هذا جبل المُكّبر يا غبي!

مروان عبد العال 

جريدة "العاصمة" المقدسية

 نصعد بدمنا جبل المُكّبر ، نطل على "العاصمة " الابدية الغير قابلة للصرف، تستعيد قمتها  تلملم المفردات التي تلاشت من قاموس اللغة الجديدة ،لأنها أسماء بلا اقنعة، على مرمى وجع "دير ياسين " التي نجرى في ظلالها لنكتشف من سرق الاسماء التي نحبها،غسان وعدي، لأن النضال هو جري دائم لا يتوقف ، هنا ابداع بدائي شبابي لمعجزة  فن العشق على حد السكاكين،  فن صناعة "زجاجة مولوتوف " مزيج من المطاردة مشحونة بالعشق ودمعة مالحة في عين الفراق ، وهذا فأس من أنفاس مكبوته تلهث خلف طيات كوفية  مرقطة ، تخفي وجه الاسماء المزركشة. رغم انها لا تجيد كتابة الالقاب  الفخمة ، بل تخلق رتبتها من كبريائها ومنصبها  الرفيع  في هالة اثيرية مليئة بالنجوم من  شغف لا يمل منها الصدى .أسماء لأشياء عزيزة  غالية ، تتخيلها أو تتمنى ان تكون واقعا مستمرا ، او شهادات حية تعاش بشوقها وشقاوتها ، لا ينطق بها لسان او تخطها الكلمات لأنها وصلت كحزمة حواس ملونة، لها سر الالفة الغامضة مهما  بحثنا لها عن تفسيرات فلن نجدها، او قلنا "لو"  تدري وسألنا لماذا لا تدري ؟  
هل  ينبغي ان  نكون  بلا غضب  أو عصب ؟ أن تلتوي الاشجار في مهب الريح ،  تنتزع  نفسها من سيولة الضغط اليومي وتجلي التفاهة في جوانب المشهد والضجيج الخارجي الساقط الى الهاوية ، خطوات وئيدة على درب موحش  يخترق  جدار السكون المقيم  في عتمة النفس الداخلية .  ماهيّة الأسماء الغائبة صوتا ورسما  والمتغلغلة وردا وعطرا  في أمسيات المدينة الذابلة  وسأم الروح من الوجوه الزائفة والذائبة في غيرها ، تناقض ذواتها وتلبس غير روحها وتلقي بنفسها الى مسرح  العبث  لتنتهك  بساطة  الرصيف وتغتصب رائحة زهر الليمون ، وفي كل حرب تذوب نثرات الثلج عن أكتاف الجنرال الابيض .
 الآن أسمع الجبل صوته للبحر كي  يتشبث الغريق بخشبة خلاص ، حتى لا يبتلعه سمك جائع في  بحر غريب ، وان رحلت اشرعتهم الى وعد السماء  تفوقوا على ذواتهم بما يفوق اعترافنا بهم وهم على قيد الحياة ، هكذا كل ما نفتقده في حياتنا ولا نقوى على تعويضه يصير هو الاجمل،هم الارواح التي تحلق الى مصاف البطولة، بطولة  نستعيد تاريخها بالرغبة والفعل الذي فجر ثورة الروح . في روايتي الاولى " سفر أيوب " / 2002   عن اكتاف الرجال التي تنوء بثقل الفجر ، كتبت"... تذكرت كيف جعلت الثورة حياتنا خرافة. فوضى منظمة أحياناً ترسمُ لوحة سريالية. تبدو فيها الرؤوس خارج الأجساد والعيون مقطوعة من الوجه. نستعيد فيها حتى أسماء غير أسمائنا وحتماً عندما نبدّلها نختار – أسماء ليست أجمل منها.  كان الفجر كلمة جميلة، نستسيغ صياغتها. ملأ بها الشعراء القصائد. صارت عناوين البيانات السرية، نوزعها في زواريب المخيم.. تحمل نبوءات قادمة تبشر بأن "الفجر.. آت..."
 كم يدري ان عظمتكم مستمدة من عنفوان الاوائل وثقل حمل الحجارة  الاولى في الانتفاضة التي لم تهدأ منذ البناء الاول ، الاحلام المستحيلة  تصنع طينة الرجال  الذين يستحقون عظمتهم ، اولئك الذين حفروا في صخر المأساة مبادئ و قيم  وشيدوا صرح الكرامة الشامخة وألهبوا المعاني  بحوافز الفعل  المقدس ، ولكن لا تنسى ان هناك حمقى أيضا هم  من تكلفوا  بتشويها وبهدمها وبكسر الحلم .
أيها المُكبر وأنت تقرأ لائحة الاسماء الطويلة على نصب الشهداء  التذكاري ، تطرح عليك زهرات الجوري سؤالها الشائك  : عن الشعب الطيب صاحب الحق  نصيبه جنة الخلود لانه الشهيد والشاهد و الضحية المظلومة، وشعب الاشرار  الى عذاب الاخرة  لانه القاتل الظالم  والمجرم ، ولكن اين سيذهب  الاغبياء ؟  لعل محكمة العدل تحاسب على اللا مبالاة والتملق والرياء والمحاباة والغباء  والصمت السلبي وتصدر عقوبات ضد التفاهة ، تلك الافة الفتّاكة  كسم " مادة البولونيوم 210 " الذي لا يزال الساري المفعول وبلا منازع  بشكل الموات البطيء بأسماء سميكة  تتقن فن ادارة الغباء واستهلاك رصيد الاسماء الخالده، الطبيون مضوا في سبيل الحلم ، والاشرار يعيثون بالارض فسادا، ولكن ماذا عن الحمقى؟ لا يمكن ان تكون الحماقة وجهة نظر، فالاحمق قد يعتبران يكون لك وجهة نظر فهي حماقة، لذلك  فالاحمق ان اراد فهو لا يفعل  وان فعل  فهو لا يضيف،  وان حاول يضر ولا يفيد ، قانون الغباء الثابت .
وما ادراك ما جبل المُكبر في  بلاد  تنتظر  بزوغ  لحظة الحقيقة ، مثل صلاة  روحية  في أكناف مسجد عتيق يشخص نحو مرتفع  مكلل بكروم الزيتون ، والاخوة  في جلسة "يوغا"  طالت  سنوات طقوسها ، تمارسها المدن العريقة بكل ما في العروبة من بلاغة الصمت ، هنا ثمة من يؤمن بقول غوركي " الرجل الحي هو الذي يبحث دائما عن شيء "  نموت من أجل شيء ، حتى يكون للحياة معنى ،او غاية حية  نمضي في سبيلها، موت يستحق زهرة الصبار على جدران رطبة ، تنمو مع الأسماء التي لا تزال  في القيد لأنهم من برج الفراشة، هم وبعضهم ارواح في الغيم ، لا يشكو  الشهيد من الموت، ولا يمل النظر من الأعلى  ليسأل الموت ان كان من وسيلة اخرى لإستحقاق الحياة .
لو يدري الحمقى ان المدن الطاهرة لا تطيق صيفا دبقا أو ريحا دنسا يلوث إسمها. القدس تكتب بدم شبابها على  قباب السماء  حكايتها، وحدهم الحمقى  لا يسمعون  حين يبحثون  لها في قواميس الاحتلال عن  أسماء جديدة وارقام وخيوط توزعها بين زمان واخر وعن امكنة لا تليق بطهرها،  لا يمكن ان تسرق  من المدن  اسماء  حاراتها وشوارعها وعائلاتها ، تلك الضالعة في عمق التاريخ ، تظل الارض العامرة  حتى لو كانت بعيدة والباب مقفل ، لا تمنح  جيش الظلام الاسود مفاتيح أبوابها ، المدن المأهولة لا  تموت  الا اذا فرغت من غسانها، كل المدن التي هجرها أهلها حملت اسماء غريبة ، مثل  الثورات  الجميلة  التي تفقد دهشتها بالسكون ، وحين تنخر الحماقة جسدها الفاتن كما ينخر الدود جذع الشجر، فكم من صنوبر يسقط  من تلقاء دودة صغيرة .
هذا جبل المُكّبر يا غبي ، لا يزال يرمق من بعيد  تلك الأسماء التي فيه ويحفظها عن ظهر قلب ، وكيف يحيا على اشارة من صوت داخلي يقوم بأداء طقوس فلسطينية من أسماء تقرع  بهدوء على نافذة الذاكرة البلورية ، ثمة رجال قيدتهم احلامهم وحررتهم اوجاعهم المتواصلة، منذ ان تفحم  الطفل  حرقا ليس في قصف احدثته طائرة بل بتسلية عائلية . قيل ان قبضته كانت ترتجف كعصفور، طفل يتربص فيه احتراق  وليس برد المطر أو بلل الاشجار والطرقات. يومها استعاض عن عادة  اللعب بالنار بعشق المطر حتى لو لم  يتهيأ للريح وتعلم  الصعود الى قدس احلامه الابدية، فصارت  تتدحرج  عن القمة نحو عاصفة مخيفة بكل ما تنذر به من شؤم . لا تفسير لماذا يرافق الغضب احتفال جديد  بولادة  متعثرة ثانية ؟ مازال  الوطن على قائمة  الانتظار بين الانفجار او الاحتراق ، على حائط الغربة  تطول قائمة السفر، ابحث عن جواب على اصرار الريح  ان تحشر نفسها دفعة واحدة بين انياب المنفى، قد يكون وعد يشبه الشخص القادم من الخلف يحمل قلبه بقبضته و يدق باب الحق والحقيقة وحتما بهذا العشق نادى المُكبر لقيامة جديدة .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر