ماركيز انتصر على بطريرك لا يحلم

 

مرارة الحروف لا تلغي إدمان طعمها المباح، فأحيانا من شدة حلاوتها تفقد روحها، فتبدو كأنها كلمات معسولة ومغسولة ومصنعة سلفا .
  سأكتب من دون مواربة، ذات يوم  لم أكن أستطيع أن أنطق اسمه كاملا بلا أخطاء، ونادرا ما نطقت اسمه الأول بشكل صحيح قبل أن تسقط في متاهة اللفظ البقية الباقية من الاسم اللغز. فهو يعتبر أنه يوازي بسماعه جملة موسيقية، ولكنها طويلة وصعبة. غابرييل غارسيا ماركيز، كنا نتعلم كيف ننطق ونحفظ ونستعير أحلامه الثورية، حتى تتحول إلى زادنا الوفير ضد الضجر، فكانت رواية "الجنرال في متاهته"، والروايات تتوالى رفيقة مؤنسة في سنوات الحرب،  تتنافس مع رائعة الأدب الروسي "الرعب والجرأة" و"كيف سقينا الفولاذ؟  " مع رائعة أميركا اللاتينية  "مائة عام من العزلة ".
 أمسيات  متزاحمة  في  نهايات حروب رتيبة و موحشة يوم صارت تختلف عن بداياتها . جيل ماركيز حمل حياته بيد ورموزه بيد أخرى  كرواية جديدة ، يستخدمها كدواء لتسكين وجع المدن الخائفة، وأزقة المخيمات المستنفرة إلى غابات أمريكا اللاتينية الشاقولية، و في نوبة الحراسة الليلة يظل مأخوذا بسمرة صبية خلاسية مكورة الصدر ورشيقة القوام، متماهيا في تفاصيل الحياة اليومية لفلاحي قرى القش النائية، عبورا  نحو أرصفة شوارع مهجورة، وإحياءً من مدن مجهولة، ويدخل خجولا في مقاهي الغانيات الحزينات، متوجسا من تلك النظم العسكرية وخرافات القبائل الهندية، و في زمن خريف البطريرك، وذاك الجنرال الذي لم يعد لديه من يكاتبه، لا سيما في موسم العسكرتيريا العنترية والاستعراضات الفارغة، وما بعدها الانتصارت الهزلية المدوية كانت أيقونته لذلك الزمن الموبوء تقول لنا : "لا تنخدعوا بعيون الطاغية المطبقة، فالديكتاتور لا يستطيع أن يحلم ." نحن جيل ماركيز الذي اختطفنا أدبه إلى عوالمه السحرية  وأحلامه الثورية، وأن يأخذنا إلى أعوام من العزلة المؤقتة  في واقع استثنائي و خرافي خارج دنيا الاستهلاك وأخلاقها وفسادها، بعيدا عن فهلوة السياسة الملوثة ودجلها الفضائحي، إلى مرحلة عاشت  بهدوء  متربعة على زمن ما قبلها، مرحلة معلقة بين الخيال والواقع.
فقد صافحنا أدباً  يتسلق المتاريس، وتصفحنا روايته في مكتبات المخيمات، و بيوت الصفيح  تفيض بعبق ذاك التراب والطين، ورائحة أسماك البحر، وبنكهة التوابل، وأغصان الاشجار في أدغال مجاهل الأمازون، الحلم الأسطوري يظل جميلا حتى لو كان غريقا، ولطالما لم يعثر عليه الديكتاتور، وأن أصدق كلمات العشق تلك التي  تستقر كذكرى في زوايا الصدر وتحت ظلال القلب الدافئة، لأنها جميلة إلى حد لا يمكن أن تمحى أو تموت، تظل مثل عجينة أصيلة ومزيج عجائبي من جنون وفنون، وخليط  متناقض من حياة وموت، وإنها الكلمة التي تحلق بجناحين، وتتنفس برئتين، وتتنهد شهيقا وزفيرا.
وضعتني  أمي  يوما  في علة الحيرة  بنصيحتها الدائمة :" كلمة بتجنن وكلمة بتحنن"  حينها انطلق الحس الدائري من مناجم اللغة كشعاع ذهبي كلما ازداد اتساعاً استغرق في حلم بلا حدود، يوتوبيا مضادة  كما قال عنها ماركيز نفسه. لقد كان  بمقدورها أن تنفجر كبركان من  خيال دائري  ينتشر ويزهو و يأبى التربيع أو التثليث، يرصد الصراع  بين يأس وأمل  في بوتقة من المجازفة والمخالفة،  قوة  الحلم هي المفتاح  الثوري العجيب  الذي يحمل في أحشائه حشرجة الوعي القادم من أجل فتح الأبواب المغلقة، ودحض الفكرة الغبية ومواجهة التقليد الأعمى. وماركيز الثوري، و السياسي، والأديب، والحالم، والعاشق لمن لا يعرف أنه صاحب مقولة " الثورة نفسها عمل ثقافي"، لأن ربيع الثقافة هو البداية الحقيقية  لخريف البطريرك، وبزوغ شمس الحرية في القارة الجنوبية فكانت تجربة أميركا اللاتينية مثال لكل مكان. لا يسود ربيع البطريرك إلا على حساب خريف الثقافة، حينها تتلاشى قيم الثورة، ويتبدد مستقبلها وتصير الأوسمة أثمن من الكتب، والمناصب والألقاب أعز من الأسماء، بل ما قيمة التحرر بلا ثقافة؟ وما قيمة الحرية  من دون رأسمالها الفكري ؟  كي لا يختفي عن الدنيا  ضوء الحرية ولا ينسد سبيل النجاة. تلك القبسات التي علمتنا كيف نخلع  الظلامية كمنهج، والظلام كنظام. ويسود كابوس الجهل والتخلف في روايته "اجمل رجل غريق في العالم "  كتب عن تحدي البقاء، الغريق الغريب والجميل الذي فتنت فيه نساء القرية، وتنافسن على غزل رجل قتيل ! يومها أدركت  تفاهة السلطوي  وامتهان السياسي، حين يتخذ من جثة أجمل قتيل منبرا للمديح، تصير الأسماء عندها فقط أوسمة على صدر الجنرال، والاستعارات الأدبية  والمقولات  الفكرية  للفلاسفة، وقوافي الشعراء هي لزوم زينة لخطابه السياسي وجمله "الثورية، ليكتشف أن المبدع  بعد أن ألقى القلم، وأعلن  وداع الحياة صار عظيما بامتياز،  لأنه ابن الزمن الجميل، والماضي الذي لا يتمناه أن يعود أبدا في كرنفالات تمجيد الميت الذي لم يعد منافسا له وهو على قيد الحياة، فيوم كان حيّا قتله لعنا وسجنا وعزلا، فلسان المثقف كان يكرر بلوعة ومرارة وحسرة مقولة " الجيد  فينا هو الميت"، لم ينطقها طاغية محتل بحق الشعب الذي تحت الاحتلال،  بل وجدنا الدكتاتور يتنقل في صفحات حياتنا، في  كل طاغية يمر في تفاصيلنا ، تتناقض بالأيديولوجيا، وتتوحد في حاشية واحدة متماسكة وصلبة، ومنضبطه، تبرع  بإسداء الأوامر العليا والفرمانات البيروقراطية والفتاوى الغيبية، على  كل من هم تحت سطوته، لا فرق في لونهم  ولغتهم وحجم كروشهم، جميعهم من طينة واحدة.
 اليوم وفقط اليوم، تمكن السلطان من التعرف إلى عظمة إبداعه، وما حققه من الحب  الطوعي، وخاصة أن نشرات الأخبار المسائية ذكرت رحيله كعنوان مزركش لنهار طويل و ممل. جميل هذا الغريق وهو يعلن لنا موته، ويكف عن سائر القتلة شره وبلواه. يغادرنا صامتا بلا  ضجيج، لحظتها استحق  المثقف  فعل التكريم الرسمي والكاتب مراسيم التعظيم، وعثرنا في غيابه على صورة الوسيم الغريق في غفلة من الزمن، أو تغافل من الثورة، وكما في رواية "أجمل رجل غريق في العالم " طرح  ماركيز إشكالية تفخيم الموت ومضى ...."وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت."


مروان عبد العال


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء