بقلم : مروان عبد العال __________________ أول نص أدبي منشور في : 01/08/1993
بلغ الصمت فيه حدود اللانهاية، وبدت عيناه الرطبة، محاطة بغلاف حراري، والصدى يشتعل فيه فيحول شرايين الرأس إلى أنابيب فسفورية تأكل خلايا دماغه، لا النوم راحة الوجع اليومي، ولا أغماضة العين سوى بداية كابوس يلاحقه، يعوي في أذنيه ليغتال نومه وفرحه وصحته، فيعبر حدود اللحظة ويستثير سـر القلب فيهطل العرق المالح منسكباً فوق الجرح الطري، فيداوي الوجع بالوجع .
هكذا كان يهزه ذاك المشهد الكابوس، فيصدمه كتيار كهربائي، يرتطم بكوب ماء بارد، يلتف أمام عينيه، عجلات قطار ضخمة تتجه مسرعة نحوه، وهو يشبـك كفاً بكف وثم يثني ساعديه بحركة متوترة ويضرب كلتا يديه على الطاولة، ليقول : " فال شؤمٌ "، ذلك المشهد الذي وقع أمامي منذ يومين، حيث إجتازت عجلات الشاحنة تلك الكلبـة اللعينة، ورمتها صريعة على رصيف الشارع، ويسأل : لماذا كابوس العجلات يطاردني ... لعله المشهد ليس إلا!! ..لقد كانت فعلة شنيعة، إختلط نصفها الأول أضلاعاً برأس، وصبغ المكان بخط أسود طويل، يتفرع منه متناثـراً دما ليلكيا قاتماً وعند نهايته، إنطفأت تلك المسكينة ! كم نحن مجرمون لعل هذا السؤال السري وراء اللعنة التي تطاردنا نحن الذين ندرب على الساقيـن، لماذا لم يوقفها ؟؟ أليس بإستطاعته الدوس على " الفراميل " أم إنه حاول ولـم يستطع ؟؟ وهل أن الكلبة هي التي أصرت على شق الطريـق وتحدي العجلات ؟؟ عجلات مسعورة تنهش الشارع ؟؟ ولكن لماذا تطارده هذه العجلات اللعينة ؟؟
تقض مضاجعة وأيامه ؟ لماذا هو وليس سائق الشاحنـة ؟ أم أن ذلك السائق لم يرى المشهد كاملاً أو أنه قد أدمن رؤية السحل على شوارع المـوت الفسيحة ؟
قال : لا جذور تحت إنسـان العجلات ؟؟ هذا السائق ليس أكثر من إنسـان مستهلك، هو مثل بيروقراطي تحدد أفقه كرسي القيادة .
يحاول أن يستريح من فوضى الأسئلة، فيوقظه قرعها المستمر، كجرس مربوط تحت عنقه، يختلط فيها العواء بصوت بإرتطام الجسد بالعجلات الضخمة وبقطار يتجه نحوه عابسـاً مخيفـاً كديناصور، ويستغرق الدمع عينيه، فتنهال في عتمة الليل ملتمعة كأنها تهطل على جدار شمعة ... وتأخذه حمى الأسئلة لتمسـك خناقه . وتحجز الصدى الثقيل يرن في رأسه ليردد :لماذا تلاحقه العجلات الحديدية ؟؟ ويحضره قول دكتاتور تشيلي" بينوشيت " : ( أيكون الكلب أجمل لو أن ذيله قطع قطعاً ؟؟! ) ، لقد كانت الكلبة مصرة على شق الطريق ؟! تماماً مثله ! ولكن هل يتحدى" دكتاتورية العجلات " التي ستمنعه وتقطع أوصاله قطعـاً قطعـاً توزعه على أقطار الأرض ؟؟
لا بدّ من فتح قفصه الصدري المحاصر بألف هم وعذاب وسؤال ؟؟ ولماذا يسلم تفكيره كـاملاً لحادثة كلبة ؟؟ ولماذا أصبح يخاف الزمن، وهل العجـلات هي الزمن الذي يتربص به ؟؟
عندما توجد اللعنة توجد ذنوب فما هي الذنوب التي إقترفها ؟ وليستحق مطاردة المـوت على الأرصفة ؟؟ لقد أدرك ساعتها معنى أن توصد الأبواب في وجهه وأن تحتجزه المطارات دون أن يعي بأي ذنب يحاصر ويوضع عداد الهواء فـوق أنفه، أي معصية إقترف ليصلب فـوق الأرصفة، ويكون كلبة أخرى يختلط رأسهـا بأضلاعهـا، فلم يكن إلا قوسـاً متوتـراً يغلق تلك الزاوية الحادة من مقهى ليلي يعـج بالتفاصيل ؟ كان الليل ستاراً جميلاً لحبه والبحر شاهداً وسامعاً لكل همساتـه والقمر شاهد الليلة لأنها إستقرت بدراً في وجهه، وقبل سنوات وما برح مبحراً في موج عينيها وإن تمزقت أشرعته وها هو يتوجها آله لمعبد قلبه ؟ يشرّع معهـا اللقاء في زمن تتمايل به العلاقات والطرقات والثورات .
الكابوس يركض خلفه بشكل عجلة متوحشة، منذ عرفها والذنب يطارده لأنه منذ البدايـة لم يحرر لها بياناً صريحاً وقوي اللهجة، ليقول لها إنه يعرفها أكثر من نفسه وأن الصلة التي تبني بين قوتين هي الصلة بين الحقيقة والحقيقة وصلة الوعـي التي تتألف بها الروح، وتتكون بها عوالم الحس الجميل اللامتناهي الذي تغرد فيه أحاسيس المشاعر متعانقة مع نضج المعارف وإنها الذات التي لا تجد نفسها إلا في مرآة الآخر وهي الإستثنائيـة الخارجة عن التصنع والتسطيع، لذلك قرر أن يوغل في لب الحياة لا سطحيتها، ولأنه على ثقة بأن الله قريب من هذه الصلة، كذلك فيهـا من القدسية ما يضعها أسمى من كل الذنوب، لكن ذنبه أنه أسير في سجن الآخر ولم يصارحها منذ يومها، بالحب وبطلانه في آن معـاً، إنه بلا مستقبل ومع ذلك يجلب السعادة إلى قلبه وخروجها من قلبه كخروج آدم من الجنة، وأن يراهـا، هي إنتعاش الروح وهي عودة الإنسانيـة إلى الأرض وهي راحته حتى المـوت ....
أرتجف أمام الصورة المفرغة هل العجلات الحديدية ستدوس هذا القلب المفعم بالإنسانيـة ؟؟ مثلما تدوس الثيران حبات الزيتون، ودبابات المحتل أطفـال المدارس، هكذا وبالطريقة نفسها سينهي هذا الغول الأسطوري عالمه الرمزي الذي ينتمي إليه، إنه وطنه الذي يتكون في أنفاسها وبتفاصيله الجميلة، طرقات ومدن، وهي إختصار قضية لن يغادرها ؟ تتفرع في قلبه كبلانة في بطن صخرة، لقد صمم على شق الطريق ويتحدى سلطة العجلات !! كما تتحدى الضحية جلادها .
ثم يعود ليقنع نفسه أنها تطورات مجردة وغير واقعية لأنه فعـلاً لم يقترف ذنباً ليسكنه الكابوس وليشاهده فعـلاً حيث إجتازت العجلات الضخمة كلبة شاردة أعاد نبش ذاكرته ولينظر إلى ماضيه كأنه يوم الحساب، وتساءل هل أنا خطير إلى هذا الحد ؟؟ حين أمارس " معصية الحرية " .
الكلبة حتماً متمردة وشاردة وتشق الطريق متقدمة الجرأ الصغيـرة تلهث خلفها، ولكنها ليست سوى كلاب ! أما هو فلا لأنه يحمل ما فـي الإنسانيـة من عمق بإنفتاحه العقـلي والعـاطفي وعشق الحقيقة ليعيشها، كما فعل أحد فلاسفة الإغريق عندما رمى بنفسـه في بركان " ايبا " ليبحث عـن الحقيقة في أحشـاء الأرض .
الحرية لم تعن له سلطة وسيطرة وتبعية، وجد فيها غنى الأشياء في تنوعها فخرج من دائرة المعدن في الجسد أو في الروح، وفي العقل أم في العاطفة، فكسر للضؤ القواقع الصدفية التي تحتجز داخلها ألماس البحري الثمين قد تغدو هذه الحرية جريمة في زمن إمتهان القيم زمن البربريـة وإنتهاك الأخلاق، كما تريد أن تنتهكه عجلات ذاك القطار الفولاذي، فهـو ليس رأسمالياً معاصراً بإسم الإنتاج يقتل الطبيعة بفضلاته السامة .فهـو لم يعتقل طيراً لجمال صوته أو لروعة ريشه، لم يقتلع شجرة، ولم يحتجز فراشة، ولم يسرق حبقاً يتيماً كانت الطبيعة بالنسبة إليه المكــان الذي يقرع في أذاننـا كذكرى للقاء، ووجوه، وناس لذلك كان يخرج دائمـاً صباحات جميلة، يفرك النعناع البري براحتيه، يداعب النهر بحجارتـه الصغيـرة، يقف على أول مرتفع ويملأ بنفس عميق، كانت تلك كلها مجـرد تحيته اليومية للطبيعة الجميلة، لأنها ذكرى وطن حزين ضائع ومغدور حتـى في تاريخه .
لا يحق لأحد أن يكسر هذا الود، أو يسمي التحية إغتصابـاً !! ويغتال الصباح الجميل الذي يقطع في سبيله المسـافـات . لعبة قاتلـة تلك تريد تهشيمه وسحله بدم بارد سحل جسده وتقطيع أوصاله .
كلبة تسحل على شارع فسيح بعجلات شاحنة، ترتمي على الرصيـف، يختلط دمها بلون العجلات والأسفلت، كما يختلط النفط بالدم ! ورأسهـا ينكسر فينشق الجلد والوبر والدم ويدخل الضلع والصدر والرقبة ... لكن المشهد لم ينته ؟! ضرب كفيه بجبهته ... كان خلف الكلبـة جراء صغيـرة ... مضـت تبحث عن أمها التي أسبلت يديها ورفعت ساقيها وبقيت أثداؤها مرتفعة نحــو السماء، تمتص الحياة من أمها الميتة، كما تمتص الشجرة نسغ الحياة من التربة، أنه القتل العبثي لا تضبطه قوانين بل تشرعه هنا في شرق اوسطنا " الجميل " وعالمنا " الجديد جداً " . كما تشـرع خنق الحرية وحبس الأنفاس وأفساد الفكـرة وتفريغ الأحزاب وتقزيم الأحلام .
كانت تشق الطريق، العجلات لم تتوقف فترتطم بالرأس، كانت الجراء الصـغيرة لم تتعرف على شكل الموت فبقيت تقاومه بقوة الغريزة النابعة من الصدر المعتمر بآخر شهقات الحياة، كانت تغتصب الموت في صدر أمها لتستمر ليـس إلا، ودنه فهو ذاك التمرد اللاورائي يرفض منطق الطبيعة نحو خلود اللانهائيـات ويؤسس للبداية...
أراد تكسير القطار وتحطيم عجلاته القاتلة ولكن هل سيوقف بذلك الرحيل .. ويقفل الطرقات، وينتهي المسير ! وربما المكان ! تماماً كمـا أن تحطيم عقارب الساعة لا يلغي ولن يوقف الزمن، أن تطفأ روحه وما تكتنز هـي شيء مختلف عن دوس لحمة فوق شارع، أو فوق مخيم وأن يختلط أعضاء بأجـزاء أو أن يأكل جسده الدود، لأنه إذا ما حطمت روحه فأنه ما زال يمسك بعجلة أكثر قوة أسمها المستقبل .
لقد ولد بحق من موت كلبة عابرة ، كسرت فيه قفل العمر لتفتح بوابة جديدة تنطلق منها أحزمة مشعة من أسئلة متمردة ومخيفة، إخترقت خلايـا الدماغ، ودائرة الإنغلاق فحررته من هاجس الموت اليومي إلى بناء إنسانـي في كينونة جديدة هي ولادة، ومن ذلك الضلع المسحول فوق الشارع .
بقلم : مروان عبد العال أول نص أدبي منشور في : 01/08/1993
تعليقات
إرسال تعليق