عن الحكيم و فوكوياما الخطير
مروان عبد العال
يلح علينا الوفاء ان نحب الشخص وننتقده في ذات
الوقت ويكون الوفاء صادقا ان كان ذلك يتم
دون خوف وهو على قيد الحياة و أجمل
الوفاء ان نمتدحه بعد موته ، وبعد ان تكون كل مسببات التزلف والمحاباة قد انتفت. ورغم غيابه المرير تظل فكرته حية مقيمه وسيرته
وقيمه المبدئية مدرسه وطنية حاضرة ولا تغيب.
هكذا الحكيم
يعلمك ان يظل حبك له يعاند المحاباة ، والعشق
المسموح للفكرة الجميلة التي ينتمي إليها ، يورطك إيجابيا بالأسئله المتشعبة التي تشغله ،
فتصبح دون ان تدري رفيقاً معه في البحث ، يطارد الاجابة ليعثر على الفكرة المناسبة. وما أحوجنا للفكرة في الزمن اليباب ان لا تفلت من أيدينا كما أوصى بقوله " الثقافة خندقنا الأخير"
وان تظل أوراقها النضرة تنمو وتزدهر بقداسة الكلمة، التي لا تحتاج لمن يتذكرها ويذكرنا بها لفظا بل فعلا، دونها سيبقى نصل
الجهل وسكين التخلف على أعناقنا.
شدّني
الحكيم بقوة مغناطيسية الى لغز التفاؤل
الثوري الذي كان مشحونا به وبطاقة الأمل الجبارة في الزمن الجارح ، في كل ما يقول ويفعل ، وما
بين اختلاط الدمعة بالابتسامة ، في لحظة سوداء ، استشعر الحكيم فايروس الداء القاتل في ما رمى إليه فوكوياما بكتابه " نهاية التاريخ "
فكان لسان حاله يهمس بمودة "يابا هذا
خطير فوكوياما " لم يتأكد الحكيم قبل
رحيله ان فوكوياما تخلى عن استنتاجه و "بعضمة لسانه "
اعترف بعدم صحة ما توقع ، وأصيب بالخيبة فهرب
الى كتاب آخر ، فسخر منه صحفي غربي بقوله "لا ينهض فوكوياما من سريره إلا ليعالج شؤون
الكون"
.
دار حديث عن اهمية الصراع الفكري وسبل المناعة من كتاب لا يكفي ان نصفه بالخطير
ولا تقاس خطورته بمدى تأثيره في الرأي
العام وتشويه الحقيقة ، بل ان الخطيئة في عدم القدرة على انتاج فكر ثوري يدحض الفكر المضاد ، قادر ان يستخدم سلاح الفكر ، حينها
وصف الحكيم العلاج الصحيح بضرورة الثنائية
التي لا غنى عنها "علاقة الثقافة بالسياسة علاقة الروح بالجسد ".
ما ميّزه عن سائر القادة رؤيته الواضحة للصراع خاصة على أهمية الجبهة الثقافية ، يؤكد ان رهانه الكبير على
الثقافة الوطنية التي تحمى "حرية
التفكير " وتبني عقل الانسان الحر الجدير بالثورة ، حينها اعطى تعريفا
ثقافيا للمقاومة . وان تشاؤم اللحظة يقاوم بإرادة
مبنية على التفاؤل التاريخي ، كل ذلك كان يجري
تحت ظلال ثقافة الهزيمة وكان محرّضها الرئيسي كتاب فوكوياما اللّعين وما أحدثه من فوضى بما يشبه "البلبلة" السياسية
والفكرية التي قامت على ذريعة خاطئة.
يومها كتب
الحكيم مقالا يؤكد فيه استمرارية التاريخ بقوله ان "الزمن الامريكي" لا يمكن ان يلغي الايديولوجيات التحررية ، انما
يجبرها الى اعادة صياغة ذاتها نقديا . اي الى مراجعة نقدية و فكرية
وموضوعية وجماعية. لا بد من اعادة النظر الشاملة في البنى السائدة وبرؤية
منهجية وعقلانية للوقوف على الثوابت والتحولات .
ولدت تلك الافكار لترسم مكونات العقل الثوري وكيف
يتحرك في دائرة القلق الايجابي ، اي
القلق لذي يدفع نحو التحرر من الفكرة العمياء و الى الفكر المتحرك بدل الفكرالصنمي الساكن ، اي نحو فكر التغيير وليس فكر التبرير او التكفير . الحكيم أقر بكل ما فيه من روح ثورية تجديدية بنهاية
الايديولوجيات في شكلها القديم، لأنه اكتشف
بحصافته وذكائه الاستباقي مثلب فكرة فوكوياما
الذي تحدث عن نهاية الايديولوجيا و نهاية التاريخ بنفسٍ متشفٍ ، منتشيا بالنّصر على
الاتحاد السوفياتي وممجدا للقوة العسكرية ،
وقد هبط فوكوياما بالمستوى الاكاديمي في
سبيل اعلان سياسي عن الانتصار النهائي للرأسمالية .
جدّد الحكيم سؤاله الاستفزازي الصارخ بالقول : هل يعني ان زمن التحرر والمقاومة قد
انتهى للابد؟ هل يعني ان العالم انتهى الى نتيجة المنتصر منتصراً والمهزوم مهزوماً، هل الفكر التقدمي صار ذكرى من
ذكريات التاريخ وان فكرة التحرر الانساني
ومقاومة الظلم صارت تمردا على القوانين الموضوعية للتاريخ.؟ اكدت التجربة وحقائق
الحياة انه يستحيل قتل التاريخ وان استمرارية المقاومة موجودة كنزعة انسانية و مرهونة ايضا بوجود الظلم والقهر
والاحتلال ، وان القوة لا تساوي شيئًا أمام إرادة الشعوب وتوقها الانساني إلى التحرر
والحرية.
ولعل نحن المسكونين بالجمال والوطن والحرية ،
سلبتنا "كاريزما " جورج حبش
بقوة ، حملناها في حقائبنا على امتداد المعازل والخنادق والمطارات والمخيمات و
المدن والمنافي هكذا الفكرة
تشبه الوطن ، تسافر وتغيب وتعود ولكنها لا تموت .
تعليقات
إرسال تعليق