http://badil.org/ar/haq-alawda/item/1864-art10
إن تكوين نظرة موضوعية للقضية المطروحة، لا بد له من مقدمة توضح حقيقة الرواية التي أدت إلى وجود الحدث أساساً، لأن أسوأ ما تعرض له ابن المخيم في ظل ثقافة التشويه والكراهية، يتضح في محاولة وضعه في مكان الجلاد والقاتل وليس الضحية، بل وعكس الحقيقة حتى تحميله المسؤولية عن الخلل والحدث والنتيجة الكارثية التي آلت إليها الأمور. من هنا صار الإلحاح على ضرورة وجود رواية فلسطينية حقيقية توضح ما حدث وتصحح الصورة الخاطئة لمجريات الواقع. فالأسباب عديدة، ولكن السبب المباشر والمعلن هو أنه في تاريخ 20/5/2007 قامت مجموعات إرهابية تُسمى "فتح الإسلام" بارتكاب جريمة فظيعة بحق الجيش اللبناني في منطقة العبدة والمحمرة المحاذية لمخيم نهر البارد. وعلى أثر هذه الجريمة، بدأ الجيش الوطني اللبناني بقصف مخيم نهر البارد، وقد شكل هذا القصف عملية عسكرية تمتعت بكامل الغطاء السياسي، من القوى المنضوية في الحكومة اللبنانية والتي خارجها. كذلك عربياً ودولياً، على اعتبارها تقع في نطاق "الحرب على الإرهاب". وقد استهدفت القضاء على منظمة "فتح الاسلام" وهي منظمة إرهابية متطرفة دخلت قبل أشهر من تاريخ الحدث إلى شمال لبنان ومخيم نهر البارد تحديداً. حيث اتخذت منه قاعدة ورهينة في الوقت نفسه، كنتاج لتقاطع مازال خفياً وبحاجة إلى تحقيق حيادي وشفاف. وهنا نقول بأنهأُريدَ للواقع الفلسطيني في لبنان أن يدُفع كي يكون جزءا من التجاذبات الداخلية اللبنانية – اللبنانية، أو عود ثقاب على الأقل لإشعال حرب داخلية فيه، إلا أن النتيجة كانت بدفع وتدفيع المخيم ثمن هذا الحياد.
لقد نتج عن هذه العملية العسكرية القضاء على منظمة "فتح الإسلام" الإرهابية، وتدمير مخيم مدنيً يؤمن السكن المؤقت منذ ستة عقود لأكثر من أربعين ألف لاجئ. وبعد مرور 3 أشهر على هذا النزاع المسلح، كان أعضاء منظمة فتح الإسلام إما قد قتلوا أو اعتقلوا أو هربوا إلى خارج المخيّم. وقد تمّ تدمير مخيم نهر البارد "القديم" بشكل كامل. و"الجديد" أي المنطقة المجاورة للمخيم والتي تؤمّن المسكن لثلث سكانه، لم تستثنَ من التدمير والخراب، حيث دمر 300 مبنى من أصل أكثر من 1000 في هذه المنطقة المحاذية للمخيم. أما بعيد انتهاء النزاع المسلح، فقد توقّفت المعاملات التجارية، مدخرات وممتلكات اللاجئ كذلك، ذهبت أدراج الرياح، وخسر اللاجئ جنى عمره. وبعد مرور 5 سنوات ونصف على النزاع، لا زال يعاني سكان نهر البارد العقاب الجماعي وما زالوا يدفعون ثمن هذا النزاع الذين لم يكونوا يوماً طرفاً فيه، بل إن أردنا اعتبارهم طرفاً، فقد كانوا يمثلون طرفا إيجابيا قام بمؤازرة انتصار الجيش. لكن التعاطى بعد انتهاء المعركة كان يعبر عن حالة من الإنكار لهذا الدور، إن لم يتجاوز الإنكار للاتهام.
تبعاً لذلك؛ فقد تأخرت عملية إعادة البناء للمخيم قبل أن تنطلق رسمياً، نتيجة للبيروقراطية في الإجراءات الحكومية المطلوبة وبطء سيرها. هذا في ظل استعادة المناخ العام الطبيعي في المنطقة وعودة "الأمور إلى طبيعتها"، نظراً للتواجد والحالة العسكرية الكثيفة حول وفي المخيم خلال تلك الفترة وحتى وقت كتابة هذا المقال.
أما الفاعل السياسي المرتقب وبخاصة شقه الوطني الفلسطيني، يتضح أنه مثّل صورة العجز في منع ما حصل، والسبب يعزى لضعفه أولا ومن ثم حالة انقسامه ثانياً، أي التي كانت تعيش في أجواء الاحتراب الدائر في غزة آنذاك، كذلك العجز عن القدرة على أخذ الأمر بقرار واحد ورؤية موحدة على عاتقه ومسؤولياتها ـ عوضاً عن وجود تواطؤ خفي لا يميل أبداً إلى الاصطدام بأي حال مع الظاهرة المسماه فتح الاسلام، مستهيناً بخطورتها أملاً باحتوائها وترويضها كما كان يقال في حينه. ويمكن الإضافة في هذا الاتجاه أن مختلف الفواعل الفلسطينيين وقادة المجتمع الفلسطيني وكذلك السلطة الفلسطينية، ما كان لها إلا التسليم بالعجز الكامل عن فعل أي شيء، مما استدعى تفويض الأمر للحكومة والجيش اللبنانيين، لأجل مواجهة الخطر المشترك لظاهرة فتح الإسلام. وقد ترك اللاجئون الفلسطينيون أبناء المخيم منازلهم، ممتلكاتهم، ومصادر رزقهم، لتأكلها نيران الحرب في نكبة جديدة. وهذا من أجل إفساح المجال أمام الجيش لتحقيق هدفه وإنهاء ظاهرة فتح الإسلام وكان نتيجتها جرح وخسارة فادحة وصدمة اجتماعية سياسية وإنسانية مازالت تتداعى فصولها حتى الآن.
ما يستوجب الاعتراف، أنه مهما فعلنا لا نستطع تعويض خسارتهم، بدءا من الإيواء والإغاثة، وصولاً إلى إعادتهم إلى بيوتهم، ولكن ليس قبل إعمارها. منذ اللحظة الأولى لوقوع الكارثة تم تشكيل لجنة فلسطينية للإغاثة وأخرى لإعادة الإعمار. لكن كما هو متعارف عليه أن عدد سكان المخيم 32.23 نسمة، علماً أن مساحة المخيم القديم لا تتجاوز 193, 151 متر مربع، حيث دمرت هذه المساحة تدميرا شاملا بما تحوي من 5,625 وحدة سكنية، بينما تبلغ مساحة المخيم الجديد 384,000 متر مربع، تحوي على 2,605 وحدة سكنية تعرضت للتدمير بشكل جزئي. كما كان المخيم يحتوي على 174 مؤسسة تجارية كبيرة و 1,031 محل صغير، إضافة إلى 13 ناديا رياضيا و 22 مؤسسة أهلية، و 8 مؤسسات رياض أطفال. جاء برنامج الإيواء والإغاثة ليقدم بدل إيجار إلى 3,462 أسرة، بمعدل 150 دولار شهريا، كذلك أنشأت 5 مجمعات مساكن مؤقتة تم تركيبها داخل المخيم إلى جانب مدرستين أنشئتا عبر برنامج الإيواء هذا للنازحين.
ومن ثم تشكلت لجنة فلسطينية مكلفة بإعادة إعمار نهر البارد، تكونت من فريق عمل فلسطيني، كانت أولى التحديات تتمثل في أن تتوحد القوى الفلسطينية على قضية بلسمة جراح مخيم البارد. وأن تشارك الفصائل الفلسطينية كافة في الشمال واللجان الشعبية والهيئات المجتمعية ضمن اللجنة المذكورة، من مواقع اختصاصية مختلفة، ولكن وفق غاية واحدة ووفق مستويات عدة للإعمار والإغاثة مع التشديد على أن هذا الجانب يقع ضمن حقل المسؤولية الأساسية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا". هذا مع إشراك الحكومة اللبنانية والطرف الفلسطيني بمكوناته الرسمية والوطنية، والقوى المحلية الاجتماعية والسياسية والأهلية. وذلك وفق قرارات الدول المانحة للإعمار في مؤتمر فينا فإن المبلغ المطلوب للإعمار هو 445,000,000 دولار أمريكي. لكن ما تم توفيره من المبالغ المخصصة للإعمار والتي تسلمتها الأنروا، يمثل ما يكفي لإعمار أربعة رزم من أصل ثمانية رزم التي هي مجمل المخيم القديم. ويجدر التشديد على أنه بعد إزالة الركام والأجسام المشبوهة واستملاك الأرض، أعلن عن الشروع بالإعمار إعلامياً ورسمياً من خلال وضع حجر الأساس في يوم 9-3- 2009، والموافقة على المخطط التوجيهي للبناء تمت في نهاية أيار عام 2009. وقد جاء الإعلان الثاني عن بدء الإعمار فعلياً في 29 – 6 – 2009، لكن تم وقف الإعمار بقرار من مجلس شورى الدولة بسبب ما عرف بمشكلة "الآثار" لمدة شهرين. وبدأ الإعمار فعلياً في أواخر 2009 بداية 2010، على أن يتم التسليم للرزمة الأولى نهاية 2010، لكن التأخر في إنهاء هذه المرحلة تجاوز فترة ثلاثة شهور.
وعلى الرغم من أن العمل قد أنجز في كل من الرزمة الأولى وأنجز نسبياً في الرزم الثلاث التالية، لكن من الطبيعي أن يكون هناك شكوى مستمرة من التأخير، فنحن اليوم في السنة الخامسة ومازال الانجاز على أرض الواقع متواضع، ونحن نحرص أن لا يكون التسريع على حساب المواصفات، وعليه تجري الرقابة لمتابعة إشكالات الفساد وتتبع دقة مساحات البيوت وتطبيقها وفق خرائط التحكيم وقبولها من الأهالي وإتاحة المجال أمام الطعون المقدمة، والمتابعة الفنية والرقابة، وتجاوز المشكلات الهندسية التي تظهر في كل مرحلة، من خلال الهيئة الأهلية بوصفها الأداة الفنية والمهنية والاستشارية، ذات الصلة في إطار علاقتها مع الجهات الثلاث، الفلسطينية والحكومة اللبنانية والأنروا.
الفاعل السياسي الرسمي اللبناني:واصلت الحكومة اللبنانية اعتبار ما تحقق نصراً على الإرهاب وتمكيناً لسيادة الدولة والجيش، وأن المخيم عاد تحت السيادة الشرعية، وان إعادة أعماره ستكون خاضعة لقانون وسلطة الدولة اللبنانية، باعتباره العائد منذ 1969 إلى حضن الدولة. كأنما النصر تحقق هنا على الفلسطيني أيضا، متجاهلة الموقف الرسمي والشعبي الذي ساهم بهذا النصر للجيش. والذي تمثل في الميدان بصور عدة على الأقل بإخلاء المخيم ورفض الناس أن يكونوا درعا بشريا لجماعة فتح الإسلام، على اعتبار ان هذه الظاهرة غريبة عن المجتمع الفلسطيني ومن خارج نسيجه الاجتماعي وعدم إعطاء شرعية سياسية لحضورها. إلا أن اللغة الاحتفالية تناست كل ذلك بما فيها حجم التضحية التي قدمت لهذا الثمن، من الجيش والمخيم وكذلك تدمير مخيم وما فيه من ممتلكات ومقتنيات وفضاء اجتماعي اقتصادي للاجئين المقيمين فيه.
لقد كان نهر البارد جرحا وليس نصراً، لأن النصر حسب مفهومنا يتمثل في أن لا تجري المعركة وان لا تدفع هذه الضريبة العالية، وهي ما كانت لتحصل لولا الصراع الداخلي اللبناني- اللبناني الذي دفع فاتورته الفلسطيني.
من هنا، يمسي التوجه مشروعاً للدولة اللبنانية، بمطالبتها بأن تفي بالتزاماتها التي وعدت بها حين قالت على لسان الرئيس السابق فؤاد السنيورة: "الخروج مؤقت والإعمار مؤكد والعودة حتمية"، وبأن يكون هناك تعاون مع أهالي المخيم وتقديم الخدمات اللازمة ودفع التعويضات كالتي دفعت للبنانين من سكان المخيم وأستثني من تلقيها الفلسطيني. وكذلك أن يرفع الحصار الأمني عنه، وأن يوقف التصنيف العسكري القاضي باعتبار المخيم منطقة عسكرية.
وقد تم تكليف لجنة رسمية لبنانية، يتبع رئيسها لرئيس الحكومة اللبنانية وتتمثل فيها عدة وزارات لبنانية، لكنها افتقدت إلى القدرة على اتخاذ القرارات، وبقيت تمتص المشاكل الفلسطينية دون حلها من خلال ما سمي بفريق نهر البارد. متاحة لها جهة التشاور والمتابعة بخصوص البارد، والتي حكمتها ثلاث مستويات في التعامل، أولا: التعامل الدبلوماسي الذي يدور في فلك الحديث عن الشراكة والمصالحة واحترام سيادة القانون اللبناني، وترسيخ العلاقات الأخوية اللبنانية الفلسطينية، وثانيا: التعامل السياسي الذي يتحدث عن دورة الجمع بين ثنائية الحقوق والواجبات، السيادة والكرامة، واحترام الكيان اللبناني والهوية الوطنية للفلسطينيين وضرورة أن يكون المدخل السياسي والتعامل السياسي هو الأساس وليس الأمني، والمطالبة بالحقوق المدنية لقطع الطريق على التوطين والتهجير. أما الثالث فجاء حول المستوى المدني، الذي يرفع السقف إلى مستوى اتهام القانون اللبناني بالتمييز والعنصرية ضد الفلسطيني. وأقيمت في هذا الصدد العديد من المؤتمرات والحركات الاحتجاجية الشعبية للضغط. بينما انشغلت لجنة الحوار اللبناني _ الفلسطيني في السعى لتعزيز العلاقة مع الحكومة اللبنانية، الذي تتوج في الاعتراف بالسفارة الفلسطينية التي ارتفع مستوى التمثيل فيها من ممثلية إلى سفارة دولة فلسطين، ومع القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل في لبنان، التي تريد من هذه العلاقة أن تكون إيجابية علها تعمل على بلسمة جراح الفلسطينيين في لبنان. كل ذلك يبقى مجرد مناشدات أخلاقية وإعلامية أكثر منها تفاهمات جدية حول ما نريد وأين تبدأ مسؤولياتنا وأين تنتهي. . إن أردنا بناء سياسة صحيحة تتجاوز ما حصل وتستخلص الدرس كي لا يتكرر وأن يكون المخيم النموذج الصحيح وليس الخطأ، فعلينا تبني نموذج للعلاقات الصحية والصحيحة كأساس معياريً نطلق منه لصياغة جديدة للعلاقات اللبنانية الفلسطينية، وذلك بما يضمن شراكة فعلية للمجتمع الأهلي والمسؤولية الوطنية والفضاء السياسي الذي يحفظ المخيم كهوية ودلالة ورمزية وطنية. لم يتجسد هذا النموذج حتى الآن، وهذا يعني استمرار رواج المنهج السابق؛ اي السياسة الإيجابية في العلن في ظل استمرار ثقافة الكراهية التي تريد الإبقاء على الفلسطيني نموذجاً صالحاً لثقافة الفزاعة وكمادة قابله للاستخدام بكل الاتجاهات!
الأونروا، هي الطرف المكلف الفعلي في قضية الإغاثة و قضية الإعمار، وهي التي واجهت الحدث وبدأت من الإيواء للنازحين من الإيجارات إلى ما يسمى برنامج الطوارئ للإغاثة الذي تعتمده الأونروا من التموين إلى التعليم والطبابة، وصولاً إلى برنامج الإعمار وهو متخصص في بناء المخيم القديم الذي رصد له 400 مليون دولار في مؤتمر فينا. تم دفع نصف المبلغ إلا قليل، وهو يكفي لتغطية أربع رزم من المخيم القديم، أي نصف الرزم التي تشكل المخيم. بالإضافة إلى إعمار وترميم المخيم الجديد الذي يسهم ببنائه كل من المجلس النرويجي والإتحاد الاوروبي، و المنحة الايطالية المقدرة ب 5 مليون يورو كمساعدات إسكانية. وهناك مساعدة يونانية بمليون يورو رصدت للبنية التحتية مازالت مجمدة في صندوق الحكومة. كما إن هناك مشروعات إعادة بناء المباني المهدمة تهديماً كاملا، وخاصة في القطاع 39، والسعي لاستدرار دعم دولي له جاري في الوقت الحالي، وكذلك حي جنين الذي لم نستلمه من الجيش حتى الآن.
يسجل فيما تم من تقديم مساعدات، قصور شاسع في الدعم العربي وخاصة من الدول الخليجية للإعمار رغم التزامها الدفتري بذلك، لذا من الهام تقييم واقع الشراكة في إعادة الإعمار على النحو الأتي:
أولاً: وكالة الغوث "الأونروا" التي تعتبر الجهة المسؤولة عن تنفيذ مشروع الإعمار، وتسريع البناء، وتوفير ما يلزم في سبيل ذلك بما فيه تداعيات الكارثة على الإنسان، من مأوى وإغاثة وتعليم وطبابة حتى عودة أبناء المخيم الى بيوتهم وعودة الحياة الطبيعية فيه.
ثانيـاً: على الدول المانحة وخاصة الدول العربية الشقيقة، الإيفاء بالتزاماتها المالية المقررة في مؤتمرات سابقة محلية ودولية، لمعالجة ذيول الأزمة وآثار الدمار وتفاقم المعاناة لأبناء المخيم، والتعويض عن خسائرهم وأعمالهم وتجارتهم والذين تحملوا تبعات الخطر الذي لو استفحل واستمر لكان قد تسبب بإيذاء للجميع.
ثالثـاً: على الحكومة اللبنانية الاضطلاع بضرورة حل العقبات الإدارية والقانونية وغيرها من طريق إعادة البناء واستعادة الحياة الطبيعية للمخيم. وأعني الاجتماعية والاقتصادية، عبر رفع الحالة العسكرية ونظام التصاريح وسياسة الإغلاق لتكون الطريق الأسلم لتحدى النموذج السليم في العلاقات اللبنانية الفلسطينية. وإرساء أساس للتفاهم اللبناني الفلسطيني بما يحفظ كرامة الإنسان وسيادة الدولة وفق مبدأ القانون بوجهيه: الحقوق والواجبات وصون الكيان اللبناني والهوية الوطنية الفلسطينية.
واقعإعادة إعمار المخيم ما بين النظرية والعمل:
على الرغم من حسم عملية إعادة الإعمار سياسيا ونظريا من خلال قسم رئيس الجمهورية اللبناني وبيانات الحكومة اللبنانية المتعاقبة، إلا أنها بقيت رهن اهتزازات البلد والاختلافات الداخلية فيه. لذلك فالعملية تمر بطريق شاق وتعتريه عدة عقبات قانونية وإدارية وحتى مالية، منذ بدء إشارة تملك المخيمالقديم وتبني مجلس الوزراء مجتمعا للمخطط التوجيهي، وكذلك التنظيم المدني. شرعتالانروا بإزالة الركام ورص التربة ونزع الألغام، وهذا ما استغرق وقتا وإجراءاتبيروقراطية ليست بقليلة. لكن حتى الشروط الأمنية والعسكرية للتصميمات وشروط الهندسة الاجتماعية التي تعيد بناء الأحياء وفق هوية المكان الذي كان يحوي عائلات من قرى فلسطينية جليلية واحدة، إضافة إلى عدم تلبية الالتزامات المالية والتي كانت أضعاف ما وعدت به الدول المانحةفي مؤتمر فيينا،وصولا إلى الشروط الفنية، فقد فوجئنا عند البدء برص التربة وتأهيل المكان لبدء العمل بوجود طعن وزاري من قبل كتلة لبنانية تقول بان المخيم يبنى على مدينة تاريخية أسمها "أرتوزيا"، وعليه تم وقف إزالة الركام ورص التربة، بداعيالعثور على ثلاثة أعمدة من الغرانييت مدفونة بين الرزمتين الأولى والثانية. بالتالي فرض تدخل مصلحة الآثار اللبنانية واستحضار فرقها على الأرض لمتابعة ما تم العثور عليه، لتقومبدراسة الأمر مع وزير الثقافة وتتبنى مبدأ ومعيار سليم في التعاطي مع الأمر، وهنا تموضع ثلاثة فرضياتبهذا الخصوص:
أولاً- أن تكون الآثار من النوع الثمين فيجلب إلى المتحف،
وثانياً-أن تكون من النوع الجيد والمهم فيتم إظهاره في المكان دون الإعمار فوقه،
وثالثا- أنتكون من النوع العادي الذي يطمر وفق المواصفات الدولية المرعية في اليونسكو.
وتمكتابة تقرير شامل عن الموضوع ليصار إلى تبني الاحتمال الثالث بأن يطمر وفق المعاييرالدولية وتستكمل عملية البناء.
إعادة بناء مخيم، للمرة الأولى في لبنان:
لأن في لبنان هناك الخصوصية الفلسطينية، يجب عدم إغفالها بالمقارنة مع أية دولة عربية أخرى، وهذا وفقاً لاختلاف السياق والتحديات التي شكّلت الأسباب الحقيقية التي يعاني منها الواقع الفلسطيني والذي يجعله أحيانا أمام أزمة وجود بكل ما في الكلمة من معنى، هي حاضرة في الوعي الجمعي ولها تفاصيلها ومفرداتها التي تتحكم ببنية وواقع هذا الوجود وتشكّل الخطر المضمر حيناً والمعلن أحياناً على وجودنا الاجتماعي والسياسي وهذا يتمثل في:
أولاً:الأزمة الطائفية، سرعان ما تظهر مكبوتها التاريخي في تلك السياسات المبنية على النزوات والأحقاد والانعزال، والمعبّر عنه بالخطاب النمطي غير التصالحي، والعجز عن الخروج من عقلية الحرب الأهلية، ويتماهى السياسي في نظرة تمييزية "عنصرية" ضد وجود مجتمع فلسطيني مستنداً إلى سلاح القانون، لنكتشف في كل مرة أن المشكلة في السياسة التي توظف القانون، وانقسام الموقف بين رفض مسكون بأحقاد الماضي لتلبية الحاجات الإنسانية الملحة، وبين عجز عن الاستجابة لهذه الحقوق رغم تأييدها اللفظي. عندها يظهر أن الانقسام اللبناني على المسائل اللبنانية، غيره في المجال الفلسطيني الحقوقي والإنساني، ويتحول الخطاب وفق حساسيات أخرى وتجاذبات تظهر حجم انعكاس الصراعات في البلد على طبيعة الوجود الفلسطيني في لبنان، فثمة قضايا محلية صرفة، وأخرى ذات طبيعة وطنية وقومية مرتبطة بطبيعة الصراع، وموقع الأطراف اللبنانية منها، وتعقيد الواقع اللبناني نفسه في ظل أزمة النظام البنيوية.
ثانياً: أزمة التجربة التاريخية الفلسطينية في لبنان وعلاقتها الجديّة بواقعها المجتمعي، وتظهر هذه الأزمة في الفجوة القائمة بين القوى السياسية الفلسطينية والبنية الأهلية الفلسطينية بشكل عام، وحجم تأثيرها وكيف ترى ذاتها وتعي تجربتها وما هي رؤيتها المستقبلية للوجود السياسي والاجتماعي والوطني للفلسطينيين في لبنان وفيما اذا كانت قادرة بالممارسة السياسية على تجاوز أخطاء الماضي الثقيل، ولعب دورها في حفظ هوية المخيم ودلالته، في خضم الصراع المباشر وغير المباشر لإعادة تشكيل الهوية الفلسطينية. فلا زالت مسألة الهوية الفلسطينية تعامل، وفق الرقعة الطائفية والمذهبية للمساحة التي يعيش فيها الفلسطيني، فيصير المخيم "الفزاعة" القابلة للاستخدام في كل مناسبة، وتصويره بمكانة الخطر المحتمل، الذي يستحق الحرمان من الحقوق والحصار والتدقيق والخنق.
تبقى أبرز التعبيرات عن الخلل متمثلة في وهن دور مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الإطار المرجعي لحركة الواقع الفلسطيني، بل إن تعدد الصيغ الفصائلية والمجتمعية، يزيد الأمر سوءا، فإن أياً منها لم يطرح برنامجاً أو مشروعاً يتعامل مع هذا الواقع الفلسطيني، ويعوّض بحركته الغياب الكبير للإطار المرجعي، أو يطرح آفاقاً تولّد الأمل بحركة إلى الأمام، وعليه فإن هذا الفراغ أدى بدوره إلى تراجع الإحساس بالهوية وجنوح للنزعات الفردية كأساس عند كل فلسطيني، ناتج عن فقدان الثقة بالأطر السياسية، أي الشعور "بالتهميش". ويمكن تلمس ذلك من خلال عدة مؤشرات، أبرزها غياب السياسة الحكيمة وطغيان الانفعالات الغريزية، لتحويل هذا الوجود للاستخدام السلبي السياسي.
------------------
*مروان عبد العال: رئيس اللجنة الفلسطينية العليا لإعادة إعمار نهر البارد.
تعليقات
إرسال تعليق