رواية السندباد الفلسطيني

                                                                                                          بقلم : صقر ابو فخر


رواية «زهرة الطين» لمروان عبد العال (بيروت: دار الفارابي، 2006) هي رواية المكان ورواية المخيم ورواية البطل الاغريقي ورواية الموت معاً.
فهي سيرة «طين» الذي شغف بالفدائيين وبالمجدلية التي كان اسمها يتردد على لسانه في اثناء غيبوبته، وسيرة «نرجس» التي ايقظته من هذه الغيبوبة على الشاطئ الليبي. وهي سيرة «عيسى» الذي جاء الى طرابلس في زمن السفربرلك. وهناك، عند قرية الريحانية، التقى صبية جميلة اسمها «ريما» التي ما إن سقته الماء حتى احبها. وبعد النكبة في سنة 1948 لجأ الى النهر البارد قسراً، وهناك راح يبحث عن «ريما» فلم يجدها. وعندما ناهز الثمانين وماتت زوجته التقاها... وحيدة بعد موت زوجها. وسال بينهما فيض من الذكريات والمشاعر، فتزوجها، لكنه مات بعد شهور، ثم لحقته بعد أسابيع.

وهي سيرة خالته التي ماتت صغيرة على طريق «رميش» جراء العطش في رحيلهم القسري عن فلسطين. نعم، ماتت خالته بعدما عجز أبوها عن تأمين الماء لها من الاهالي الذين طلبوا ليرة فلسطينية ثمنا لقليل من الماء. وهي سيرة «وحيد» الذي ماتت أمه في حرب ,1967 ومات اخوته الاربعة، ونجا مع والده، فتشردا في الضفة الشرقية، وقد اقسم بأن يصبح نوريا لانه لا يريد ان يكون عربيا، والتحق بجماعة من النور. لكن أقداره قادته الى احد المخيمات في لبنان، وهناك التحق بالفدائيين ومات بينهم. وهي سيرة حكيم الذي بدأ حياته رساما وانتهى سلفيا يرفض التصوير. وهي سيرة سعدون العراقي الذي فر من بلاده ليعيش في حي الصفصاف في مخيم عين الحلوة بعدما اكتشف ان الاحتلال اقسى من الاستبداد، ثم ذهب الى حتفه بين أمواج البحر المتوسط. وهي سيرة «أبو علي» الذي كان يتسلل من خلف النهر الى قريته عرابة ليرى والدته التي اقام الاحتلال بينهما أسواراً وخنادق. وحينما عاد الى مكانه الاول، في ما بعد، شقت ثلاثة صواريخ نافذته ومات. وهي سيرة الفتى الذي وُلد على حصيرة قش وتحت ألواح «الزينكو»، وماتت خالته الصغيرة عطشا في قرية رميش، وسيرة أمه التي ظلت ذكرى ذلك الموت تقتلها في كل يوم. انها قصة المخيم وخليط الماء والتبن والطين الذي يكوَّم فوق السقوف كي لا تطير في الريح.
لكن الموت في هذه الرواية ليس الفناء، بل هو علامة على طريق طويل بحثا عن المكان. اي ان الموت في رواية مروان عبد العال مرصود للحياة وللتراب معاً. ولعل هذا ما أراده الراوي من اختياره «زهرة الطين» عنوانا لروايته. وزهرة الطين هي زهرة البابونج التي تتفتح مع انهمار الامطار الربيعية على تراب السقوف في المنازل القديمة. والرمز هنا يشير الى اعتناق التراب للماء (الطين) في قصة حب تبشر بالحياة لا بالموت.
الواقعي والمتخيل
ثمة خطان في هذه الرواية: الواقعي البسيط، والمتخيل الذي يلامس حدود الفنتازيا، مثل قصة سيف الفلسطيني الذي يهاجر بحثا عن حب ووطن وعن «مادولينا» الايطالية التي كان يناديها «المجدلية». فيسافر الى ايطاليا على ظهر سفينة فيها أكراد وعراقيون لا يجيدون السباحة. وفي البحر المتلاطم ضل البحار طريقه، وتاه في أعالي الموج. وعندما ظهرت اليابسة توهموا انهم صاروا عند الشاطئ الايطالي، وتهلل الجميع فرحاً، وتدافعوا نحو البر بالقوارب الصغيرة. وحدث أن اصطدم، في الليل الحالك، قارب سيف بقارب آخر وسقط الجميع في الماء. ونجا سيف ليكتشف، لاحقا، ان الامواج قذفته الى البر الليبي لا الايطالي كما اعتقد. وفي اثناء ذلك فقد ذاكرته ثم استعادها بعد تسعة اشهر، كأنه ولد من جديد. وهذه «الأخيولة» تعيدنا الى قصص السندباد البحري الجميلة ومغامراته السحرية في بحار العالم وجزائره. وسيف الذي انتزع من تراب وطنه، اي من الطين، وجد نفسه في مخيم في الصحراء، اي من مخيم في لبنان الى مخيم في المغرب. لذلك يقول صاحب الرواية انه «انتهى الى بدايته».
أما الواقعية فتتجسد في الامكنة وفي الوقائع: قرية بلد الشيخ والمخيم وحكاية الغرام المكتوم بين نرجس و«طين»، علاوة على قصة الحب التي جمعت سيف والمجدلية ذات الوجه الروماني والقلب الكنعاني. غير ان هذه الحكاية تبدو شديدة الواقعية حتى البرودة، فلم تعبث بها مزوِّقات الخيال، بل ظهرت هادئة بلا توتر او اضطرام او قلق. ومع ان فلسطين تقع على البحر، إلا ان أدب البحر ظل استثناء في الأدب الفلسطيني. وحتى في هذه الرواية، بقي التعمد بماء اللجج واملاح الموج ومقارعة الأنواء غائبين. وهذه الرواية هي رواية البر، اي رواية المخيم حتى لو كان هذا المخيم واقعا على شاطئ البحر. وعلاقات الحب في هذه الرواية تكاد تفتقر الى الاشتعال وتبدو مقتصدة في المشاعر وغير مفعمة بالعواطف الهادرة وغير متقدة بالانفعال والجموح.
الحياة والموت
فلسطين حالة خاصة في الأدب والفن. لنلاحظ ان فلسطين انفردت عن بقية البلدان العربية بميزة تكاد تكون شاملة، وهي ان مدنها لم يكن لها شأن كبير في الثقافة العربية، فلم تبرز فيها مدينة قامت بدور دمشق او بغداد او القاهرة او القيروان او قرطبة في التاريخ الوسيط. فقد كان الناس يأتون الى فلسطين للتعبد ولمجاورة مقدساتها. وكان أهل فلسطين يذهبون الى دمشق وبغداد والقاهرة للعلم او للتجارة، فمال ميزان العلوم والثقافة الى عواصم الشام والعراق ومصر، ومال ميزان القداسة الى فلسطين ومدنها. لنلاحظ ايضا ان فلسطين التي اطلقت في فضاء الثقافة العربية اعلاما كبارا امثال محمود درويش وتوفيق صايغ (في الشعر)، واميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا وغسان كنفاني (في الرواية)، وبول غيراغوسيان وجوليانا سيرافيم وناجي العلي ومصطفى الحلاج (في الفن التشكيلي)، وادوارد سعيد ووليد الخالدي وهشام شرابي (في الفكر والتاريخ)، وغيرهم الكثير بالطبع، لم تتمكن من اطلاق مطربين لامعين، ولا موسيقيين باهرين، ولا مسرحيين ذوي أثر، ولا حتى ممثلين او راقصين ذوي شأن. لكن، لنتذكر ما هو اشد إيلاما: ان المجتمع الفلسطيني نزف بقوة بعد سنة ,1982 ونكاد لا نعثر على شاعر جيد بين الفلسطينيين في لبنان، ونكاد لا نجد بينهم مثّالا مهما او مطربا مميزا.
مروان عبد العال يعاند هذه النتيجة ويعاكسها الى حد بعيد، ويصّر على الكتابة والرسم والنضال السياسي معا. ولا اغامر بالقول إن الرواية والرسم عنصران يرتعشان بالحياة، بينما الجري السياسي في المخيمات فقدَ ألقه منذ زمن بعيد، وذوى حتى كاد يقترب من الموت. وانني لأعجب حقا كيف يتمكن مروان عبد العال من الجمع بين الحياة والموت. هذا ما فعله في روايته «زهرة الطين». 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر