أخرسوا صوت الزنّانة

على عادتها ظلّت الهدنة، حربُ مُخيّلةٍ بليدة تعلّمُ الأطفال مُتابعةِ أسراب العصافيرُ، وهي تُلغَمُ في الفضاء، في طريقها لعُرسٍ موسميٍّ، أو نزوحٍ مَرحليّ. وهكذا تَماما تَلغُمُ الحرب الحياة، فجأة، ودون مقدّمات! كأنَّها صورة عالقة في الخيال، تشبه مقدّمة واحدة لكتبٍ كثيرة، ومن أصول مختلفة. تبدأ بتردّدِ صَدى أبحّ خلفَ عُصفورٍ بيتيّ صغير، يُجهشُ فتىً بالبكاء عليه لأسبابٍ لا تتعلّقُ بخياراتِ الطّفولة، فهو لم يدفعهُ لساحةِ الموتِ عُنوةً، كي يلوذَ بَعْدَهَا بالفَرار. وغير صحيحٍ أنّه تركَهُ أسيرًا ووحيدا في قفص  محاصرًا بنارِ الطّائرات الغَازِية، إنّما لعجزِ الفتى عن ابتكار آليّاتٍ للفرح، ولو عبرَ حبوبِ قمحٍ يفتِنُ بها منقارَهُ الّذّهبي، قبلَ اختفائِهِ، في وجبةٍ صباحيّة دسمة.    
كلّ صباحٍ يُطلِقُ منقارهُ فواصلَ موسيقى تجذِبُ عصافير الحيّ لساحةِ غنائِه.  وبين لسعِ ألسنة اللّهب يحدّقُ الفَتى في الفضاء باحثاً، وهامسا  لعصفوره الّذي لا يعود " لدَيَّ جسم كامل، لكنّه مهدّد بطائرة اليهود، وألعابهم القاتلة، وقد لا تبقى فيهِ يدٌ تطعمكُ إذ ما عُدتَ". تعتزلُ أعراسُ  أفراحها، يقضي عاشقٌ بسكتِ قلبِه، ويغمرُ الصّوتُ شجنا غريبا، حينَ تغزو رائحة رماديّة مسام الجسد.  على وجه التّراب الثّائرِ ركام بيوتٍ يُوغِلُ الطَّريقُ وجعاً، إذ تصطدم العين بلعبة الأجل، صاروخٌ بحجم دولة؟ ودولة بقيمةِ اسطوانةٍ من تنك. حين تُسأل أمٌّ عن حال أطفالها تحت القصف، تُخبرُ أنَّهُم يلهون في الخارجِ بلعبة أثيرة.. حين تستفسرُ تعثُرُ على أصغرهم يقربطُ بطرفِ أسطوانة معدنيّة عملاقة يوازنها من الطّرفِ الآخر طفلٌ آخر أصغر منه! تُرى كَمْ تَصلحُ أعقابُ هذه الحربِ اللّعينةِ في أرض محروقة أداةً للّهوِ، ولمََ لم تكن لعبة سواها تصلحُ للّعب؟ والغريبُ في شكلِ هذا اللّعب أنّ هاجسهُ  سؤالٌ أحمق مُربِك، أهوَ صاروخ من "عِنَّا ولّا من عندهم"؟ بحلول الفصل الأخير من أجزاء هذه الإحتفالاتِ السّوداء يأخذُ المحارب قيلولةً بانتظارِ طبولِ الجولة القادمة، وتختلطُ في رأس الطّفل أصوات القصف، ويصيحُ هذه المرّة، " أخرسوا صوت الزنّانة  في رأسي دونَ قيد، وبلا شرط حتى أصرخَ، لمرّةٍ واحدةٍ، كما أشاء " يقولُها، وهو يهروِلُ إلى السماء.
 ما العملُ إذن،  وقد دخل الأطفالُ بنكَ الأهداف؟ قالها جدّي" حينَ تخلّت الحروباتُ عن أكل الرّجال". ومع العد التنازلي لانهيار اللعبة الاخيرة تنسحب الدّموع من بقايا الرّماد. تتوقّف النّايات الكئيبة عن إطلاقِ غاباتِ نحيبها المُسافِرِ ريش عصافير في الفضاء.

مروان عبد العال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر