ضحيّة الزّمن الرّهيب
ضحيّة الزّمن الرّهيب
د.عبد المجيد زراقط*
د.عبد المجيد زراقط*
عندما انتهيت من قراءة هذه الرّواية: "إيفان
الفلسطيني" لمروان عبد العال، لمع في خاطري قول محمود درويش: نحن، ويعني
الفلسطينيين، نعاني من داء عضال اسمه الأمل.
هو ذا قدر الفلسطيني المعاصر أن يكون الأمل داءه العضال.
وللمفارقة، فإن شفي منه أُصيب بالفقد، بالموت، وهذه مفارقة فريدة في التاريخ
الانساني تتمثّل في أن يفضي الشّفاء من الداء العضال الى الموت. وشبيهة بها مفارقة
أخرى يثيرها شعر محمود درويش أيضاً، وهي أنً الفلسطيني يعبد الشّوكة المغروسة في
قلبه، ويحميها من الرّيح، ولإن فقدها فقد وجعه ومقدّسه في آن.
الشّوكة هي الوطن، والأمل هو الحلم بوطن، جاء في الرواية
على لسان شخصيتها الرئيسية: "حلمت دائماً بوطن على الأرض.. وطن لي الحق في أن
أمشي دروبه حافي القدمين، أمرّغ وجع شوارعه بأطياف ضحكاتي" (31،30).
عدت الى الراوية، بعدما تمثّلت في خاطري هاتان
المفارقتان المعيوشتان، والتاريخيتان في آن، فبدا أمامي إيفان الفلسطيني، الشخصية
الرئيسية في الرواية، يعلن بقاءه لاهثاً وراء لحظة تصنع الزمن، مضرّجاً بدمه المزركش
في رقصة الموت، طالما أن الشمس دليله، فهو ليس رهيباً، بل ضحية الزمن الرهيب
(207).
أعلن إيفان الفلسطيني خطابه هذا بعد أن حمل اسم إيفان
ثلاثين عاماً، كان اسمه آنذاك، عندما حمل هذا الاسم، "عرب عبد الكريم
الأنصاري"، غيّر اسمه، وبعد ثلاثين عاماً، طارده ظله، من كان حبيساً في
داخله، فأطلق النار عليه، وأعلن أنّه ضحية الزمن الرهيب.
في كل رواية، يتحرك السعي لتعويض الفقد، فيتمثّل الحدث
المركزي في هذا السعي. في هذه الرواية، يبدو أن الحدث المركزي يتمثّل في العجز عن
تعويض الفقد، وليس هذا جديداً في الرواية العربية المعاصرة، إذ أنه يمثّل ظاهرة
تبيناها في غير رواية، تمثل ظاهرة العجز العربي في هذا الزمن.
يتمثل المحور المركزي، في هذه الرواية، في العجز عن
امتلاك لحظة تصنع الزمن، وتحوله من زمن رهيب، الى زمن انساني.
في سبيل تعويض الفقد تحوّل عرب عبد الكريم الأنصاري الى
ايفان بيتر بورغ، وظن أنه من دائه العضال: داء فقد الوطن، وأن الريح اقتلعت شوكة
هذا الفقد من قلبه، لكنّ ظنه خاب، فالوطن يسكنه وإن لم يسكن الوطن، يقول إيفان:
" أنا حبيس شخص اسمه عرب، وعالمه الذي يطاردني. وإن ايفان الذي يستسلم بين
أضلاعها، ينحشر في جسدها كأنه في زنزانة، صارت حياته مطلوبة بمذكرة جلب للشبح الذي
يتسلل بين أنفاسه (117). وغداً مثل الأب جوزيف (وهو ابن عمه نمر، وكان قد تحوّل
ابان النكبة) الذي أوصى بأن يرقصوا على قبره، على قبر رجل عاش حياةً غير حياته،
ولبس اسماً غير اسمه، ورحل في أرض ليست له.
عرب جاء الى الدنيا في شوادر منصوبة بين الصبّار... كانت
الجزمة في طفولته وسيلة النقل الوحيدة في أوحال المخيم،.. بدأ تمرده على واقعه بأن
أراد أن يعيش كما يريد، وسار على مبدأ وحيد مفاده أن لا يرتبط بأي شيء على
الاطلاق، مارس المجون بمختلف أصنافه، وكلما التقى امرأة جميلة ومدينة تروقه أو
زجاجة نبيذ فاخر عدّ ذلك أهم ما حدث له في الحياة (191،190)..، غادر الى أوروبا في
منحة دراسية، ولجأ الى بلجيكا فألمانيا، حيث غيّر اسمه وغدا إيفان الألماني،
وإيفان، كما هو معروف، يوصف في التاريخ الغربي بإيفان الرهيب، ويراه عرب "كما
هو ايفان الصهيوني الذي عاث في بلدي فساداً ودماراً وقصف أعمار، وبقي رهيباً، ولكن
ليس رهيباً بنظرهم (195،194)، تراه جولي، زوجة عرب الألمانية، اسماً جميلاً،
وتختاره لزوجها فيرتضيه ويحمله ثلاثين عاماً.
لكن ظلاً غريباً يظهر لإيفان، بعد أن تعرّض لأحداث زلزلت
قوقعته، يقول: أنظر في وجهي، فأراه ينبئني بقدومه من غياهب النسيان، يقول: أنا
عرب، ألا تعرفني؟ هل تجرؤ على تجاهلي؟ جئت من خلف الستار الذي أسدلته على حياتك..
لم أعد أصدق أن هذا الشيء الذي استباحني هو ظل، مجرد خيال .. (29،28).
بقي ظله يطارده الى أن قرر التخلص منه، فصوّب المسدس الى
رأسه ومضى، يقول: ".. سأسحق رأسه الهزلي، هو عرب، بين ضجيج مقيت بلا فواصل،
كي يكون هو إيفان وأنا عرب، حتى وإن طال الفاصل، وأنتشى في لوعة الانتظار، وأنا
أتلمّس زناد المسدس، الذي اشتراه بين هواش التونسي المخلوع الأظافر، ليمسح عار
شقيقة غدرت تقاليده في الغربة" (201). " من يعني الضحية إيفان أم عرب؟
من قتل من؟ أي طاغية مستبد قتل اسمي؟".
غرابة أخرى يصورها هذا القول، تتمثل في فظاعة قمع السلطة
العربية (قلع الأظافر) وازدواجية الشخصية (مسح العار بالقتل). حمل بن هوّاش رواسب
المجتمع العربي الى الغرب، وهذا القمع سنتحدّث عنه بعد قليل.
تذكر ايفان، قبل أن يسحق رأس ظله، صديقه صخراً، حينما
كتب له عبارة الشاعر بدر شاكر السياب: " من خان معنى أن يكون، فكيف
يكون؟!".
وصخر يمثل الطرف الآخر من ثنائية يمثل عرب/ ايفان طرفها
الأول. صخر بقي صخراً، بقي الفدائي المتدلي في الهواء المالح، بقي الحلم الكبير..،
ولكنه فقد، في زمن، تال، القدرة على تأمين قوت يومه، فيما رئيس تحرير صحيفة
"الثورة" يرسل :عرب فيمنحة الى بلغاريا ليخلو له حضن السكرتيرة الحسناء
التي كاد عرب يستأثر به. قال عرب قبل أن يسافر لصخر: "سأسلمه عهدتي كاملة،
وخصوصاً الصحفية المخضرمة، وأدله على جارتي المتزوجة من قبل رجل قضى مدة في سجن
عربي، وخرج بلا قدرة على ممارسة الجنس، فتعهدت بها..." (107)... وفيما تحوّل
نوع من القادة من قادة خلف المتراس الى قادة سماسرة.
عرب/ ايفان وصخر يمثّلان ثنائية كما قلنا، ولكنهما وصلا
الى النهاية نفسها في مكانين/ فضائين مختلفين.. عرب/ ايفان سحق رأس ايفان الرهيب
لا ليعود عرب، وانما ليكون ايفان الفلسطيني، بطلاً بلا انتصار، وصخر، أيضاً كان
بطلا بلا انتصار، لم تقلته الحروب، بل قتله الانكسار، لقد أدمن الكحول حتى
الاهتراء، قال لرفاقه: سأستريح على صخرة مبللة بملح البحر، واشار عليهم بأن يكملوا
الطريق..، (176،175)، ايفان الفلسطيني يريد هذا أيضاً، وهكذا يلتقيان في الطريق
التي يريدان للرفاق أن يكملوها..، وهكذا، أيضاَ، بقي الداء العضال الأمل وبقيت الشوكة..
يبقيان محرك السعي في الطريق.
وان يكن عرب وصخر عجزا، في هذا الزمن، عن تعويض الفقد،
فهذا يمثل مرحلة راهنة من تاريخنا. يثارن في هذه المرحلة، سؤال مركزي هو:
"أهو قدرنا أن نكون بين خيارين: أولهما الآخر/الغرب المستعمر، يفقدنا هويتنا
إن هُجرنا اليه أو قدم الينا، وثانيهما الطاغية الفاسد القامع، المهجّر.. فهذا
الغربي بن هواش، يمثل الأنموذج، لا أظافر في أصابع يديه، سحبت في أقبية التعذيب،
أمضى في الغرب خمس عشرة سنة، وصار مواطناً، وما زال مجرّد ذكر كلمة شرطي أمامه
تجعله ينتفضن ويتلفت يميناً وشمالاً، ويفسر ذلك بأنه شعور لا ارادي بعدما تشوهت
جيناته، والسؤال الذي يطرح هو، ما الذي يجب أن يتبدّل، في الوطن العربي، الجينات
أم الديكتاتور" (88).
هوذا الزمن الرهيب الذي تبينه ايفان بوضوح، وقد غدا
"ايفان الفلسطيني" رأى أن عليه أن يبقى لاهثاً ليمتلك لحظة من التاريخ ليصنع
بها الزمن، زمنه لا الزمن الرهيب، والسؤال الذي يطرح هو: من يمسك بهذه اللحظة
الفريدة من التاريخ؟
لم تصوب الرواية مرآتها الى هذا الحيز من الواقع/ المرجع
الروائي الذي صدرت عنه ورأت اليه، وانما صوبت الى موقع/ مرجع آخر، الى تجربة أفضت
الى أن يكون الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، أحد اثنين: أولهما عرب/ ايفان وظله
القاتل والمقتول، أو عرب/ أسماء شتى من دون ظلال، وهم كثر في الرواية، أولئك الذين
تغيروا واندمجوا: محمد= اليكس، فراس= فرانسوا، محسن= موزن، وثانيهما صخر الذي هرب
الى الكحول واهترأ...، وظلاله نوع من القادة والسماسرة، والطغاة.
صوّبت الرواية مرآتها الى هذا الحيز/ المرجع، واتخذت
بنية يختلط فيها السرد بالخطاب، الذي يطول ويهيمن، وخصوصاً في القسم الأول من
الرواية. وهذه البنية التي يطغى فيها الخطاب تنطلق من حدث ظهور الظل، وتمضي في
استرجاع تمليه الذاكرة التي تمضي في سياق يمليه الخطاب الذي يسترجع الحدث
ويتأمله..
ويمضي هذا القص الى النهاية التي تأتي تالية في الزمن
للبداية، فتبدو البنية دائرية غير مقفلة، كأن ما بين البداية والنهاية يكشف ما أدى
الى ظهور الظل الحبيس وإطلاق النار... وقبل ذلك كشف حقيقة الزمن الرهيب، الذي كاد يكون
ريحاً تقلع الشوكة وتفضي الى فقد الأمل/ الهوية، كما انتهت الى الكشف عن مسار آخر
يفضي الى الوطن، يتمثّل هذا المسار في السفر الى صناعة الزمن، وإن طال اللهاث.
وفي الواقع/ المرجع، اليوم، من يفعل هذا، من يكمل طريق
صخر، وقد مشى خطوات في طريق سفره الطويل، فهل نتوقع من مروان عبد العال أن يصوّب
مرآته الى المسافرين في هذا الدرب، وهم يقتفون خطى صخر وأمثاله، فيكون السفر محطات
لكل رجل من رجالها الذين يلتقطون لحظات الزمن الجميل، لحظات يكون في كل منها بطل
حقيقي، في شتات الهوية وغربة النفس وجنون الاضطهاد، هذا الملتقط لحظات الزمن
الجميل ليصنع الزمن الخالي من الفقد هو، ما يعني أن رواية هذا البطل في الزمن
الآتي.. البطل الذي تهدى اليه هذه الرواية.
* أديب و ناقد واستاذ كلية الآداب / الجامعة اللبنانية
تعليقات
إرسال تعليق