حتى لا يقال مصالحة "الأخوة كارمازوف"


مروان عبد العال
"لا يمكن العودة الى وعيك بدون ألم "
كارل يونج

يعتبر الإنقسام  وفق القاموس السياسي الدولي  أن الفلسطينيين غير قادرين على تحقيق تطلعاتهم بالدولة  فأن عجزوا عن العيش معا في كيان سياسي واحد.. مهما كان شكل الاختلاف السياسي وتنوعت اسبابه  لكنه لا يكون من اجل سلطة  لقتل وطن  وخاصة ان الانقسام  طال واضر وشوه وجه الجميع ، لكن ليس المراد ان يتحول الى اختلاف  مثل  اختلاف  "الأخوة كارمازوف"  الذين  انهكهم الاختلاف على  قتل الاب ! الجريمة ان يكون هناك عدو يحتل الجميع وفي نفس الوقت هناك الاخوة "الاعداء"  والمصالحة المستحيلة حسب رواية دوستويفسكي ، والتي اضحت هذه الايام  حالة عربية  تعبر المدن والحدود في أكثر من بلد  مع الاسف. خصوصية فلسطين تزداد أهمية ، ترسيخ  المصالحة الحقيقية تلك التي لا تقبل القسمة وفي سبيل غاية  انقاذ حياة القضية و معنى الوطن والحق والهدف وهذا لا يكون بالرغبات مهما صدقت النوايا،  فالازمة اعمق  من  التنازع  الهزلي على سلطة  كرتونية ، لاننا ندرك اننا وسط منطقة  تتغير وامواج تتلاطم  ونحن  بين الشك واليقين في الازمة الوطنية العامة  التي هي ازمة بنيوية  تطال المشروع الوطني الفلسطيني برمته .
 لقد اوجد "أتفاق أوسلو"  شكل الانتقال التاريخي من حركة التحرر الوطني الى السلطة ، دون وجود حتى شبه استقلال او ملامح دولة . وخيار الذهاب الى التفاوض  العاري من القوة  الذي اشترط ان تتوقف المقاومة ، مما جعل الوطن  يمنح  وفق ما يسسمح به الاحتلال ! هذا الامر  يساوي الإنعطاف التاريخي  الذي حدث عام 1948 لأن  " تدمير معنى فلسطين "  وتشوية  حقيقة الوطن الذي ننتمي إليه الذي يساوي حدث احتلال فلسطين ذاتها.
الفلسطينيون الذين  نجحوا بالبناء الوطني  رغم  المنفى  وأثبتوا بمقاومتهم القدرة  في بلورة هويتهم  وفي أقسى الظروف وأطول مدة ممكنة وساهموا  في صناعة شخصيتهم الوطنية وفي حفظ ذاتهم كمجموعة سياسية .  الوحدة الوطنية  تحتل حيزا أعلى من المضمون السياسي فقط ، تصل بحكم الشتات  الى المعنى الوجودي .. والشتات  هو انتهاك فاحش للتواصل الجغرافي والانساني والثقافي والمجتمعي ولعل التسوية ومجرياتها العملية وما يحدث باعادة انتاج الشتات واخرها  "اتفاق الاطار"  الذي  كان يلوّح به "السيد كيري " عشية انتهاء فترة  9 اشهر من المفاوضات ، كلها عناصر مرعبة باتت ترسم شكل الخطر الوجودي على القضية الفلسطينية  ، لكن على غير الناحية المتوقعه  ومن حيث لا نحتسب ، فكان اتفاق اطار فلسطيني من نوع آخر  بين حركتي فتح وحماس ، ولا شك ان اللحظة السياسية  الخانقة لطرفي الاتفاق  استوجبت ان تتقابل الوجوه وتتصافح الايدي مرة أخرى ، وفي احتفالية  تكررت واستوجبت السخرية بالقول " ان الحياة مصالحات أيضا وليس مفاوضات فقط" . واي قراءة سريعة لمعرفة السبب  الذي جمع الاطراف للمصالحة العاجلة على شاطئ غزة  .
الوجه الاول :  المتمثل بالضائقة السياسية التي  أخذت حركة حماس  نفسها  إليها  بعد الخيارات الخاطئة والرهانات الخاسرة  على ما سمي بالربيع العربي  الذي دفعها بالاستناد الى سيطرة حركة " الاخوان المسلمين " على السلطة  في الاقطار العربية - التي طالما قالت وأكدت عدم التدخل باوضاعها الداخلية-  لتجد نفسها في قلب الوهم  ذاته بأنها ستكون عائداتها  صافية  لها و قوة  خالصة  للقضية الفلسطينية  وسيكون لها تأثيرها الكبير على مكانتها ودورها  دوليا وعربيا وفلسطينيا بما يستوجب  وضع استراتيجية للانتظار لكنها لم تدم طويلا حتى يكتمل الحصاد. 
الوجه الاخر : ازمة نهج التفاوض  الذي وصل الى باب مغلق  لا يمكن دخوله بسهولة . الا اذا  خلعت القيادة ثوبها  ورفعت  الراية  البيضاء واقرت  بإلغاء الذات الوطنية  أمام  رواية  الجلاد  مثل اصرار المفاوض الاسرائيلي على الاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية ، والمقابل لا يمكن ان يصل الى الحد الادنى المقبول اي ما معنى دولة بلا قدس وبلا سيادة وبلا عودة ؟..هذه  ليست دولة فكيف ستكون وطن ! في ظل  ان "غزة " متروكة لمصيرها وتأكل شرعية المؤسسات الفلسطينية . وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية وما يتبعها من تراجع في حضور قضية اللاجئين في الشتات  وغيابها كقضية سياسية في قلب الصراع .
المصالحة لا تسير وفق ما تشتهي سفن العدو الصهيوني . وهو لن يدعها ان تسير قدما الى الامام ان كانت تؤسس لفعل صحيح.  وان صمت عن الخطوات الاولى  لاستكشاف طريق السياسة الذي سيشكل غطاء المصالحة  كمادة تجميلية مطلوبة  لوجه التسوية القبيح والعاجز ، ووفق سقف  املاءاته المحددة سلفا. لقد اعلن البعض عن مفاجأته من حجم رد فعل العدو على المصالحة ،  هنا يطرح سؤال : هل كانت اسرائيل تريد مصالحة  مقابل الموافقة الفلسطينية على "اتفاق الاطار " ؟  وهو يتابع ويراقب خطوات المصالحة والزيارات المتتالية لقطاع غزة ، ومع ذلك انفجر هذا الحجم من الغضب . بل يحاول  جعل  قضية  المستوطنين المخطوفين  في الضفة  لتنفيذ خطة  الانطواء  الاحادي ، اي الحل  وفق الامر الواقع  ومن طرف واحد، وفتح الباب المغلق بالاعتقالات والبطش واستخدام العدوان الوحشي على قطاع غزة ومداهمات  حتى للاسرى المحررين ، ووصولا الى ممارسة العقوبات المدنية بقطع الكهرباء وغيرها . وسائل ضغط لتمرير  مخططاته القديمة بفصل  منطقة الخليل عن باقي انحاء الضفة الغربية ، لخلق معازل عنصرية محاطة بغابات من الاستيطان . وكذلك للتحريض على حماس تحديدا واتهامها انها استفادت من المصالحة  لتملك زمام المبادرة لتنفذ عملية الأسر .  لذا فالاجراءات صهيونية  تمنع  اليوم ان تتقدم المصالحة خطوة واحدة ، رغم اصرار الجميع ان لا خطوة للوراء والتأكيد على المضي بخطوات المصالحة اللاحقة .  حتى لا يتم تحويل حكومة التكنوقراط  الفلسطينية الى مجرد " حفلة تنكرية "  كما وصفها احد القادة الصهاينة  وفي حال عجزت عن تأمين الرواتب للجهاز الاداري و لا تتمكن من فك الحصار عن غزة  ولا تضع برنامجا ومواعيد لاجراء الانتخابات ولا تعيد دمج وتوحيد المؤسسات والاجهزة . 
لم تتقدم المصالحة لانها تسير على ارض رخوة وواجب حمايتها السياسية واجب وطني لا يتم بالفهلوة  الفردية و الشطارة السياسية ولا بالاستجداء السياسي والمزيد من لعنة الشيطان لأنه غير مؤهل لحل العقد الثورية ، الذي  يحاول التعويض عن النقص  بمزيد  من المبالغة في التنسيق الامني  هذا لا يحمي وحدة شعب والخطاب اللفظي عن المقاومة الشعبية وتشجيع لقاءات تطبيعية مع العدو وتغض النظر عن غزو البضائع الاسرائيلية للسوق الفلسطينية. اذا كان التطبيع  مع الاحتلال نقيض لمقاومة الاحتلال فان التنسيق الامني هو الاتجاه المعاكس للمقاومة الشعبية .
لتمضي المصالحة  بقوة الارادة وطنية  الى الامام  قبل الرهان على المعادلات الخارجية لانها بين الاشقاء وليس الاخوة  "الاعداء" ولتقل وداعاً  لإختلاف "الاخوة كارامازوف "، حين تواجه الحقيقة  مهما كانت مرة وبعيدا عن المبالغة  والذهاب نحو الوطنية الرحبة  خارج سراديب وانفاق الفئوية الضيقة  حتى لا تظل مصالحة جزئية  ومنقوصة ، تهدف لتجديد الشرعية التي تآكلت  كما يتم التأكيد وهو مطلب حق ، ولا باشاعة  اجواء التفاؤل  المفتعل كون النّية قد توفرت لدى الفريقين  بأعتبار انها مصالحة اضطرارية ، "مكرهٌ اخاك لا بطل " . لحظتها تكون مصالحة  تكتيكية من فوق ،  تتوقف عند الخطوة الاولى فقط وتفتقد لبعدها الاستراتيجي الذي نريد ، ولا تجد  لها تأثير الكل الوطني و كامل الحقل السياسي الفلسطيني ، يصير فيها النظام مشوها ، كمخلوق سيامي  برأس واحد ولكن بجسدين منفصلين .
ان الخيار هو بإمتلاك أنفسنا كجماعة سياسية  ان تعرف كيف تتجدد كي  تتجدد القضية قبل ان تتبدد و تمتلك هويتها كحركة تحرير وطني . طريقها المضيء والواضح هو الصراع من اجل  بناء منظمة التحرير الفلسطينية  كخيار كفاحي وطني تستعيد بحضورها وفعلها كل عناصر قوة الشعب ومعها الامة ولكن قبل كل ذلك تستعيد الغاية الجامعة لأنها المصالحة الحقيقية مع الذات و معنى فلسطين بل نكون مع  فلسطين الحقيقية .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء