خلف خط العشق الوهمي...
شجار الفستق الحلبي تضفي على السهول الممتدة حتى البحيرة، ألوانا بنفسجية، تتماوج مع غروب الشمس خلف سلسلة الجبال التي تغطّي رؤوسها بشال ناصع البياض. هناك رُواق في عقله الباطني يفضي إلى معبد يشتعل كنار الأبدية. يجوب البساتين، يحمل منظاراً عسكرياً ينظر منه إلى خارج المكان وداخل نفسه. ثمّة أجزاء منه تستشعر قدوم الطريدة، ربما هدف متوقّع. لكن أن تطارده الأفكار في ساحات المعارك، وذكرى قديمة يَخالها أيضاً تلهج به وتتلهّف لملاقاته. إمبرطورية شيرديل، حدودها غرفة مموّهة تحت ظلال أشجار كثيفة، يمارس فيها الحياة التي يريد، فـتصير وطناً يسكن في قاع نفسه.
بين الدوريّة والأخرى كان يراوغ نفسه بإلحاح. عليها بالعودة لكن لا يريد “شيرديل” عودة للوراء، بل عودة مختلفة، عودة نحو الغد الآتي. “بتير” حدثته بشغف عن زيارة إلى “يافا” كأنّها المرة الأولى التي فهمت علاقتها بالوطن، معنى أن تفتقده بإرادتك، غير أن تفقده رغماً عنك، أي أن تشعر بمتعة النصر، إنّك قد عدت ثانية وإنّك أنت الزمن المستمر الذي لم ينقرض، كم سنة وكم صمت أضاع “شيرديل”؟ هكذا حمل هويّة أناس يقاتل ويقتل وينفذ بجلده معهم، وأحياناً ينسى أنّه من “كوت عبد الله” ويخضع معهم إلى عملية فحص دقيق لهويّته ولهجته ولعلاقته بالمكان وغربته حتى عن خلايا الزمن.
خطرت بباله “بتير” تلك الكنعانية التي تشبه صباحاً مُمرّغاً برائحة الخبيزة، وجدها رقيقة وتشبه أُمَّا رؤوماً، في حرجها ينام المساء. في كل مرة يوشوشه زميل، أنّه وجد له عروسا مناسبة، وآخر يشي له بعاملة الإشارة في قسم الأفراد، “سرجون” كان أحياناً يتودّد له متمنياً اليوم الذي يأتي لإتمام الفرحة، لقد حزن كثيراً عندما وجد “البُحتُري” يجرّب إقناعه بما لم يقتنع به هو، بضرورة أن يُقدِم على الزواج من زهرة وحتى الجنرال “سرجون” كان يمتنع عن التعليق على الأمر. عندما فشل ذهب لإقناع الكابتن “أبو حرب” الذي لم يكن بوارد الزواج بتاتاً، فقد أصبح رأسه في مكان آخر. وقد أشار “أبو حرب” للبُحتُري وهو مقطّب الجبين، أنّ الزواج مؤسسة فاشلة، قائلا “يلعن من اخترعها، إنّها ليست سوى ملهاة “ثم ابتسم مواسياً نفسه: إنَّ “هذه مهمّة ليست لي”.
فات مساء حانت ساعة السنونو، أسراب الغروب الخريفي، طيور فرِحة كأنّها في حالة احتفال قد فاتها أن تتنفس قِسطها من الهواء، أو تمرّدت على أعشاشها لتكتب ما تشاء من دوائر.
عشقها اللامتناهية. ربّما! هي أمر نسبي ولكنّها طيور المساء التي تشبهه تماماً، عندما يمارس أحلامه المكبّلة في إمبراطورية الهواء الطلق.
سراب أُنثى كانت هنا، تحمل على كتفها بندقية وتقتحم الموت، تحضر برنين صوت أُم عسكر: أنا كنعانية محرّرة من أي لقب. صباحك حدائق من جنّة الروح. أخجلتني كلماتك، فانْحَنَت لها سجايا القلب، كي تُقبِّل تراباً تحبو عليه حروفك الأبجدية.
تُدهشهُ أُنثى الصلاة خلف خط العشق الوهمي. أخبره “شتاير” أنّه سيجلب له رسالة بريدية وصلت إلى المكتب، كان ينتظر عودته، ليلامس الحروف المرسلة إليه. كان ذِهنه يدور بين احتمالات وتخمينات، هل هي من أُم عسكر، أو من صديق. أو من رفيقه في الدراسة وفي الدرب والحرب.
تعليقات
إرسال تعليق