقة، تشرئب كوعد جبلي، تجتاز سفوحها الخضراء، تقطع شقوق صخرها، نحو قممها المشبعة برائحة عشب الأرض... التقينا بلا سواتر نفسية أو ترابية، بلا حواجز طائفية أو الكترونية، كنا سر العلاقة بين خندقين: المخيم والجوار. عقد حب لا تفصله اللغة الشاذة والكلمات النافرة. اللقاء الأول، يوم تسلقنا النهر ووصلنا ضفتيه، وعلى صدى القضية الفلسطينية، نحاور معلماً واحداً، يجمعنا على فكر وأبجديات جديدة، وأنّ هويتنا اليسارية تلك توحد ما بين الحلم ونصل الحرية. كان معلماً افتقدناه معاً كما أفتقدك الآن، سقط يومها بقذيفة مجنونة عام 1983 في قلب نهر البارد، وفجعنا لرحيله معاً، رفيقنا أبو مصطفى الراشد، الذي لقبه المخيم بـ«لينين»، ذاك الفقير الذي تسلح بعمق الفكرة وقوة الإقناع. من ذاك النبع غرفنا وحملنا زادنا وتواصلنا، نمارس عشق الحرية، نتقمص أساطير العظماء؛ يمر الكلام على فكر الحكيم وأسئلة إخراج حركة التحرر العربي من أزمتها، ومهدي عامل والتجديد الفكري، وحسين مروة، عن تأصيل وتحديث التراث، وغسان كنفاني وقلمه السيال أدباً وسياسة وفكراً... ونستظل بأمناء عامين شهداء على درب المقاومة، أبو علي مصطفى وجورج حاوي. ونشهر حبنا لكل مقاومة تفرش الدرب نحو أفق الحرية والعدالة والتحرر والديموقراطية... نتراشق بالنكات كلما التقينا، نشاكس النمطية إن التقينا على منبر خطابي... نخرج عمداً عن المألوف في أحزابنا... نثرثر عن أحوال الحزب والجبهة، ونستميح ذاتنا بتبادل عبارة تبريرية: «ما انت مش غريب»! وعلى السجايا الطيبة، نطمئن ونتواصل على كل حدث ونشاط يكون لخطى مهدي وقع في زواريب المخيم، وقاعات الأفراح والعزاء والمناسبات الخاصة والعامة. كان المرض يفتك بجسدين، تلاحما الى حد التوحد... نحن نريد الاطمئنان عنك، وأنت تسبقني بالاطمئنان عن المخيم. وعندما سقط المخيم صريعاً، غابت شمسك بعيداً عن شاطئه، تلحق بذاكرته الهاربة نحو شفق بعيد. وفلسطين معك اليوم لأنك كنت معها فكراً وممارسة، قضية وشعباً. ومن وقع الوجع والرحيل يا صديقي الأحب، صدقتني بالتحذير بأن الظواهر الشاذة في ظل بيئة سلبية، مهمشة، قادرة على الاستفحال والفتك بأكثر من مخيم ومدينة ووطن، تلك الظواهر الخطأ، من حرمان وعنصرية وطائفية وتعصب وتفرد وفساد وجهل. كأن الدرس يتكرر غير مرة، ورغم أنّ عمرنا السياسي يساوي عمر الحرب الأهلية البغيضة والمدانة، فقد أدركنا بالفطرة والوعي أن مناعتنا الداخلية لا تستقيم شروطها بلا نظام يلفظ أسباب الحرب والانقسام. ألم تر حالنا في فلسطين، بتنا ننقسم على مبادرة لوقف الانقسام، لا مبرر لها إلا الاستكانة لمشيئة العدو، الذي يحتاج إلى أرض رخوة كي يتمدد فوقها... بينما يقابله البعض بسلاح المصلحة الفئوية والتنظيمية وليس سلاح المصلحة العليا، ويروج البعض الآخر للخديعة بأن الأهداف الوطنية، سيقدمها العدو ذاته وليمة طازجة على مائدتنا. ألم ندرك يا صاحبي، أن الخداع السياسي والخداع الذاتي، بدينامياتهما الأميركية أو الإسرائيلية، أو من تنطلي عليهم، أن السلام قادم والاستقلال والحرية والسيادة قاب قوسين أو أدنى... فمتى كانت الحقوق الوطنية منحة إنسانية ومن جيب قادة الحرب والقتل والحصار والتجويع والجدار والفصل العنصري؟! أليست الخديعة أكثر فتكاً وتدميراً من كل مدمرات العدو!؟ لذلك أولويات مقاومتنا واستمرار فعلنا الكفاحي، وحمل الرسالة العظيمة لشعبنا، بل وسر الوفاء لكل الشهداء، والعزاء لك أن نصون الحق والحقيقة ونغسل السياسة من زيفها وأوساخها. أن نستعيد عناصر قوتنا بالوحدة، والإصلاح والبناء والديموقراطية والمقاومة. من بيت فصائلنا الأصغر، الى جبهتنا على مستوى الوطن، والوطن الأكبر، وعلى مساحة الصراع الأوسع على مستوى العالم. رفيق مهدي، أيها المعلم، تركت بذوراً. وغداً ستنبت السنابل، في روابي الوطن فرحاً ونصراً.  كلمة ألقيت في الاحتفال التأبيني لعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني مهدي خليل، بيروت، 2008.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء