لم تأت الآن زائرًا على صهوة السياسة



                        بقلم : محمد سرور*

 مساء الخير، مساء الإبداع والأدب، مُعطّرين بنسائمِ فلسطينَ . أن تكونَ فلسطين ملهمَةَ الكاتبِ وجغرافيا معانيهِ ومقاصدِه، فذلك يمنحُ أمثالي وسامَ فخارٍ تقلّدني إياهُ ثنائيةُ المقام ووجوهِه الطيبة. كأني أتّحدثُ من على منبرٍ تفوحُ من ملامحهِ حكايةُ عصرِنا المدمّاة.
لذلك، خاطبتني الطريقُ، قائلةً:
رويدَك، للمستحيل غوايتُه، وعنانُ أنفاسِك طريّ على أنيابِ الغبار. اعتمرْهُ كوفيّةَ النار الآن، تدثّرْ جمرَ الخفق، وتحاشى إن استطعتَ شهقة مُرّة تختلسُ نبرة الجليلِ في صوتِك.
قالت الطريقُ لي: حذارِ من لهيبٍ يتأنّقُ الحداءَ في حِدقِ المتوجعين... حذارِ من شبهة الوصول إلى ناصيةِ المجدِ... فالتغريبة لم تزلْ تنقشُ الملحَ على مرايا المدامع.
م تأت الآن زائرًا على صهوة السياسة مع أنّك قطفتَ أضاميمَ صفاتِ المناضلين، فأضفتَ لمشهد الحبرِ مسرىً من حكاياتٍ نزفتْها أيامُك في معارجِ تدفّقِها.
تيت اليوم، أيها المناضلُ، الأخ، الرفيقُ بأدواتِ النحتِ المقدسة. أزاميلك ومطارقُك ريشة ترسمُ الروحَ ليثبَ المشهدُ من إطارهِ الصدئ، وقلمٌ من نبيذِ الكرمةِ تعتّقَ وجدانه فأريقَ على جسد الطلول ندىً، يباغتُ الوزّالَ في أمسياتهه، يعانقُ الصدى المترنحَ بين خصورِ الهضاب.
كأنّي بك الآن هناك، بين أنيابِ الرعبِ والخطى، حين أسدلَ الظلامُ على الدربِ أنيابَ توحُّشهِ، فنضبَ الماء من حنجرة الناي، وبدأ الرحيلُ بجنازةٍ تليقُ بملاك.
كأني أراك، فتى هائمًا في جهاتِ الحيرةِ تبحث عن ملامحَ تليقُ بقماشةٍ بيضاء، لم يحضرْكَ إلى الآن لونُها القمحيّ وعيناها الخضراوان، كأنّكَ تصرُّ على لوحةٍ تختصرُ جمالَ وانفعالَ ونزفَ ومشيَ وغضبَ وفرحَ وثورةَ الكونِ الفلسطيني، تريدُ جفراءَ الكاملة، جفراءَ القامةِ الآتيةِ من رحم الهبوب.
شظايا كثيرة رأيتُها تتعمّدُ السكنى تحت جلدِك المثخن، فتىً كنت أم رجلاً، لم تزلْ تشهدُ غفوةَ الطين على جسدِ الغريب... تحاكي نجيعَ جراحٍ يتناثرُ بلغاتِ الرصاص والمخالبِ.
لم تزلْ تحنّ إلى بيت المخيم المتواضع، والأزقة التي تودِّعُ الموتى السائرين في جنازاتهم، البيتَ والمخيم  اللذين طحنتهُما ظلاميّة الشيخ الأعمى، والروح الغريبة، وإثم قاتل الحوريَّةِ الفلسطينية حين أخطأتْ رسالتُها قلبَ حبيبٍ طالما أدّى لها طقوسَ عاشق وثني، لكنكَ لم تخفِ غربتَكَ التي تزيِّنها لهجةُ الغريب، لم تزلْ تتحاشى غوايةَ المكان، حيث التأهُّبُ للرحيلِ، واليدُ ورغمَ ارتعاشِها تمسكُ ناقوسَ سفرٍ آخر.
لم تشبعِ الأسئلةُ في داخلِك صديقي، ولن تشبع، لأن أحجيةَ الحلمِ تصرُّ على النوم في سريرِ عينيك. ألست بخفّةِ الريش، واحدًا من شعبِ الخفيف الطائر؟
وأنت المقيّدُ بأغلال الضياع، أما زلت مشتاقًا لمفاتيح الفجر؟ سؤالك عن الوطن له وجعُ الطعنةِ إيفان، الوطنُ الذي تمشي على دروبهِ حافي القدمين، تمرّغُ وجه شوارعهِ بأطيافِ ضحكاتك، لا تتسع لحريتهِ دائرةُ المحرّمات والممنوع، لا يُباع ولا يُشرى، وطنٌ يقين، كالمفتاحِ المتدلي في عنق أمِّك، كأنك تصرُّ على معادلة تتساوى فيها البطولة مع الأبطال.
يا الأسمرُ المسبوكُ من ملامح الطين، الجرح، الملح. فيك الحيرةُ تهجّي هذيَ الخطى، تكفُّ عين الفجاءةِ عن وحشةِ الدرب. مثقلٌ أنت بحواسّ القلق كلّها، تتابعُ عشقَك الممسوسَ بفتنةِ التعب، فلأنفاسِك أريجُ  أسفارٍ توهّمتْ تطهيرَ الغبشِ من المطارح.
مفارقةٌ أنت أيّها المثلثُ الإبداعي، من صلبِ القضيةِ أتيت، كاللهيبِ من النار، لذلك لم تخنْك فطنةُ التخاطرِ بين رائحةِ القدمين والفدائي، ولا معصيةُ الحرّيةِ غادرتْ وجدانَك لحظة.
الصديقُ العزيز مروان، الحضور الكريم:
طابَ للبعض تشبيهَ نتاج كاتبِنا مروان عبد العال بأسلوب الشهيد غسّان كنفاني ونتاجهِ، وهو أمر يفرح طبعًا، لأن الشهيد كنفاني قامة إبداعٍ في ليل القضيّة وشعبها، هو شعلة في ضمائر الأحرار، ومع أن الأسلوبَ ليس احتكارًا ولا امتيازًا لأحد، وعلى الرغم من التقاء الثنائي الرائع غسّان ومروان كملتزمين للقضيّة الواحدة والجبهةِ الواحدة، وانطلاقِهما من الريشةِ فالقلم، إلا أن لغة الكتابة اليوم، والذاكرةَ التي أنتجتها قد تطوَّرا كثيراً، ومعهما تقنيّةُ النص أيًا كان نوعُه ولونُه، إضافة إلى الفارق الطبيعي بين عنصرين وكيانين إنسانيين.
في التشبيه بعض إسقاط هناك محبَّبٍ أؤكدُ على جماليتِه هما روحان جميلتان في جسد القضيَّة.

الملاحظة الأجملُ هنا تكمنُ في غنى القضيةِ وشعبِها بالقاماتِ العاليةِ وعلى مختلفِ جبهاتِ النتاج والإبداع. وإذ نحيّي الاستاذ مروان الحاضرُ بيننا كونَه أضافَ بلمساتهِ الأنيقةِ الراقية جرعةَ ضميرِ ووخزةَ دفءٍ لذاكرةٍ نريدُها أن تستمرَّ كماءِ الروح في نهر الأزل، بحرفيّةِ الأديبِ القابض على أسفار اللغة وتضاريس جمالها أيقظ كاتبُنا جمرَ المواجع في رمادِ الصمت، فأصابَ نحرَ النسيان بسهم الحنين الأبدي.
نحييك، ونفتخرُ بحضورك بيننا، مناضلاً وفناناً تشكيليًا، وكاتباً وروائياً. يطيبُ لنا خبزَ حرفِك وكلماتِك، نتلذّذُ بطعمِها، نُستفزّ بوهلةِ صورِها وحكاياتِها، فيصيبُنا جوعٌ طاغٍ في متابعتِك والسفرِ إلى عالمِك المقتبس من حدائق التجربة ونوارس الخيال.

أنتَ الآن صديقي مع ما أنتجتهُ إبداعك، لوحاتُك ورواياتُك الخمسُ، أدخلوكَ منتسباً أصيلاً إلى روضةِ الكبارِ من بُناةِ المنارةِ الثقافية الفلسطينية العالية... فهنيئاً لنا بك.

*إلقيت في الأمسية الثقافية التي قدمها الروائي والكاتب مروان عبدالعال في جمعية التضامن الثقافية في صور وذلك يوم السبت في الثالث عشر من شهر نيسان التي دعت إليها منظمة المعلمين الفلسطينيين وجمعية التضامن الثقافية من أجل الذين يعتلون قمة الحلم رغم كل شيء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء