تأملات خارج الذكريات الممنوعة *

نزهو بالمكان بيروت ويزهو بكم وبالجهة الداعية، في الذكرى التي هي ليست مجرد ذكرى . تحية  لكم والى الوطن في يوم " النكبة "، الى "فلسطين" هذا الحلم النقيض للوهم، والذكرى التي لم تكن يوما ذاكرة مستعارة  لأنها عصيّة على النسيان، ولأن صورتها الناصعة تظل غير قابلة للتشويه، وحدودها حلم يتجاوز التسويات الجزئية المنقوصة، بل انها رحم الصراع  في المنطقة بأسرها، والمكان ذاته لنهاية الصراع التاريخي. صراع بين رواية مزيفة ولكنها تمتلك قوة  "الباطل " الى حد الاستباحة، واخرى، رواية مقابلة وتمتلك قوة "الحق" الى حد الحقيقة، لها هوية عربية ووضوحها لا يعني انتصارها ،  ولا يزال سر بقاء القضية الفلسطينية في مداها  الفسيح في الوجدان العربي والانساني والراسخة كحق مقدس يأخذ  شكل  الحلم ويرسم صورة الحرية الحقيقية.
أردتها مجرد تأملات في ثلاثية روائية متداخلة ، من سرديات واقعية عندما تقرأها  على مدى شعاع معاناتها وقضيتها،  مشاهد من يوميات منفية تشعر فيها انك امام رواية شتات فلسطين في الشتات العربي، أو أنك تتذوق طعم النكبة العربية في النكهة الفلسطينية  المُرّة، تبتلعها دون ان تراها، وتقتفي أثرها العميق في غربة النفس  بمنفاها الخارجي او الداخلي، عبر خيط يربط الحضور الملحمي المثيولوجي  من جهة بالحضور الواقعي التراجيدي من جهة أخرى، ترتقي بها الى مصاف الحرية الانسانية ... قد يكون الروائي عربيا يعيش المنفى  لأنه في حلبة صراع أصلا أو يعيش البيئة الثقافية الفلسطينية المنفية مثل عبدالرحمن المنيف ، او روائي يقتسم الروح والسفر والحلم مثل رضوى عاشور، او الروائي الفلسطيني الأصل "جبرا ابراهيم جبرا" يعيش في المنفى العربي بآلامه واماله، سواء كان في بلد بعيد او قريب في مدينة أو مخيم، لكنه اخيرا في بلاد وان كانت عزيزة لكنها ليست وطنه ، ويعمل فيها، وهو نتاج ثقافتها،  موضوع روايته مهما تميزت فأنها لن تبتعد عن موضوع الرواية العربية  نفسها، والفرق انه يقرأ الشخصيه الفلسطينية من داخلها، لذلك فإن علاقة الرواية العربية بالقضية الفلسطينية يرتبط بدرجة إسهام المثقّف الفلسطيني في عملية الابداع العربي، وجبرا جسّد هذا التفاعل العضوي والانساني عبر سرد ممتع ليوميات سراب الفلسطينية أي شتات في منفاها العربي في روايته "يوميات سراب عفان" تلامس تفاصيل الغربة في مدن غريبة ويوميات المنفى تترك اثارها الدامغة في حياته.  يكتب: ننا بعض من الكوميديا الالهيه، حيث الجحيم اكبر مساحة ألف مرة من الفردوس، ولو اننا نلمح الفردوس احيانا، بل قد ندخله مرة لنعود فنخرج منه ليلقى بنا في الجحيم .... وهذه هي الغربة الابدية: وجودنا دوما خارج الزمان وخارج المكان." وثم يخرج الخطاب من الدئرة العربية  نحو المدى الكوني الشامل الى امبروطورية الغربة أو اممية القهر، فجاءت إشارة "جبرا" في اليوميات وبلسان البطل: "مع كل احترامي للامبراطور، فإن مستقبل العالم يقلقني، يقلقني جداً، أكثر مما يقلقني مستقبل حقل الدواجن. لحقل الدواجن من يقلق عليه - رب العمل، زوجته شركاؤه. والربح فيه. مضمون لهم جميعاً. أما العالم، فإذا لم نقلق نحن عليه ، إذ لم أقلق أنا عليه، فمن يقلق ؟ أما الربح فليس مضموناً لأحد."
أما المنفى الايجابي  يبان من خلال تحدي الغربة وبرمزية  المخيم ، بوصفه وجه الغربة القاتلة، حين يعطى صورة الانسان اللاجئ كي يثير الشفقة  كرمزية انسانية قبل ان يصبح قضية سياسية بإمتياز، عبر التحول من حالة الى اخرى ،  صورة  الخيمة وكرت الاعاشة وكيس الطحين والكوبون والكرتونة.....الخ ، كرمزيات للذل  والمهانة وعقدة  النقص والذنب، الى صورة  الفدائي والثائر والبطل "المخلص"  كرمز الكرامة والشاهد على جريمة النكبة. وفي كل الحالات ظل المخيم كومونة اجتماعية ومنشط حيوي للذاكرة، في رحلة الانتقال من رواية الانروا الى رواية الثورة، من المشرد الذي يختنق تحت الخيام الى الكائن إلاجتماعي الحيوي الذي يتنفس برئتي الحكاية وبروحها، سيما انه يحفظ الهوية وللمجتمع ويصنع ويفترض ويتخيل ذاكرته.
 المنفى الاخر النقيض ، يوضح لنا   وظيفة الصهيونية منذ تأسيسها كحركة عنصرية، هدفت الى تجميع ذاكرة  يهودية واختلاق رواية  لجماعة غير موحدة  في اقليم، معتبرا ان العودة الى ما يسمى بأرض الميعاد يجب ان يسير مع عودة هذه الارض الى التاريخ أي التاريخ "اليهودي" ، اي اختراع هوية ، وفي ذات الوقت التعامل على اساس طمس التاريخ الفلسطيني  وتشتيت الهوية الجمعية وتحويلها مع الوقت الى ذكريات ممنوعة . هنا ارى ان اهمية استخدام فكرة المنفى في ظل العولمة لتجعل من ادب المنفى ليست استثناء سلبي بل كأداة نقدية  تسهم في حفظ الهوية والخصوصية والاهم حماية الذاكرة  كي تبقى حيّة، ان تظل جارية لا تأسن ولا تتعفن، كما حولت فكرة النكبة الذاكرة التراجيدية الى ذاكرة فاعلة ، فصار الحنين الى بياراتُ حيفا وبرتقالُ يافا وحجارةُ القدس وعنبُ الخليل، وزيتونُ جبل النار ، ليس مجرد بكائيات على الاطلال ، إنمّا إلى حركةٍ عقلية تنويرية، وثم إلى فعلٍ مقاوم، وبذلك نقل الأدبُ المقاومُ من ذاكرة الإنسانَ الفلسطيني الغير منفصلة عن ذاكرة العربي، والانتقال من شكلها السلبي إلى الإيجابي لتصل بين ذاكرتين. كي تطلق عناصر فنية جديدة ورموز ايجابية في قلب الحكاية العربية. تظل ارض المنفى أرضا خصبة للخيال وحقلا للذاكرة ، كما كتبها جبرا ابراهيم جبرا  في مدنه البعيدة:  "لماذا لا اكتب عن وقائعي هذه الايام ؟ ولكن أية وقائع؟ ما الذي يمكن ان اكتب؟ مما لم أكتبه حتى الآن، عن يوم بعد يوم من الوتيرة نفسها، من السأم نفسه، من الغثيان نفسه؟ ولكن الذاكرة والخيال : ما العالم كله ان هو قورن بهما ، اذا اجتمعا؟"
اما المنفى السلبي ذاك المُعلّق بمؤشر القضية صعودا وهبوطا يمد الرواية العربية بالطقوس والرمزيات، ينعكس في حركة  الرواية من البطل الاسطوري "سوبرمان" الذي يستحق العشق في سرديات إنتصاروية،  وادخلت البطل الفلسطيني في روايات عربية كرمزية لمكانة القضية او كتعبير او تعويض عن أزمة ذاتية وجماعية، فكان المطارد بلا مأوى ، أو وجد مكانا مؤقتا لكنه ظل الشخصية الثنائية المتناقضة الى حد الانفصام، في محاولة لتسجيل زمن الانهيار من مدخل القضية المركزية تستبق المتغيرات وتمهد لها ولو بصورة انتهازية أحيانا، فوجدنا من قام بتصوير الفلسطيني  في الغربة البعيدة و يحمل في جسده جراحات الحروب الداخلية والاهلية والانقسامات، وهي كلها في ذاكرته السلبية سواءً بالنظر الى نفسه او نظر الاخرين إليه، لم يتحرر من النقائض والنقائص وبقيت تعيش داخله في المنفى.  والوجه الايجابي الاخر كضحية ايجابية تعاني من ظلم واجحاف وتنكّر القريب، عبر اسقاط مصائب وخيبات البلاد على الفلسطيني "الغريب" كما في رواية الطنطورية لرضوى عاشور:"  قال ان صديقا له زار بيروت. مؤخرا والتقى بشاب رفع عينيه فجأة وقال هامسا: " انا فلسطيني، كأنه يسر لي بالأمر أو ينقل حقيقة على استيحاء، وتستدعي الشرح او الاعتذار. قال المجتمع غدا طاردا للفلسطينيين."
قومية النكبة وقومية المعركة ، تحتاجها رواية عربية تسعى الى  نقد التاريخ والواقع اكثر من توصيفه او تأريخه، وتدرك المغزى العيني للتاريخ، عبر وظيفة  تتعقب عناصره المعيقة ، كأشاعة ثقافة الهزيمة أو صناعة  ذهنية " الغيتو"  وكشف عناصر العجز والردة  والنكوص عن مقاومة  العدو الصهيوني.  فالنكبة عربية لذلك المقاومة عربية  لا يمكن تخصيصها واعطاء وكالة حصرية  رسمية بها، والمسؤولية عربية واسبابها اكثر من مساحة فلسطين على حد قال "بن غوريون" بعد حصول النكبة مباشرة: "انكم لم تنتصروا بسبب قوتكم بل بسبب تفسخ وتخلف وضعف عدوكم" ولأن الفلسطينيين هم جزء من التخلف العربي يومها والذي كان سائدا وفي مجتمع  متعب بالانقسامات القبلية والعشائرية في العشرينات الذي استمر في سياق سلبي حتى فشل ثورة 1936 ووصل الى الذروة عام 1948و بكل حزن مازال يتكرر حتى الان، امة مفككة ومجتمع ""ما قبل سياسي"، فالتخلف ان لم يُقاوم عصيّ على التقدم، ولكن الهزيمة ظلت حتى اللحظة تستمد بقاؤها من عناصر الجهل والرجعية. والنسق السلبي وحده يعيد انتاج النكبة  هكذا  في "شرق المتوسط" كتب عبد الرحمن المنيف حكاية القمع في سجون العرب. "حلمت أول أمس أنك خرجت من السجن. لم تخرج ماشيا، خرجت على نقالة اسعاف، تصور يا اخي اني لم أستطع ان أذوق طعاما منذ اول أمس، وطول الوقت أبكي، وقد غضب حامد ووجه لي كلمات قاسية."
 شتات الرواية العربية الفعلي حين لا تكون نفيا حضاريا للمنفى القهري ، وتظل مطاردة بفكرتها وموضوعها، ولا تستطيع حمل الاسئلة الجريئة المتعلقة بسؤال الحرية والوطن والنهضة، في التصدي للظلامية، ذاك الظلام الذي كتبه جبرا  في روايته اليوميات ينتظر نقطة ضوء رغم الموت المؤجل : "هناك دائما موت مؤجل، وفي الظلام المستشري، تتعثر الذات في بحثها عن نقطه الضوء التي قد تؤشر الى منفذ محتمل، حيث لا بشر، ولا أصوات، سوى اصوات الزيزان في يوم حار، وربما صوت الريح الفجائيه في عشية باردة ."
من المنفى الى النفي ، تلك هي دئراة الخطر في تدمير التاريخ  كي نكون خارجه ، نسف الذاكرة وارجاعها الى نقطة الصفر كأمة بلا ماض، ثم نفي العقل و لمصادرة الارادة  كلها بشوهدها المتنوعة  مقدمات كي نخسر معنى فلسطين، هو قبول تاريخي طوعي  للبشاعة على حساب الجمال الانساني ، ووثيقة تصادق على الكذب السياسي بدل الحقيقة التاريخية ، ما قيمة الرواية مع احتلال اللغة  واستباحة الشخصية ؟  وحين توضع حياتنا في قوالب الاستلاب والعجز والهوان وقبول الاخر، ونمضي بشكل مبرمج في استعارة مصطلحات الاخر وتعتبر ان الحلم مجرد وهم وان فلسطين ليست شأننا عربيا، وزوال الكيان من سابع المستحيلات هذا ان ظل يعتبر عدوا.  نحن نعرف ان فلسطين الحق تحضر اليوم بصفتها الحقيقية كذلك، كحصيلة التاريخ الدرامي للقضية الفلسطينية . هي دعوة  جبرا ابراهيم جبرا الى سراب، حتى لا تأكلها الغربة،  ولتظل متمسكة بسؤال ما معنى أن تكون، كقضية وهوية. لانه الرهان الاول والاخير"..... وتحشو عبها بأشعة شمس لم يخلق الله مثلها الا على جبل المكبر. وهزت رأسها، بعد أن حلت عنه المنديل المبلل، لتطلق شعرها وترسله على طوله حول وجهها وكتفيها ، وقالت : " ولكن كلامي ، لهجتي فلسطينيتي ..." فلتكوني فلسطينية، فلتكوني صخرةً من القدس، ولتكوني زيتونة من نابلس، ولكنك تبقين أنت سراب عفان. أفهمت؟"
أما تجديد المنفى يمر في زمن العجز العربي يعيد انتاج الشتات بحرا وجوا وبرا، ويهبط بمنسوب خطاب الهوية لدى الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، الغائب هو انتلجنسيا الدياسبورا الفلسطينية. في زمن تتنكر فيها الرواية للراوي واختراق المؤلف حدود النص وعُزل عن بيئته وحاضنته ، محلقاً في قضايا تلح عليها صناديق الدول المانحة، في سبيل فصل القارئ أيضا عن قضيته المتعبة  والمملة والخاسرة  "كي يكون مبدعا حرا "، وبقدر ما يغرق في الصمت ويلهث وراء الهامش "الايروتيكي" الملتبس حياءً ولغة كي يكون ابداع الكاتب جريئا يناسب جائزة او منحة دولية. حين يسعى الخطاب الروائي في توصيف البؤس وتجهيل الفاعل السياسي فهو يسهم بوعي او بدونه الى حصار الكائن  العادي خلف جدار السلبية  وداخل بؤرة مخيفة وليصبح رقما في معادلة رياضية أمنية، والأسوأ المبالغة  المقصودة في تصوير الخطأ والبحث عن الافات والاوبئة الاجتماعية في "حي التنك" ويذكر القارئ مرارا ولغاية غير بريئة في نفس الكاتب،أن هذا المكان خارج عن القانون، بهدف تعميم ثقافة كراهية وانتاج بيئة سلبية نابذة لوجوده ، تختلط فيه شخصية الضحية بالقاتل، والبريء بالمجرم، والمطالب بالعدالة  الى هارب من وجه العدالة . زمن تطل من خلاله معادلة الهوية السلبية  والمضادة حين تعلن فيها نهاية  قصة "ام سعد" وبداية قصص "الجندرة ".
ذاك الفارق النوعي بين حكايتين بين الذاكرة والنسيان ، بين الحق والباطل ، بين المقاومة والاستلاب ، وبين البطل و الشاطر.  حكاية البطل أنه ايام الثورة  الكبرى كان يبيع أساور نعيمة ليحمي ضفائرها، أمّا في حكاية الشاطر  صارت تباع  نعيمة من أجل أساورها !

مروان عبدالعال
* قدمت كشهادة أدبية في المؤتمر السنوي الثالث " ثقافة المقاومة " بدعوة من "تكتل الجمعيات والهيئات الأهلية في لبنان"، "والملتقى الثقافي الجامعي " في إطار فعاليات "يوم العودة" في 15 أيار المقبل، برعاية وزير الثقافة ريمون عريجي، وذلك يوم  الإثنين 4 أيار المقبل، في الجلسة الرابعة الساعة  2 من يوم الثلاثاء في محور " المقاومة وأدبها " في قصر الاونيسكو ببيروت.


تعليقات

  1. تأخر حضورالنكبة في الأدب الفلسطيني ، ليأتي حضوره واعيا مديدا وبحجم الألم ليؤسس لذاكرة لا تفنى، ونفسا لا تغادر الأمل

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء