أنا طريد البعد الرابع

مروان عبد العال
نص منشور في الصفحة الثقافية لجريدة " العاصمة"  المقدسية

file:///C:/Users/TOSHIBA/Downloads/al3asma1.pdf

للوهلة الاولى لا تشعر بمرارة  السفر وانت على جناح المنفى، كطائر  معلق  على ارتفاع  شاهق، لحظتها تفكر بالأرض ، حتى لو كنت هاربا منها خوفا او قرفا، تصير هي اللوحة الأجمل التي أبدعتها ريشة  فنان ، ربما الحنين الى  وطن عليها يجعلها كذلك. و قبل ان تهبط على سطحها تشعر كأنها المكان الاكثر أمنا في الكون.
 ذات زمن، وصف لي رائد فضاء روسي شعوره وهو في قمرته يسبح بين النجوم بأنه ادرك يومها  أن الحياة  بدون كائنات بشرية مملة ولا تطاق ، الفضاء يصلح لتشيد  قصرا من خيال، ولأقامه فريدة  في الخرافة ، الملاذ الجميل الذي أحلمه بشغف الحرية ، بلاد من حلم هل يمكن ان توجد  في الفضاء أم في ربوع الارض ؟ هل لنا حق في براءة  الافتراض ؟ ان يفترض المرء أنه  شيء، وان ظل ملازما للبقعة الاضيق من الحلم  دون ان يختنق بكابوس الواقع  ، هل لديه الحق الشرعي بتملك خياله الفسيح ؟
 هكذا أنا منذ قررت ان اجعلك وطني ، كي انتمي اليك اكثر وكي أظل أجس نبض قلبك . أما أنت يا ابن الارض،  فلا تكترث لهذيان لاجيء خلف الغيم ، قد تحتاج لعقل أسرع من الصوت كي تدرك عبارتي، بُغية ان تصلني وتسبق هتافك الاخير. هكذا القلوب المتطورة و التكنولوجية جدا ًوالحديثة الانتاج لكنها تظل سريعة الخفقان، احيانا تتصبب كقطرات عرق على جبين الحبيبة  قبل ان يحضر نبضها الغائب
. انه امر مدهش، لقد اخبروني أنني هنا في سراب يسمى ديار النسيان ، ولما تكتبت الرسالة عليك ان تحرص على اتمامها حتى النهاية ولا تعد بأنها الأولى فقد تكون الاخيرة . لو سألتني أين أنت ؟ سأجيب بتلقائية تعهدها وبصوت مرتفع نسبيا اعرف انه يغيظك ، أقول لك : عند ثقب الاوزون تماما ! وقبل ان تدين وتشجب بعد أن ترغي وتزبد ، يا عزيزي الكائن البشري الحائر والعاجز ، ان الكون هنا مختلف، حينما تكون في وضعية الانعدام الكلي للوزن ، وبلمحة بصر تصبح أنت المخلوق الفضائي الذي يعيش في البعد الرابع ولا يحس به البشر على الارض، يرحل من بُعد زماني أول الى مكاني ثانٍ الى أنسان ثالث، ثم يقفز الى بُعد رابع ، يعترف بالطاقة الحركية و زخم الحركة لهما اصل واحد وهو مقدار شعاعي رباعي الابعاد. سترى الامور اكثر جدية من اي مكان اخر، ستعلم ان هذا الانعدام الاصيل قد نسجته براعة الالهة وليس صناعة يد الوحش السياسى المفترس ولا السلوك التعس والعنيد وكذلك تلك العادة البشعة الغارقة في الكذب، الى درجة الادمان الذي لا جدوى من محاولة الاقلاع عنه .
 لكن نسلم نفسنا للخديعة ، يوم همست بحزن ونقد ذاتي، أن الخديعه تسير بين بعدين ، الاول: يستمتع بممارسة الكذب، أمّا الثاني : مستعد دائما ان يصدّق. إنها الخطيئة التي تتعدد ألقابها ولكن لها أسم واحد. ينتصر الفراغ يوم تتحسس رأسك وأنت تعلن نجاتك من الحرب الاخيرة، ودائما هناك متسع لحرب جديدة ،محتملة ، وقادمة ، لذا تحسب معنى الحياة الباقية ، تعتبرها مثل قيمة زائدة ولكن لها نكهة خاصة. تود لو تحتوي المجال الملائكي المتاح .
 هنا الفضاء الذي لا يتسع للطقوس الشيطانية الزائفة . هناك ، تستبيح الذات الانسانية نفسها متباهية بالمقدس، يكفيها أن انيابها تقطر قباحة . كم فاتن ومفتن هذا الضياع وانت تقضي يومياتك في شوارع تعطلت فيه قوانين الجاذبية وانقلبت وجوه ناسها للخلف ومالت فيها الارصفة الى حد الغرق ، يجلس الجهل على عرش امبراطورية منسية من القرون الوسطى . هنا يختطفني النعاس وأحلق طليقا في اروقة فضاء الحلم ، دون ان يعاقبني شرطي على سرقة التفاحة من حضن حواء ، تسقط قيود المكان الادمي الادنى، الذي تخسر فيه حبات الالماس بينما أنت مشغول بتجميع بقايا القمامة، يا للقذارة ، اعرف انك ستظن أن هذا مجرد خيال طفولي ، ولن تصدق أنه حقا هناك ، لأستوطن الفضاء الاستثنائي العبثي ، خيال نخلد اليه بعد تعب ويجعلك تنسى كل الاوطان بعده وقبله ، وتدوس على ماضيك وتخلع حياتك السابقة ،هنا سفر أبدي لا يتوقف ، كائنات بشرية تنشغل في صناعة الجدران العازلة  كي يظل الاخر بعيدا، يبدعون الحدود بين البشر للفصل بين كريات الدم البيضاء والحمراء! والفرز بين الالوان والرائحة والقريب والغريب .
 كل من سافر إليها لم يرجع ثانية ، حتى الذين تحبهم واسميناهم شهداء ، رحلوا بدون عودة، سوف تصدق ان اجسادهم المزروعة ستنبت زعترا ، لكنها ستذوب سريعا وتختفي، ونبني لها شاهدا على حجر رخامي لامع ونخط عليه : لقد سقط بعد صراع مرير مع البشاعة . وتذكر لعلها تنفع الذكرى . هي سيرة الارواح التي بعثت من أجل اغراء في الغيب أسمه الجنة، لذا اختار الشهداء موتهم في الوقت المناسب ، بتوقيت الوطن أولا ، كم كان احساسهم فظيع انهم لن يموتوا ابدا، لقد ارهقتهم تلك الحياة الشقية، والتنافس على انتماء أرواحهم والاختلاف اين ستذهب بعدهم ؟ جعلناهم يقفدون الاسماء الجميلة كلما دخلوا الى سراديب في اعمارنا المؤقتة وعقدنا المميتة .
 انظر هذا ليس بياضا ، هذه كائنات ضوئية ذات الوجوه المشّعة بالجمال الخفي وهي لا تعرف التجّهم ، تتأنق للسماء بكامل طهرها وهي أجساد عارية كما خُلقت . لكنها ليست في حالة استعراض للأحلام الجديدة ، لقد فضحوا سيرة هذا الانتحار لأنه ليس في موجة الزمن الاعتباري فحسب بل لأنه خارج الطريق نحو اللا طريق . اعرف ان صمتك ليس خجلا بل هو ترقب للحظة الانفجار .
لقد نسيت انني مازلت في المخيم ، وانا اعترف بكل شجاعة اني ولدت وناضلت وحلمت فيه. بالامس نطقت محكمة هيكل العدالة المطلقة بقرار طردي من البعد الرابع الى البعد الاول ، من الفضاء الى الأرض . أتدري لماذا ؟ يتوجب وفق دستور العدالة ، ان تكون كائنا أرضيا بامتياز حتى تستحق كرامة الحياة في الفضاء . والا فأنت طريد الفضاء عليك ان تبحث عن لجوء معاكس لا تعرف لونه ولا نوعه ولا مداه ، لذا ستنفى الى منفاك، حتى تجد الوطن وتعرف كيف تقطع يده سارقيه ومغتصبيه .

من شرائع الارض التي لم يقلها جدي ، ان نغلق ثقب الاوزون القابع مثل كهف أسود داخل رؤوسنا ، قالوا أن شرائع الارض تريد ابنها البار باراّ بثقل الأرض والاّ فسيكون زائدا فوقها و الا لزوم  لبائعي الوهم وتجار الامل ، وذاك الذي يدب فوق الارض سقوطا وهو الضيف الثقيل على أكتافها والممل المقيت في السماء ذاتها . من شرائع الارض التي قالها جدي ، انها كالبحر تلفظ الجيّف الوسخة، ولا تحترم كل من لا يتعلم كيف يدوس على ترابها بقامة عالية ومرفوع الهامة والكرامة و الرأس، لأنها تطوي بحناانها تحت جناحيها من يستحقها. وتطارد لعناتها كل عاق من ابنائها، تستطيع ان تلتقط اضلاع ابطالها من فوق أسوار الفردوس. تبا للفضاء يوم ضاق على لاجيء ، عندما يدخل البيت من علبة ثقاب ، فتحترق شجيرات الورد في الحديقة ، تستيقظ على زهر ليمونها وتمد لي عشقها وجرحها ويدها التي ستخلع الجهل من صدر السماء وأنا على وعد يبشر بوطن صغير كان يوما طريد البعد الرابع ، يقاتل فوق ارصفة ليست له وعلى أرض تسرق من تحت قدميه ولكن  قامته كانت وستبقى تصل اول وثاني وسابع سماء  .

تعليقات

  1. الوجود بصمتنا الحاضرة في كل غياب نرسمه لاجئين ، منفيين ، وشهداء دائما نفكر ونبحث عن شكل يجعلنا موجودين دائما وأبديين ما استطعنا .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر