الكتابة بسهم روبن هود

 أزف التّحية بشغف بمناسبة حلول رواية "عسل المرايا"  للكاتب نافذ ابو حسنة، وشكراً للفرصة التي منحت لي لمرافقة اطلالتها واياكم، رغم ان بضع كلمات لا يمكن أن تختزل عملاً او عمراً بلحظات، لكن اسمحوا لي ببطاقة تهنئة بمناسبة هذه الولادة المباركة خارج الموت المألوف، والصرخة الإيجابية التي تخترق العقم وبصيص قلم يضيء سواد العتمة .. وحلم يزهر رغم تفشي اليأس .
        جاء على لسان ابن رشيق: "كانت القبيلةُ من العرب إذا نبغ فيها شاعرٌ أتت القبائل فهنّأتها"... كيف ان كان الفتى من ذات القبيلة؟ ومن عشيرة الثقافَة، وانسان جميل وفتى ذو نطاقين ناسفين، مرة قال الروائي جمال الغيطاني " في العمل الصحفي ينظر الإنسان إلى الحجر وفي العمل الروائي ينظر الحجر الى الانسان".
       لذلك تناغمت فيه تربتان، تربة الكاتب والَتفَاعلات التي إشتعلت فيه وكوّنته وتربة النص الروائي نفسه، لذلك ليس غريبا ان اشبّه قلم نافذ ابو حسنة بسهم روبن هود، انصهار المثقف في الروائي الذي يسجل الروح، والاعلامي الذي يكتب الحدث، يتميز بالنفس التّمرّدي في فتى نبيل شجاعته في هز أعمدة  قصر السلطان الذي ينهب قوت وعمر وحياة وغد الشعب .
     روبن هود يسرق من القصر ليطعم جائعين بلدته. دعوة الى لإلقاء حجر في المياه الراكدة التواقة الى الحراك المفقود، وسهم يخترق جمود العقل واقالة الوعي! الحراك الثقافي الذي ينقذ سلطة المثقف، لا يرهن وجوده لا لمنصب بل لبقاء الإحساس النقدي، الذي يشي بعدم تقبّل الصيغ السهلة أو الافكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة ومغريات السلطة التي تسرق أعمار الناس لتخلد أعمار شاغليها.
    أما بعد، فالأدب أهم مفاتيح الهوية الفلسطينية.. حين يكتب حكاية الفلسطيني، فلسطيني من لحم ودم وحلم، قبل أن تكتب حكايتنا مؤسسة بحث دولية، أو جهاز استخباري محترف، ولا توصيات مؤتمر غير حكومي، أو لجنة تقصي حقائق تابعة للامم المتحدة، الحكاية بقلم يطلقه وتر الفلسطيني المطابق لكل مواصفات اللجوء والكامل النكهة ..
   يتواصل الراوي في زمن دائري كلما اكتملت دائرة تبدأ الاخرى تضيق كمقام البكاء مع الخرافة الفظيعة التي تتفشّى لتنال من حس الخليقة، لتفتيت المقام بنية وكيان ومن زمن تكسير المرايا الخادعة التي لم تعد تعكس حقيقة صورها.
    هوية الذي تكتشفه بالتقسيط،  هو الخليط المُميّز وكلما تخلى عن حمولته السياسية المباشرة، وهي مهنة شبه مستحيلة، يصبح اكثر وضوحاً ليضمحل الجدار الفاصل بينك وبينه. مع كل فعلٍ روائي يصبح أكثر شفافية، كأنه طبقة زجاجية رقيقة تتجاوز مهمة الصحفي المراوغ، الذي يلبسه ثوب المحقق المريب، حتى لو كان غلافه "المشهد الفلسطيني"، منذ ان أتاح لي قلمه الأدبي التسلّل المتدرّج و المتواصل في طبقات النفس واوجاعها والذاكرة المقتلعة والمستدَامة في الزمان والمكان. مَوْلده في "غزة" الولاّدة .. ولكنه اللاجئ الافقي عابر للحدود وللمخيمات وللبلاد، والذي تحول الى لاجئ بعيد المدى، العابر للمحيطات والصحاري والقارات. وبين الفلسطيني اللاجئ العامودي الذي تتواصل غربته في النفس الواحدة والبلد الواحدة والمخيم الواحد في حلقات مغلقة "وغيتو" ليضيف تعريف جديد لأصناف البشر، قسمة جديدة : اللاجئ المقيم والمؤقت والدائم والانسان الشرعي والغير شرعي.. سمعت اخيراً بتعبير البشر الغير شرعيين.. كما تصفهم وسائل الاعلام الغربية .. أو المسافر الطبيعي بحقيبة وحتى جاء نوع اخر من البشر : مسافر بدون حقيبة ! كما سألت طفلة ايطالية : لماذا هؤلاء المسافرون بلا حقائب .. ؟؟ لقد احترق الوطن والبيت والسفينة فما لزوم الحقيبة ؟؟ يا صديقي وانا وانت بيننا بيت ومخيم وحريق ونعلم أكثر من غيرنا انه لا ذكريات نحملها عندما ينتصر الحريق !!..
     مع ذلك لم تهّجر وجه كاتب "مقام البكاء" الابتسامة الدائمة، وان اردت ان تفكك شيفرة الروح المقاومة فيه، تدرك ما قاله جورج امادو: "ليس لدينا حق أكثر استقامة وأكثر ثباتاً من حقنا في الحلم، أنه الحق الوحيد الذي لا يستطيع أي ديكتاتور أن يقلص من حجمه أو أن يلغيه". نعم انه حقنا في الحلم والابتسامة والامل وحب الحياة. لا يلام الحلم ان غفت عين الحالم. ولا نستطيع الحلم بعيون مفتوحة ولكن بعقول يقظة !
     هي تغريبة نكتبها بأعصابنا تروى حكاية الدياسبورا المتجدّدة. فكرة المنفى التي كانت وستظل تسهم في تكوين وعي الفلسطيني لذاته. الفلسطيني المنفي، هو الوجه المقابل في مرايا الغربة لصورة اليهودي التائه.. للضياع وجه سريالي بملامحه الوحشية ( ما بعد حداثوية) قالها رئيس بلدية لمدينة ليست في الوطن العربي الكبير "ان قلوب نيوزلاندا دافئة". لذلك حين نكتب واقعاً في هذه الايام يبدو خيالاً لا يصدق و هي عمل يساوى فعل الاسطورة..
هذه تربة صاحب عسل المرايا، التربة الخصبة بالوجع في زمن المرايا التي تحملنا الى تجربة ابطالها وانكسار شخصياتها وظهور الوجوه الملتبسه على المرايا، سرديات فنية جرت بشكل متشابك وتنتقل في زوايا المدينة المباحة المتفلتة من الزمن العربي المكبوت، ثم تقفز الى الحاضر المخفي خلف الكواليس والشوارع لمقاهي بيروت الخلفية ليروي لنا وجه آخر من حياة بيروت الفلسطينية بسردياتها اليومية، مما نتج عنه تنامي الحبكة القصصية.
     عادةً، السرد يبدأ بالرحيل. البطل يسافر، تدور عجلات السيارة أو تسمع هدير الباخرة ... لحظتها يسافر القارئ مع البطل. لا يرحل البطل وحده إنّما القارئ بصحبته، ينجح الكاتب في توريط القارئ وسحبه الى زمن الحكاية.. في عسل المرايا تبدأ الرواية روايتنا بجملة اولى: "ظهرت الدبابات على جسر المدينة". وتنتهي "وقف قبالة البحر مرات. تنشق الهواء الفاتر بقوة وعندما عاد للسير كانت رائحة مشوشة تملأ انفه".
اصاب سهم روبن هود فينا مقتلأً،  حين يتحول  القارئ الى شاهد ومقاتل وعاشق وحالم في زمن واحد كتبته الحروب التسلسلية التي تنام على سمفونية اطلاق النار وتستيقظ على هدنة مؤقته. حرب بصوت او بكاتم الصوت.
 يرصد النّص غرائبية الزمن في عمق المدينة الباردة.. يحبها بكل ما في النفس من عزله و وفي هذه الحالة تكون "سلام" ملاذه الوحيد.. "سلام" جرعة آمان في لحظة حرب حامية الوطيس. عشق مخيف خلف متراس رملي.. لذلك اختبأ الراوي خلف شخوص، وظهر كشبح في المرايا، حين قام بتفويض "عبد الرحمن " انتحل صورة البطل وحولّها الى الأنا المستترة المشحونة بالدراما وانسياب اللغة وافكارها النّاصعة الى حد المباشرة، وانعكاسات تاريخية ومنحنيات قِيميّة تربط بشكل فني بين محور القصة وشخصيات الرواية الرئيسية والثانوية.
    أجد ان الكاتب هنا اختار أدوات مبتكرة لم يعتد عليها القارىء، استطاع السطو عليها بالقلم الحلال وبدقة السهم الناري الروبن هودي، وأخرى انتشلها بخفة روائية وحبكة سردية من خلال تتابع الأحداث وتميزها بالابتكار والعمق والصور الرائعة للشخصيات وسلوكياتها والحوارات الداخلية والسياسية والانسانية لتطعم جوع الذاكرة في مرحلة اليباب .. حتى لا نظل على قيد اليأس نتأرجح بين ظهور الدبابات على الجسر والجلوس قبالة البحر..!
مروان عبد العال

ألقيت بتاريخ 4/9/2015 في قصر اليونيسكو – بيروت، حفل توقيع رواية "عسل المرايا" للكاتب "نافذ أبو حسنة"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء