عن الإيحاء الإيجابي في "ذهبت مع الخريف


            بعد التحية للحضور الكريم،  رفاق الحلم والهم والقلم،  للجهة الداعية منظمة الشبيبة الفلسطينية وفي (دار الندوة ) خيمة ثقافية عريقة وتحية لمن كان سبب اللقاء الذي اجتمعنا حوله نستظل الوطن والكلمة وخيمة المنفى هذه المرة القاص فايز رشيد. وبمناسبة إطلاق اضمومته القصصية  الجديدة  "ذهبت مع الخريف" .

            ما قيمة كل نص أدبي رفيع  إن كان لا ينبض بقوة الإيحاء؟  لأن ندرة النوع الادبي تكمن في وجود الاسلوب الاجمل للافصاح عن النفس، والسرد عموما  مثل كيمياء الحياة، لديه المحرك المكثف للقراءة الإيحائية. لان قوة الايحاء في قصص فايز رشيد  حفزتني لرصد حركتها اكثر وقراءاتها ليس من باب النقد الذي لا ادعيه. وجود هذه الحركة بتموجاتها وانسيابها  تكشف حجم الخزين الذي يتكىء عليه القاص من واقع غني وتجربة ثرية ومآثر اجتماعية  فريدة في تنوعها،  لذلك اعطى للسرد ايقاعه الخاص ونسيجة الفني وتعابيره الراقية وحبكته الحكائية، في عملية تصالح  بين الفكر والحلم  التي أسماها (غاستون باشلار)  " كيمياء حلم اليقظة ".  لذا فالأيحاء الإيجابي هو الايعاز الخفي الذي يترك في النفس، القيمة  المضافة، دون تلقيم أو أمرٍ أو تقريرٍ مسبق من الكاتب. والذي تجلى في الامثلة التالية:

          * التناص الايحائي، حين يضعنا امام مقاربة  فلسفية بين "سأم"  الروائي (البرتو مورافيا) الذي وصفه بالكلمات التالية "أن الشعورَ بالسأم يبعثُ فيَّ الشعور بعدمِ جدوى واقعٍ ناقص، أي عاجزٍ عن إقناعي بوجودهِ الفعلي" .

 وسأم  القاص (فايز رشيد )عن كمال الذي شرب ترياق اطالة العمر. الذي بلغ العشرين بعد المائة، ومن شدة السأم صار يتوسل ان يعطيه ما يبطل مفعول الترياق، وهدده بأنه سيقدم على الانتحار ان لم يتم له ذلك .

"فقد تعب من الحياة كثيرا ولعن اليوم الذي تناول فيه ترياق اطالة العمر، وكان يتمنى لو انه بقى عمر جديد وبلا عمر من الاساس" .

          *الايحاء الجمعي،  حين تدرك ان النص هو سيرة جماعية  حتى لو كتب بصيغة الفرد، الحقيقة  تقول انه لا يوجد انسان حر التفكير، هذا مجرد وهم، المجتمع الخاص يجعل من كل فرد يترك بصماته في العقل الباطني  للقاص، ويضع الاطار الشعوري  للكاتب، في هذة اللحظة الايحائية الكلية، هو لا يكتب عن نفسه او لنفسه، بل يكتب عنا جميعا. في قصص ثلاث "الصدمة" و"سوء تقدير" و"خطأ في العنوان"، كانها قصص حصلت مع كل واحد منا .. مثل خطأ في العنوان حين يدخل مكان الفرح ويقدم التعزية، يكتب  في القصة  "عض صفوت على شفتيه، وشعر باحراج كبير، فهو بدلا من المباركة، قدم التعازي الحارة، والغريب ان احدا لم ينتبه الى خطئه الذي يفسر بأنه مقصود  من اجل اهداف سياسية ."

          *ايحاء البطل، في ايجاز الشخصية بعالمها الشامل والمكثف والمنتقى بعناية وحرفة، تمتد الصورة التي يرسمها في تآلفها مع عالم الواقع وقوة المخيلة، البطل كنتاج لتفاعل عناصر المجال المكاني والزماني والانساني، والكاتب في صناعة الشخصية  المزيج  لكتابة الاشياء العادية بطرق غير عادية. بتحول الايحاء الادبي كمعنى عميق في الشخصية البسيطة السهلة .

          كما في شخصية  "مليكة " كم احببنا هذا النموذح الانساني الجميل، الركن المهم في البيت، احسن فيه الكاتب بممارسة الايحاء الناقد لتلك النظرة التمييزية للخدامات، الايحاء من خلفية في ان تكون جنسيتها سريلانكية وليس مهنتها أو ماهيتها، إنها انسانة من لحم ودم وحلم ومعنى وقيمة وأسم. جعلنا القاص ننحاز لها، لأسرتها الفقيرة في قريتها الوادعة قرب العاصمة  "كولومبو"، حيث يسير الاطفال حفاة على طرق ترابية. كائن يتنفس ويتعلم  ويتألم ويحب وينكسر. وعندما عادت الى بلدها كتب يصف انفعالاتها: "الا ان خيوطا من الحنين ظلت ممدودة بينهما وبين العائلة. وعندما سافرت الفتاة التي دربتها نهائيا الى اهلها، اظهرت مليكة رغبة في الرجوع الى العائلة من جديد."

         *الايحاء اللغوي، بتحوير المفردات واالدلالات والاستعارة، "أول خطوة قام بعد وصوله مباشرة كانت شراؤه خطا محليا لهاتفه النقال . وما إن وضع امتعته في الشقة التي استأجرها مسبقا من خلال الصديق، حتى قام بطلبها على الهاتف، كان ينتظر أن يسمع صرختها فرحا بقدومه. أراد مداعتبها من خلال انتحال شخصية اخرى، قلبه يسبق أصابعه في ضرب الرقم .. بدلا من كل ذلك، سمع جوابا آليا مسجلا يطلب منه التأكد من صحة الرقم  الذي طلبه." هكذا ذهبت مع الخريف... لقد ضاعت منه للأبد . هل لأنه في زمن الخريف ام لان ضرب الرقم الخطأ؟

       في زمن وأد الكلمات والثورات والاوطان، زمن الاختلاط  المشوش بين الحرية كمبعث للابداع، وزمن الجهل عن سابق اصرار وترصد، ترتقي الجاهلية بثوب جديد وتصير قابلة قانونية  للعدمية، ذهبت أشياء كثيرة مع الخريف، بابتكار القتل وبقوة الفكرة الخطأ، بالوهم القاتل، برسوخ التخلف، بابداع الفتنة، باستجداء السياسة ، كلها اسباب حتمية للذهاب مع الخريف. ليدلنا احد كيف يمكن ان يولد الربيع من التصّحر الانساني والروحي والفكري، وكيف تتفتح الزهور عن طريق تجفيف الينابيع  والضروع .

       توقيت هذه  المجموعة الرائعة هي اعلان صريح  كي نزرع زهرة حرية  في أرض المذبحة، نزرع ألامل في موضع الألم، هكذا، لا يمكن تفسيرها كعملية تحايل فني على السياسة، بل القدرة على التوليف الابداعي بين  ثنائية الواقع  المر والحلم الجميل. ان العبقرية أن تعرف كيف تمسك القلم  بين القذيفة والقذيفة، وتعبر بالكلمات بين الجثة والجثة، وتقبض على روح المقاومة بين وهم بلبوس سلطتين. أعرف انك  لا تريدنا ان نؤجل الغضب؟ بل في ان نكتبه لنحتويه ثم نقطعه؟ عندما انفجرت ككاتب سياسي وحين نزّفت في "انتظار سعاد "كروائي انطلقت قاصا ولكنك لم تودع الليلك،  لتؤكد انك تجيد رقصة الفرح العنيد على رؤوس الاشهاد، حتى لا ينتصر الخريف في اعماقنا، لأن التعب عندك لا أرض له، واليأس كذلك لا راية  له. هنيئا لك والى المزيد .

  

كلمة الرفيق مروان عبد العال قراءة لكتاب الدكتور فايز رشيد "ذهبت مع الخريف"، قصص قصيرة في دار الندوة/ الحمرا/ بيروت/ في 30/4/2013 .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء