شيرديل الثاني ... اليوم في معرض الكتاب - البيال
مع معرض الكتاب العربي الدولي الدورة الـ57، تستضيف مخيمات الكاتب الفلسطيني ابن مخيم البارد مروان عبد العال، وتنشر، مستبقة توقيع كتابه الليلة، بعض فصل من روايته الجديدة «شيرديل الثاني»*
ذاكرة مهملة تستلقي على سرير بالغ الترتيب والنظافة في غرفة جميلة. في زاويتها مكتبة صغيرة، صورة مظفّر وأَمير ورِضا على الجدار. وحين يدخل كوزو، «نبيل»، يجرّ ما تبقى من جسده ويتبادل معه الابتسامة. يؤنّبه لشراهتِهِ في التدخين. صار يعدّ له أعقاب السجائر. شيء يوحي بأنّ الغرفة كان يقطنها ضابط في الجيش في فرقة عالية التنظيم والتأهيل والجاهزية. غرفة ومكتبة ومكتب ومكان لطبخ ألذ الأطباق التي تغزو برائحة توابلها مساحة المخيّم. لا ينظر إلى الأعلى، لأنّه لا يحب تشابُه المباني. ويتوقّف تلقائياً عند مفارق الطرق، كأنّه يستغرق في لون بلاطات الرصيف ودرجة الإضاءة. كان يكره النمطيّة في الغرب، يحبّ الضوء في وجوه النساء.
أجمل الأوقات هي الساعات التي تسبق الفجر قبل انبلاج الضوء. يعشق تعدد الأفكار وانسجامها ويملّ من التكرار. لطالما يردّد «من لا يستطيع التعبير عن وجهة نظره بدقائق لا يمكن أن يعبّر عنها بساعات». أوقفته دوريّة الشرطة قرب محطة البنزين. كان عائداً من جولة تسوّق يومي في «السوبر ماركت» المحاذية للمخيّم. وُضع في سيارة الجيب المتوقّفة عند طرف الشارع وأسرعت به مكبّلاً إلى أقرب ثكنة. سؤال عن هويّته. لم يبرزها. ادّعى أنّه نسيها في البيت، وأعطاهم رقم هاتف «البُحتُري» الفاقد البصر كي يجلبها له كما قال، لكنّه استعملها حيلة كي يعلم بأنّه قد جرى توقيفه. لم يدلّهم على «شتاير» المبتور الساق لأنّه أيضاً فاقد للأوراق الثبوتية.
لم تنجح وسائل التحقيق في معرفة ماضيه أو حقيقة هويّته، لكن عثر في جيبه على بطاقة عسكرية. عندها كثُرت اتصالات الضابط في أكثر من اتّجاه. عندما عرف أنّ الفضيحة بدأت بالتفاعل، فقد صرّح من السجن: سأستمر في إضرابي عن الطعام إلى حين تحقيق غايتي في طلب اللجوء السياسي. لكن الضابط جاء ليبلّغه أمر الإبعاد. قائلاً: هنا ليس بلد لجوء لا مؤقت ولا دائم. اختر بلداً لتلجأ إليه.
لم يحتمل «شتاير» عناوين نشرات الأخبار، صاح: «العمى صرنا بُعبُع !». ولم يصدق أنّ المتّهم هو صديقه الحميم، يمقت اللغة المسمومة بالقول: «تمّ إلقاء القبض على رجل بملامح آسيوية، يقيم بشكل غير شرعي على الأراضي اللبنانية».
ومنها كذلك من يصفه بالعميل السري «والرجل المجهول والصيد الثمين والصندوق الأسود» وهكذا دواليك.
بدأ شتاير باستخدام التقنيّات الفنيّة الأخرى لجهاز الكومبيوتر، من خلال شبكة الاتصالات والمعلوماتية والإعلامية، بدعوة الشباب إلى الاحتجاج، يرد فيها على التّهم الموجّهة للصاحب الجميل.
لقد تشاجر مراراً مع وكالات الأنباء وحملة الكاميرات التلفزيونية ومراسلات التلفزيون يستعرضن طلاقتهن اللغوية وفصاحتهن الكلامية في اختطاف السبق. جميعهم يحتشدون على مدخل المخيّم وينهالون على المكان من كل حدب وصوب، ولم يكن غريباً أنّ علاقات السيد سرجون ومعرفته بالمكان وصاحب العلاقة قد زوّد الجميع بما يلزم للاستقصاء عن هذه الشخصيّة الفريدة. والجميع يسأل بفضول لا ينقصه شيء إلا المهنيّة.
بصق بائع الصحف على الجرائد التي بين يديه وهو يطالع أخبارها الطازجة في أعين القرّاء عن حادثة اعتقال الهدف الدّسم والثمين الذي يعرفه خير معرفة. يقرّ للمرّة الأولى في حياته بأنّه يصاب بالقرف إلى هذا الحد. لم يعرف ماذا يفعل؟ ذهب هائماً على وجهه إلى محل الحلاقة القريب، لم تَفُته العبارة المدوّنة فوق بابه الزجاجي «يوجد عندنا دواء للثعلبة». نظر في المرآة نحو وجه الزبون الجالس على كرسي الحلاقة وسأله: متى شعرت في حياتك بالملل القاتل؟
الحياة كلها ملل.
قصدت الملل من الحياة.
يوم أخبرني والدي أنّ إغراء علبة السردين جعله هنا.
لم أفهم ما دخل علبة السردين بالملل.
علبة السردين هي التي تحدّد شكل الحياة.
كيف؟
المؤسسات الدولية المعنيّة بشؤون اللاجئين كانت توزّع عُلب السردين على سكّان الخيام.
تقصد عام 1948؟
بقيَ والدي يومها في القرية ينعم بخيرها الذي ما زال يذكر نِعمَها حتى الآن، ولكنّه غادرها من أجل علبة سردين.
لا تلُمْه، لقد كانت النكبة قاسية والاحتلال فظيعاً.
أرسلوا له يا أهبل «ماذا تفعل هناك؟ احمل نفسك والحقنا».
وخاف من الخسارة!؟
قالوا له لكل نفر عشر علب سردين ولا شيء بعدها يهم.
بصق بائع الصحف ثانيةً بصقة فارغة وخرج.
أين كان يعيش ومع من هذا الرجل الخطير؟ ولماذا هو في هذه البؤرة السفلى من المدينة؟ وماذا كانت مشاريعه المتوقّعة؟ ما كان ينوي فعله لو لم يُلْقَ القبض عليه؟ ارتعب الجيران لهذا الاهتمام النادر بشخص العم أبو سعد. حتى ذهب بعض البسطاء إلى القول: كل هذا يطلع منه؟ والله لم يكن حتى ظاهراً عليه، ويستأنف بالمثل الشعبي: «يا ما تحت السّواهي دواهي».
كان عليه أن يدلّهم إلى الجهة التي يرغب في نفيه إليها، حتى يتسنّى لهم ترتيب أمر إبعاده إليها. كان يهزأ من ديمقراطية السجن هذه. أن تسأل السجين عن رغبته.
أن تأخذ برأيهِ، أو تعطيه حق انتخاب عريف السجن، مهما كانت رتبة المنتخِب أو المنتخَب، والمنصب الذي سيشغله، فإنّه سيظل سجيناً، الأولى ألا يكون مظلوماً في وطن أو سجن أو مخيّم أو أي مكان كان. ما الفائدة إن كان للسجين رأي أو لا، إن لم ينل حريّته أولاً.
تذكّر ساعتها ديمقراطية الإعدام في بعض الولايات الأميركية. أن تسأل المحكوم بالموت أن يختار طريقة ووسيلة إعدامه، شنقاً أو رمياً بالرصاص؟ بالغاز أو بالكرسي الكهربائي؟ كان يهزأ من هذه الحالة التي هي صورة طبق الأصل عن الواقع خارج السجن كذلك. أن تختصر أهداف الثورة بالوصول إلى السلطة وليس الحريّة. ما الفرق بين القانون السائد في السجن والسائد خارجه؟ تماماً مثل لعبة «شتاير» الحربية الإلكترونية.
* من الرابعة والنصف حتى السابعة مساءً في جناح دار الفارابي
مروان عبد العال، كاتب وروائي وفنان تشكيلي ومناضل سياسي فلسطيني. ولد عام 1957 في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان. نشر العديد من النصوص الأدبية والمقالات السياسية والفكرية. أقام عدة معارض تشكيلية.
صدرت له أربع روايات: سفر أيوب، دار كنعان، دمشق، 2002. زهرة الطين، دار الفارابي، بيروت، 2006. حاسة هاربة، دار الفارابي، بيروت، 2008. جفرا، دار الفارابي، بيروت، 2010. و«شيرديل الثاني» عن دار الفارابي هذه السنة.
ذاكرة مهملة تستلقي على سرير بالغ الترتيب والنظافة في غرفة جميلة. في زاويتها مكتبة صغيرة، صورة مظفّر وأَمير ورِضا على الجدار. وحين يدخل كوزو، «نبيل»، يجرّ ما تبقى من جسده ويتبادل معه الابتسامة. يؤنّبه لشراهتِهِ في التدخين. صار يعدّ له أعقاب السجائر. شيء يوحي بأنّ الغرفة كان يقطنها ضابط في الجيش في فرقة عالية التنظيم والتأهيل والجاهزية. غرفة ومكتبة ومكتب ومكان لطبخ ألذ الأطباق التي تغزو برائحة توابلها مساحة المخيّم. لا ينظر إلى الأعلى، لأنّه لا يحب تشابُه المباني. ويتوقّف تلقائياً عند مفارق الطرق، كأنّه يستغرق في لون بلاطات الرصيف ودرجة الإضاءة. كان يكره النمطيّة في الغرب، يحبّ الضوء في وجوه النساء.
أجمل الأوقات هي الساعات التي تسبق الفجر قبل انبلاج الضوء. يعشق تعدد الأفكار وانسجامها ويملّ من التكرار. لطالما يردّد «من لا يستطيع التعبير عن وجهة نظره بدقائق لا يمكن أن يعبّر عنها بساعات». أوقفته دوريّة الشرطة قرب محطة البنزين. كان عائداً من جولة تسوّق يومي في «السوبر ماركت» المحاذية للمخيّم. وُضع في سيارة الجيب المتوقّفة عند طرف الشارع وأسرعت به مكبّلاً إلى أقرب ثكنة. سؤال عن هويّته. لم يبرزها. ادّعى أنّه نسيها في البيت، وأعطاهم رقم هاتف «البُحتُري» الفاقد البصر كي يجلبها له كما قال، لكنّه استعملها حيلة كي يعلم بأنّه قد جرى توقيفه. لم يدلّهم على «شتاير» المبتور الساق لأنّه أيضاً فاقد للأوراق الثبوتية.
لم تنجح وسائل التحقيق في معرفة ماضيه أو حقيقة هويّته، لكن عثر في جيبه على بطاقة عسكرية. عندها كثُرت اتصالات الضابط في أكثر من اتّجاه. عندما عرف أنّ الفضيحة بدأت بالتفاعل، فقد صرّح من السجن: سأستمر في إضرابي عن الطعام إلى حين تحقيق غايتي في طلب اللجوء السياسي. لكن الضابط جاء ليبلّغه أمر الإبعاد. قائلاً: هنا ليس بلد لجوء لا مؤقت ولا دائم. اختر بلداً لتلجأ إليه.
لم يحتمل «شتاير» عناوين نشرات الأخبار، صاح: «العمى صرنا بُعبُع !». ولم يصدق أنّ المتّهم هو صديقه الحميم، يمقت اللغة المسمومة بالقول: «تمّ إلقاء القبض على رجل بملامح آسيوية، يقيم بشكل غير شرعي على الأراضي اللبنانية».
ومنها كذلك من يصفه بالعميل السري «والرجل المجهول والصيد الثمين والصندوق الأسود» وهكذا دواليك.
بدأ شتاير باستخدام التقنيّات الفنيّة الأخرى لجهاز الكومبيوتر، من خلال شبكة الاتصالات والمعلوماتية والإعلامية، بدعوة الشباب إلى الاحتجاج، يرد فيها على التّهم الموجّهة للصاحب الجميل.
لقد تشاجر مراراً مع وكالات الأنباء وحملة الكاميرات التلفزيونية ومراسلات التلفزيون يستعرضن طلاقتهن اللغوية وفصاحتهن الكلامية في اختطاف السبق. جميعهم يحتشدون على مدخل المخيّم وينهالون على المكان من كل حدب وصوب، ولم يكن غريباً أنّ علاقات السيد سرجون ومعرفته بالمكان وصاحب العلاقة قد زوّد الجميع بما يلزم للاستقصاء عن هذه الشخصيّة الفريدة. والجميع يسأل بفضول لا ينقصه شيء إلا المهنيّة.
بصق بائع الصحف على الجرائد التي بين يديه وهو يطالع أخبارها الطازجة في أعين القرّاء عن حادثة اعتقال الهدف الدّسم والثمين الذي يعرفه خير معرفة. يقرّ للمرّة الأولى في حياته بأنّه يصاب بالقرف إلى هذا الحد. لم يعرف ماذا يفعل؟ ذهب هائماً على وجهه إلى محل الحلاقة القريب، لم تَفُته العبارة المدوّنة فوق بابه الزجاجي «يوجد عندنا دواء للثعلبة». نظر في المرآة نحو وجه الزبون الجالس على كرسي الحلاقة وسأله: متى شعرت في حياتك بالملل القاتل؟
الحياة كلها ملل.
قصدت الملل من الحياة.
يوم أخبرني والدي أنّ إغراء علبة السردين جعله هنا.
لم أفهم ما دخل علبة السردين بالملل.
علبة السردين هي التي تحدّد شكل الحياة.
كيف؟
المؤسسات الدولية المعنيّة بشؤون اللاجئين كانت توزّع عُلب السردين على سكّان الخيام.
تقصد عام 1948؟
بقيَ والدي يومها في القرية ينعم بخيرها الذي ما زال يذكر نِعمَها حتى الآن، ولكنّه غادرها من أجل علبة سردين.
لا تلُمْه، لقد كانت النكبة قاسية والاحتلال فظيعاً.
أرسلوا له يا أهبل «ماذا تفعل هناك؟ احمل نفسك والحقنا».
وخاف من الخسارة!؟
قالوا له لكل نفر عشر علب سردين ولا شيء بعدها يهم.
بصق بائع الصحف ثانيةً بصقة فارغة وخرج.
أين كان يعيش ومع من هذا الرجل الخطير؟ ولماذا هو في هذه البؤرة السفلى من المدينة؟ وماذا كانت مشاريعه المتوقّعة؟ ما كان ينوي فعله لو لم يُلْقَ القبض عليه؟ ارتعب الجيران لهذا الاهتمام النادر بشخص العم أبو سعد. حتى ذهب بعض البسطاء إلى القول: كل هذا يطلع منه؟ والله لم يكن حتى ظاهراً عليه، ويستأنف بالمثل الشعبي: «يا ما تحت السّواهي دواهي».
كان عليه أن يدلّهم إلى الجهة التي يرغب في نفيه إليها، حتى يتسنّى لهم ترتيب أمر إبعاده إليها. كان يهزأ من ديمقراطية السجن هذه. أن تسأل السجين عن رغبته.
أن تأخذ برأيهِ، أو تعطيه حق انتخاب عريف السجن، مهما كانت رتبة المنتخِب أو المنتخَب، والمنصب الذي سيشغله، فإنّه سيظل سجيناً، الأولى ألا يكون مظلوماً في وطن أو سجن أو مخيّم أو أي مكان كان. ما الفائدة إن كان للسجين رأي أو لا، إن لم ينل حريّته أولاً.
تذكّر ساعتها ديمقراطية الإعدام في بعض الولايات الأميركية. أن تسأل المحكوم بالموت أن يختار طريقة ووسيلة إعدامه، شنقاً أو رمياً بالرصاص؟ بالغاز أو بالكرسي الكهربائي؟ كان يهزأ من هذه الحالة التي هي صورة طبق الأصل عن الواقع خارج السجن كذلك. أن تختصر أهداف الثورة بالوصول إلى السلطة وليس الحريّة. ما الفرق بين القانون السائد في السجن والسائد خارجه؟ تماماً مثل لعبة «شتاير» الحربية الإلكترونية.
* من الرابعة والنصف حتى السابعة مساءً في جناح دار الفارابي
مروان عبد العال، كاتب وروائي وفنان تشكيلي ومناضل سياسي فلسطيني. ولد عام 1957 في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان. نشر العديد من النصوص الأدبية والمقالات السياسية والفكرية. أقام عدة معارض تشكيلية.
صدرت له أربع روايات: سفر أيوب، دار كنعان، دمشق، 2002. زهرة الطين، دار الفارابي، بيروت، 2006. حاسة هاربة، دار الفارابي، بيروت، 2008. جفرا، دار الفارابي، بيروت، 2010. و«شيرديل الثاني» عن دار الفارابي هذه السنة.
تعليقات
إرسال تعليق