العائد إلى زمن الأُسطورة
كل سنة يزداد عمّا سبق حرارة التمسك بإنعاش الذاكرة تخليداً لذكراه، ما
السّر في ذلك؟ أن نرتجي العائد من وإلى زمن الأسطورة ، لعل غسان كنفاني الاقدر على
وصف ما يستحيل وصفه من مشهدٍ مفترض في
مسرح اللامعقول، خبرة التحليق في المتخيل والتماهي بملامحه الاسطورية ،كما لو أن أحدنا يتربص بذاك الخيط الخرافي الذي يرسم تقاسيم وجه التاريخ بشكل
مشّوه يتأرجح على قرنيّ ثورهائج ،
ولجعل القنديل الصغير يرتعد بين يدي حنظلة وهو يتسلق سلماً يبحث عن الشمس ليس داخل
القصرهذه المرة، بل خلف البحار . ماذا سيقول لو وجد الحصان الأنيق مذبوحاً على باب
المخيم ؟ والرجال مع البنادق في ساحات المدن بانتظار البرابرة، والبلاد تمزقها
مصارعة همجية لثيران شاردة من العصر
الحجري . نجده في اليراع النازف يرنو إلى
افقٍ جديد في اسطورة باقية بعيون فتاة صغيرة تحمل زهرة .
ما أحوجنا إلى أسطورتنا الخاصة
، حاجتنا الى حلم عمومي يمسك بالقوة الكامنة التي تبعث الحياة فينا . أسطورة غسان كنفاني كتبت على جدار الشقاء بحجم قضية
تمتد على مساحة الأمل، ندرك الفارق
في رخاوة اللغة التي ادمنت الاستجداء السياسي، وقوة الحق الذي يوقد
شعلة الوعي بالتّمرد والكبرياء والحقيقة . عائدٌ من زمنه يوم اختار ان يكون نوع
المحارب الذي يريد، وقد قاتل بشراسة حتى آخر حرف / رصاصة ولم يترك ساحة الشرف : "
وأي نوع من المحاربين يريدون؟ محاربون يلبسون المعاطف البيضاء ويردون على الجرائم
اليهودية بابتسامات عذبة؟ أم يريدوننا أن نحارب بمحاضر جلسات جامعة الدول
العربية؟" .
هل بتنا نحتاج الأسطورة كلما انسحب الواقع من تحت أقدامنا؟ انشطار
نصفي في الخيال نفسه ، مثل الرقص الرومانسي
في زمن ذبح الاسطورة ، او هندسة الفرح
الدموي بفنون وقحة ، كما يعاد انتاج المشاعرالانسانية في قوالب من بشاعة استثنائية ، لواقع بات
اسطوريا ، تخضع اعيننا لعملية تمثيل بالاحاسيس، وتطارد الكائن الجميل في داخل كل واحد
منّا، ونحن قد ندرك أو لا ندرك ذلك. استوقفني ما قاله كاهن اميركي لمضيفه الياباني : لقد حضرت
احتفالات دينية عدة وزرت أماكن عبادة لكن لم اعثر على ايديولوجيتكم ،
ولم افهم اللاهوت عندكم .غرق الياباني في تفكير عميق وهز رأسه قائلا: لا يوجد لدينا لا علم ايديولوجيا ولا علم
لاهوت . نحن نرقص!
كان الفيلسوف شاهدا على هذه المحادثة فعلّق قائلاً : انه رقص على موسيقى الكون . تلك
الموسيقى التي تعزفها الأسطورة . وعلق آخر
حين ابيدت الأسطورة القديمة عندكم صارت أميركا عالما جديدا بلا ذاكرة وعالم حديث
وفظيع ومتوحش.
غسان
كنفاني ظاهرة اسطورية من حياة وموت، ثقافة وكفاح ومقاومة ، كتابة ونضال وشهيد ، قصة وبحث ورسم ولوحة ودراسة ، مجلة
وجريدة ومقال ومقابلة وسؤال وقفشة ودبوس، كلمة وطلقة وفيلم وزهرة ، ورقة وقلم وحبر
ودم ، وطن ومخيم ، غسان توقيع جديد واسم مستعار وسخرية سوداء ، غسان مؤتمر وصحافة
و سفر وفرح وحزن وغضب وعشق وانفجار . كلها تنسج
ثوبها المزركش من خيوط ملونة فيها احلام جماعية وحوافز انسانية ورغبات
سياسية وقيم وغايات نبيلة ولكن في بوتقة واحدة، قماشة تسمى الاسطورة حيث تحتفي
فيها كل الاشياء وتظل مرتبطة بالأسئلة
الوجودية الكبرى، يحتاج ادراكها الى الإمساك بالتخوم الخفيّة في صورة الهوية التي
تلامس أسرار وجودنا ومن نكون .
رحل غسان، لكنه لم يمت وظل يراوغ
لغز الموت ساخراً من القدر، مضت سنوات على غيابه فاختمرت الحياة برموز الاسطورة في روح كلماته . المفكر العروبي
المرحوم "منح الصلح" اناط
اللثام عن السر يوم قدم نصيحة ثمينة للكاتب الشاب غسان، لا تكتب نصاً ليُرضي
"كوادر الجبهة الشعبية "، اكتب
الى أدب الدرجة الأولى، كان غسان قد اجترح اسطورته الخاصة مؤمناً بقول بريخت : " من يكتب أدبًا رديئًا فإنه يخون
الجماهير"، لذلك عندما استشهد غسان رثاه "الصلح "المفكّر الألمعي عينه، بوصفٍ
جميل : " لقد كان قادراً على ان يجعل المادة
الأيديولوجية تختفي وراء الامتاع الفني الكتابي ووراء الخبر الجذاب ، كما
تختفي الفيتامينات في برتقالة يافاوية او صيداوية شهية. ويا له من مهرّب حاذق يحسن
سوق المفيد في لفائف المثير والمخدر والمستطاب".
لم
يكتب غسان على أسطر مائلة ليهرب من الاسئلة ويستقيل من الواقع ، ليكتمل
شرط الفن من أجل الفن لديه، بل دخل بشجاعة خضم البحث الابداعي وهو يفسر صيغة
السؤال الذي يحرك العقلَ ويترك أثرَهُ في الوعي . بإعتبار أنه
مفتاح فكري للأدب الاستباقي المسكون بفلسفة السؤال مهما كان مكلفاً ، لأنه
يدرك انه يكتب سيرة الأسطورة الاولى ، لأنها حجر الأساس لكل فعلٍ تغييري ثوريٍّ مقاومٍ : "إن الطب يستطيع أن يسد ثقباً في الأمعاء
, لكنه لا يستطيع مطلقاً أن يجد أجوبة ليسد بها ثقوباً في التفكير" .
يظل الفرق بين كلمات تموت لحظة ولادتها ، أو تأخذ حيزها المحدد في الزمن ، وبين كلمات يموت اصحابها
وتظل خالدة ، لأن الاولى تعزف على أوتار ميتة
كان يسميها "علك كلام" , أم الثانية فأنها تعزف على شرايين تتدفق بالحياة . "الكلماتُ كُلُّها
عُلِكَت من قِبلَ أناس آخرين ولكن وقعَ يدكِ على جبيني كان دائما ولادةً لشيء ما رائع و متوهج مثل ومضة لهب ، كان دائما
شيئا خاصا و شخصيا و لا يعوض".
يتأسطر
شخص ما عندما يصبح نموذجاً لحياة شعبه ،
ويحمل احلامهم الجماعية ، ويعيد صياغة أوجاعهم بشكل أسئلة قاسية بتفاعلاتها، وتظل
تحيا كرواية مفتوحة : لماذا لم يدقوا
جدران الخزان؟ من قتل ليلى الحايك ؟ ما هو
الوطن؟ "-أتعرفين ما هو الوطن يا
صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله" . لكن هذه لا يعتبرها إجابة ، فالسؤال هنا
لا ينتهي بجواب : ما هو الوطن ؟ خلدون؟ أوهامنا عنه ؟ الأبوة؟ البنوّة؟ ما هو
الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة أية ، معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط
."
هكذا يبقى السؤال سرداً مستمراً
وصدى يتردد في فضاء الصمت والخنوع ، يظل نشيدا يتجدد حين يعيد التأكيد : انني اسأل
فقط ". لذلك يظل السائل حاضراً خالدا
بمدى السؤال وعمقه وابعاده، يحرض الجميع، يساهم في البحث عن اجابة قد تستدعي أسئلة جديدة. اعمال
مختلفة ومتباعدة نوعيا، قد لا تجد جوابا عليه ، لأنه ليس مجرد سؤال، ينتظر إجابة
كما في نهاية روايته ، هو بحث مستمر عن
معنى الوطن وليس الوطن فقط . خسارة
المعنى هي الخسارة الحقيقية للوطن . لانها
فقدان لخارطة الطريق الداخلية المؤديه
إليه .
تبتلعنا الاسطورة في المنفى، يتناغم السؤال مع وجودنا الداخلي الحميم ، حين
ترتفع درجة العطش إليه وخاصة حين يكون الشتات جاحداً ، يصبح الكلام تخاطراً يمنحنا
الاحساس بالغبطة ويؤنس الروح . نتخيل له الصور التي تريده أحلامنا المشردة ونرسم له وجوها متعدده ، الشئ الذي يجعل من
الادب يمتلك حسا انسانيا، هو قدرته على النطق ليس بلسان الناس بل بأحلامهم ،
واحيانا يبدع الأدب ويتفوق حين يستنطق ليس
الناس وحدهم بل ملائكتهم ايضا.. ويجعلنا نقول
بأنه أدب سرمدي يخترق الازمنة ويمر في كل
زمن .
كان غسان كنفاني ثورياً من العيار
الثقيل، عاش الوطن والنكبة والخروج والخيمة والغربة ورغبة العودة واحتراق الفكرة و
انطلاق الثورة، و شغف البحث المستمر عن رسالة الحقيقة في حفظ قيمة الكلمة ومعناها ،
مدركا ان مدخلها الفلسفي يظل في العمق
الداخلي بابعاده الانسانية، حين تؤكد ان الحقيقة يستحيل أن تصادر او تعتقل أو يلوى عنقها، وكذلك الأفكار
لا يمكن قطع رأسها . الحقيقة التي تستند
الى ذهنية "التفكير" في جبهة
الحق ومع الحرية، النقيض الطبيعي لذهنية "التكفير" والظلامية . مفهوم الحقيقة التي تلتزم بالمعنى :الحقيقة كل الحقيقة للجماهير " أي ان يكون الكاتب
صادقاً. ان يقول الحقيقة ويصوب سهامه نحو
العيوب ولكن ليس بالمعنى السلبي للتصويب. حذّر من مغبة ان تتحول عيوب الحياة
الى قيمة محببة لديه، يحاول ان يخفف من وقعها بسخريته المعهودة :
-"
وأنت، أتعتقد أننا سنظل نخطئ ؟ وإن كففنا ذات يوم عن الخطأ، فما الذي يتبقى لديك ؟
" ربما لأنه يستشعر خطر ليجد العزلة ، والكلمة الصادقة سهماً جارحاً ، تغيظ الاخر بقساوتها ، اي يفقد
القيمة التبادلية في التعلم والتعليم او في
الغاية النقدية نحو ادراك الحقيقة
. كتب غسان كنفاني يقول:
"إننا
نتعلم من الجماهير، ونعلمها" ومع ذلك فإنه يبدو لي يقيناً أننا لم نتخرج بعد
من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءاً
لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب.”
البطل الاسطوري هو البطل الجماعي ، وان كان فردا ً يلخص في رسالته الغاية
الجامعة . يلعب فيه الفعل كدور البطل المُخلّص، كانت الاسطورة في تحقيق شرعية
البقاء ونقل حالة المنفى السلبي الى المنفى الايجابي ، الذي ظل منشطاً حيوياً
للذاكرة ، نقلها من ذاكرة تراجيدية تجيد محاكاة المآساة الى ذاكرة فاعلة ومقاومة ، حين كتب غسان
كنفاني وجع المنفى وبساطة المخيم في "ام سعد" يقول عنها: " كانت
أم سعد علمتني طويلا كيف يجترح المنفي مفرداته وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة
المحراث في الأرض ".
يعود غسان من جديد مع الصغير الذي ينزح من المخيم والى البيت الذي
يحترق بنار القوى السوداء والطريق الذي
تغيرت ملامحه بفعل الركام ، كيف يترك المخيم بطل الكومونة الاجتماعية ؟ يتنفس معه
الرئة ذاتها التي اتخذت شكل الفضيلة ، والقضية السياسية بإمتياز. لذلك
في قصته "أبعد من حدود " وبشكل مبكر تهكم بأسلوبه الساخر من
ثقافة المؤسسات الأجنبية وناقدا لاذعا لما
سمي "ادب الانروا" الذي يسعى
لخلق ثقافة التسّول، حين كتب عام 1962 في القصة عينها "أنا أريد أن أقول أيضاً إنهم من ناحية
أخرى ، "حالة تجارية".. إنهم، أولاً، قيمة سياحية، فكل زائر يجب أن يذهب
إلى المخيمات، وعلى اللاجئين أن يقفوا بالصف وأن يطلقوا وجوههم بكل الأسى الممكن،
زيادة على الأصل، فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور، ويحزن قليلاً.. ثم يذهب إلى
بلده ويقول: "زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أن ينقرضوا" .
كان معه قبل انطلاق الثورة
الفلسطينية المعاصرة ، وبنقده اللّاذع في ذاك الوقت للذين يستخدمون معاناة المخيم
لأغراض رخيصة ، كأنه مازال هنا يحاكي حاله اليوم في زمن سماسرة تجارة متنوعة ، بضاعته البشر والحجر والقيم ، يتحول
الظلم الى فرصة للربح . " ثم إنهم، ثانياً، قيمة زعامية، فهم
مادة الخطابات الوطنية واللفتات الإنسانية والمزايدات الشعبية.. وأنت ترى، يا
سيدي، لقد أصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يميناً ويساراً!
"
أي أسطورة أعطته سرها الخالد؟
وجعلته يتنبأ في زمن الهجرة الى البحار
وليس صحراء الى الغرب وليس الى الشرق ، لم تنقلب الجهات كما الفصول ، لكن
المخيم تحول الى فزّاعة، سُكّانَه
منبوذون، حتى النازح من مخيم لآخر هو بضاعة فائضة صنعتها ثقافة الخوف واعلام السّبق
والكراهية قال في ذات السّرد :
"سيدي، ليس هناك أي "ثم" ! هذه حقيقة مروعة، ولكنها حقيقة على أية
حال.. لقد تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم، أنا كفرد/ مجرد خنزير، وأنا، كجماعة،
حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وسياسية وزعامية.."
غسان كنفاني، إنك الأبن البار للأسطورة والعائد منها وإليها، لتعلمنا أن لكل شعب
اسطورته ولكل اسطورة بطل، بطل يفكر بعقل يقظ ويحلم بعيون مفتوحة حتى لا يسرق نومه
كابوس مريع أو يسطو على أسطورته مخادع ، البطل
الاسطوري هو الذي يصنع زمنه ويجلب ضوء الشمس الى البلاد ، أسطورة الخلاص من
الظلمات والوهن والعجز والتخلف والجهل حيث تعيث القوى الوحشية في الوطن قتلا وعبثا
وفساداً .
مروان عبد العال*
روائي وتشكيلي وسياسي فلسطيني
تعليقات
إرسال تعليق