الفتى الجديد وثورة "المنتمي"!


مروان عبد العال

ان كان السؤال الوجودي : ما هي الحياة ؟ الذي شكل حجر الأساس للفكر الوجودي القائم على فكرة عدم اختزال  الكائن الحي من خلال معادلة فيزيائية مجردة ، ووفق  الكاتب " كولن ولسون" في طرح  فلسفة "اللامنتمي" باعتبار ان الانسان سيد الحياة ، لتبيان الفارق الجوهري بين الانسان الالى والعضو الحي. ثم ما بعد اللامنتمي ، ان الحياة  بمعناها الاخير هي المقدرة على ممارسة الحرية  ولا معنى للحرية  دون هدف أخير.
ساعة ولدت الجبهة من جرح النكسة ومن دلالة الحدث الجاري في انتفاضة متجددة ، تلح علينا بوعي الدرس بفهم أعمق وأشمل وأدق، نستدرك معاً دروس التجربة الغنية والاصيلة لقراءة ابجدية الثورات، وهي تعلم كيف انها لا تولد من تلقاء نفسها  بدون ان تختمر أو يدبرها أحد.. ووفق فهمنا للحظة الثورية التاريخية نعرف خطأ القول أن لا أحد خطط ولا من توقع .. تأتي ساعة المخاض حين لا يستطيع الجنين البقاء في احشاء أمه ولا تقدر الام على حمله في احشائها يوما واحدا اضافياً. تولد وتنفجر بوصفها نمواً مفروضاً ومصطنعاً وغرست بذورها بعناية في تربة تولي معالجتها وتسميدها الثوريون من أوائل غرسوا دمهم في ترابها وذاكرتها ولغتها لذلك يجعلونها تنضج على نحو غامض وسط الطبيعة..
نستقبل القادم الى الحياة ، الفتى بدون أغلفة وغير قابل للتعليب ولكنه المنتمي الاصيل للوطن حتى الموت يحمل معناه الشامل وحقيقته الخالدة ورايته المرفوعة وغايته النبيلة ويخترق خارطة الطرق القديمة ويمضى الى سبيله  ومعه نستعيد السؤال في زمن العزلة و استلاب الانسان ومصادرة روحه واحتلال ارادته وتجريد الروح  خصوصيتها ومن هويتها، حتى لا يكون شيء، او سلخ ذاته من نفسه، يتحول الى جسد يفتقد الاحساس بالمعنى ويصير مجرد مخلوق عارض بلا مغزى. لذلك يكون السؤال ليس عن اي حياة ، بل الحياة  التي هي مثل الحقيقة  بين أشياء وهمية ، والوهم عادة يتشبث بها شخص لا ينتمي لقضية.. الانتماء هو فعل الايمان بقضية  مقدسة وفي ذات الوقت هي محاولة للتعويض عن الايمان الذي فقدناه بأنفسنا.
 يعلمنا القادم الى الحياة هناك ما هو اعمق من الحياة الفردية كأن  نستطيع التضحية بالحقيقة الزائلة في سبيل  خلود ابدي اي تجسيد الانتماء، فتكون التضحية بالذات هي ممارسة طوعية  لما ينتمي إليه. في هذه الحالة لعله من الخطأ النظر ان الصراع عموما يكون  فقط  في سبيل البقاء على قيد الحياة  الشخصية بالمعنى الغريزي ، لأن هذا الشكل من  الصراع  يحفز على الجمود لا على التمرد والثورة والتغيير.
 الفتى المضيء  بعمر الربيع واليانع كالزهر، يقدم على اجتراح البطولة وهو يدرك ان الموت بإنتظاره ، فيقتحمه مبتسما، يذكر بأن الثورة  تنشأ من الأمل وفلسفاتها تتسم بالتفاؤل... وكل ولادة جديدة  ليست بالضرورة ان تكون متطابقة  مع العمل  المنطقي ، فهو ليس من  نوع  الأمل الذي يشجع على الصبر أنما يحرض على الثورة . لعله الفارق بين الامل المباشر والامل البعيد.
تحدي العنف الوحشي يقوم به المبدعون فقط لا غير، حين تظهر انياب القاتل وهو يلوح بالرد الروتيني على كل عمل بإعتباره خارج  النظام وضد القانون هو اللجوء للقوة. وادوات الاحتلال هو الجيش المجوقل بالحديد بالنار .. سؤال الانتفاضة الجدي كيف تعطّل قوته ؟ تجعله عاجزا عن ممارسة الاستخدام المناسب  للقوة ؟ البحث عن نقاط الضعف لعناصر القوة العدو..  لا ننسى انه كان يقال ان الاسلحة الحديثة قد جعلت من انتفاضات الشوارع مستحيلة.. لكن مرة أخرى اثبت الفتى الجديد  خطأ هذا الرأي .. ماذا ستفعل ترسانة السلاح الحديث؟ مع  فتى سلاحه الاقوى لم يفسد هو الانتماء للوطن . ماذا سيفعل السلاح الذري بهذه الحالة..؟ الغلبة لميزان المعنويات وسلاح القوة الناعمة.
القادم الجديد بعفوية تحمل علامة فارقة  مثل قواعد العشق وصلاة الزهد وصفات النقاء حتى المثالية ، ولكنها  الحافز الثوري الذي يتحول الى مهماز من اجل إنسان حر في وطن بلا احتلال يكون مثل جنة جديدة على الأرض،  حين يقال أنه جيل اللامنتمي  الذي يغامر بحياته  ولا يدرك مستقبله ، يقصد جعل فكرة العفوية هي مغامرة خطرة  منعزلة  عن الفعل والغاية  التي يضحي بروحها في سبيلها..
 الفتى المنتمي تعبير عن عجز صناديق النقد في وضعه داخل قفصه الذاتي  وفشل الورش  مسح الذاكرة  عن كتابة أسماء لا تعبر عنه ، ينتزع من العولمة هويته ولا يأبى إلا ان يكون  " الفلسطيني المضيء "  أو "الانسان الاسمى" حسب نيتشه، اي النقيض للانسان الرقمي  المصنع في مختبرات البشاعة الحديثة التي انتشرت في الجسد العربي كجراثيم مرعبة قاتلة أدواتها الغوغاء .. استخدمت الماضي لقتل الحاضر، والمدنس لتلويث المقدس، ووضع فيه التاريخ ضد المستقبل والسماء ضد الارض والله ضد الوطن.  
 الفتى المضيء  يستعيد الذاكرة برموزها الوطنية الصرفة ، فعل نقدي لذلك  اللامنتمي بلا هوية وعنوان و بلا ذاكرة . في لحظة انفجار وبدون ممارسة خطابات  الذم او المديح ، تستعيد صورة  الثوري  المضيء  كنصل السكين، الذي ليس كما في الصورة النمطية المعتادة  ذاك الهائج الخشن غير الحليق وكثير التدخين و يدمن الصخب ووجودي السلوك ومغرماً بالخطابة.. مستعداً  للعنف الهمجي ..
 الفتى الحضاري حتى بأدواته البدائية لا يقوم بشيء غريب عن سلالة الذين تربى في اكنافهم، يستعيد حقيقة الصراع بين صاحب البيت في وجه المستعمر الغريب  عن البيت والوجود والاطوار معاً .. وان المحتل هو الفاشل المحبط  في حياته وبقائه ويعاني من عقدة النقص التاريخية.
 يولد فينا الجديد الذي يمارس طقوس شهر العسل  الثوري  الذي يظل مثل  إحتفالية كرنفالية حتى بالموت، الشهادة فيها كأنها عرس..  شهر عسل  قابل للانتهاء يجب عدم اضاعته بالتأتأة بل في بناء واعي للروح الجديدة و للفدائي الجديد المتحمس  والمحارب ..
لطالما كان الفدائي "فانتازيا" ساحرة  يشابه ابطال الحكايات الشعبية وفي الادب تكون موته  مشبعة برومانتكية  ثورية تشبه موت  لوركا ... سواء أكان الراديكاليون رومنتيكيين او غير ذلك لكنهم  تعبير عملي  ورفض جذري عن عدم  الثقة بالطريقة التي  تدار فيها حياتهم ، وتردد القيادة التقليدية عما اذا كان من الضروري أو غير المناسب  ان تتبنى موجة الغضب  للتحكم فيها لاحقاً أو تتركها  فتشتعل وتخرج عن السيطرة ولا تعد قادرة بعدها على تحاشيها او الوقوف في وجهها؟
لا يمكن فهم حركة النضال الوطني الفلسطيني بمعزل عن فهم تيارات التاريخ العميقة التي أثرت بأتجاه  مجريات القضية والتحولات  الانسانية  والاجتماعية  الفردية منها والجماعية من اجل استيعاب الإيقاع  المركب غير المتوازن للتاريخ..
الانتفاضات الشعبية عادةً تبدأ فجائية بأعمال شغب عادية بوسائل بدائية بسيطة وفردية .. قد تتعلق بمطالب مثل الخبز وتنتهي بالحرية  وتمهد لها بيانات حزبية  ونقابية  ووسائل  اعلامية اخرى ، ثم ينقسم الرأي العام حولها منهم من  يصفهم بالغوغاء واخرى تعتبر انهم فئة واعية وصلبة ومثقفة تثقيفاً ثورياً... لكن منطق الثورة  التحررية  يكون مختلفاً هناك الأقلية حملت مهمة تحرير الارض فصنعت ثورة.. ولكنها اثرت  في الاكثرية.. وتبقى أمام معادلة خطرة  أمّا ان تتحول الى اكثرية او تهزم وحين تنفض عنها الاكثرية تفقد بيئتها وسرعان ما تنكسر.
 الفتى القادم  الى معنى الحياة يطالب بعدم التبسيط من قوة ( الشعب المتحد) والتحام الوطني في وحدة سياسية فعالة.. تحويل الحشد الميداني الى اشتباك منظم وجماعي  ونقله من تحالف عاطفي  غريزي الى اتحاد نقدي.. ومن الوجداني الى العملي .. واي انجاز هو انجاز الشعب على المحتلين.. ليس نصراً حصرياً لفصيل او زعيم.. السلسلة المتينة التي تحتاج بناء جبهة داخلية قادرة على الاستمرار بالمقاومة دون التقليل من اي تفصيل في صيغة هذه البنية وفق الحكمة القائلة : "اذا فقد المسمار فقدت الحدوة، وإذا فقدت الحدوة سقط الحصان، وإذا سقط الحصان سقط الفارس، وإذا سقط الفارس فقدت المعركة".
 نقتل الفتى بالنمطية البالية عندما نصفق له من جهة ونناشده من جهة اخرى ، كأننا نستعيد الظاهرة الصوتية ذاتها لازال صداها كنشاز يرافق كل مصيبة، ثم نقول له اذهب انت وربك وحاربا، او نفعل الشيء ونقيضه مثل الحديث عن الجبهة الوطنية مع ارتفاع منسوب العصبوية ونبح الصوت بأهمية وجود الحركة وطنية  فلسطينية، المتماسكة ، الواحدة ، بينما الذي يسود الفئوية الضيقة، ونكرر بمناشدة القيادة عن ضرورة ان يصاغ لها رؤية وبرنامج واستراتيجية عمل واحدة وتستند الى عناصر القوة المتاحة واهمها قوة الشعب المتحد ، ولكن في صراعات النفوذ السلطوية واستشراء مرض الانقسام الفتاك .
القادم الى الحياة  ينشد قيادة وطنية  تدير الصراع ، قيادة جديدة تستنبتها الحركة الكفاحية لجيل يستحق قيادة جديدة  تقوم بمهمة التأسيس لشرعية وطنية جديدة  تدرك حقيقة مفادها أن التنظيم اللامركزي للحركة الوطنية الفلسطينية هو الصيغة القائمة واقعياً. وان المشروع الوطني الفلسطيني لا يستقيم بدون اعمدته الثلاث المكونة للنضال الوطني الفلسطيني ، المناطق المحتلة عام 48 والمناطق المحتلة عام 67 والشتات الفلسطيني.  دون ذلك سيظل التشظي يعصف بالواقع الجيوبولوتيكي والمؤسساتي معا.
الفتى الفلسطيني الجديد ينتظر ان يكون دمه فعل حياة ، موته يستعيد مغزي الحياة، يستحق قيادة توحي بالثقة  عندما تكون قادرة على القول والممارسة معاً قادرة ان تبتكر وتفكر وترسم رؤى وآفاق جيدة وخلاقة. كم نحتاج من الشهداء حتى نحرر الوعي من اللاوعي، لأنه الفتى الجديد  ندعوه ان يقذف حجر على احتلال الارض وآخر على احتلال العقل وان يدوس اخطائنا المزمنة والمميته، حتى يكون دعوة لانطلاقة التجدد وانتفاضة الحياة من جديد في عروقنا والباعث الرئيس المحرك للحياة السياسية الراكدة..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن