صورة للفنان روائياً



http://hadfnews.ps/post/10642



                 قراءة في ملامح الفن الروائي عند مروان عبد العال



د. محمد عبد القادر
الأردن

في مقطع من كلمة ألقاها الروائي – الفنان مروان عبد العال في حفل توقيع روايته الأولى "سفر أيوب" في بيروت، ورد ما نصه " أعترف أني لم أجتهد ولم أقتفِ أثر أحد، ولا حتى صرعة أدبية، وإن سجلت حكايا الناس فانا أحمل شفاههم لأنطق".
(زهرة الطين، ص12)
وإذ أتأمل اليوم هذا الاعتراف بعد قراءتي لخمسٍ من روايات الكاتب، (زهرة الطين، حاسة هاربة، جفرا، إيفان الفلسطيني، شيرديل الثاني) أستطيع القول أن هذا الاعتراف صحيح إلى حد بعيد، ليس في ما يتصل برواية سفر أيوب بل وبرواياته الأخرى. هو قول صحيح من حيث تميزه وتفرده وحيازته لصوته الخاص في صياغة كون أدبي متخيل يشف عن جذور في الحياة والواقع والتاريخ، وفي إسهابه في استخدام لغة وجدانية – فنية – تشكيلية.
على أن هذا العالم الروائي الذي يخلقه عبد العال لا يقع خارج التجربة الجمالية لما بات يعرف بالرواية الجديدة، ما يمثل رافداً متميزاً من روافد الكتابة الروائية التي تختلف عن المنحى التقليدي في الرؤيا، والبناء الفني، واللغة، وثقافة الكاتب المعاصرة.
وأزعم  أن الرحلة  النقدية في العالم الروائي لعبد العال ليست بالأمر اليسير عبر مقالة او دراسة موسعة، وبخاصة حين يرصد الدارس معظم أعمال الكاتب، إذ يبدو حينئذ وكأنه يستجمع طيوراً انتشرت في فضاءات فسيحة، وليس بمقدوره سوى أن يلتقط لها صورة مشهدية معينة في لحظة معينة.
علاوة على ذلك، فنحن أمام تجربة روائية لكاتب فلسطيني هو أيضاً فنان تشكيلي تلتحم في كتاباته النثرية مشهديه فنية تشكيلية تستولد جماليات الصورة، واللوحة والغموض الشفيف.
وعبد العال ليس فناناً وروائياً متفرغاً لإبداعه، بل لعله قبل ذلك مسؤول سياسي في فصيل فلسطيني يساري يحمل منذ عقود رؤى سياسية وفكرية واجتماعية وثقافية متقدمة. وإذ أتيح له أن يعيش هذه التجربة السياسية، يتعلم فيها ومنها، ويكتسب من كفاحها قوة الروح، وصلابة الإرادة، والاعتماد على الذات، إلا أن وعي الكاتب الفني المتقدم قد جنبه الانزلاق نحو التنظير الروائي السياسي والفكري، لصالح عملية إبداعية ينتجها جدل الواقعي والمتخيل في المنجز السردي.
والكاتب، فوق ذلك كله، ابن لمخيم في الشمال اللبناني: غاص في طينه، وخبر معاناته، وعرف ناسه وأطفاله، وشهد مراحله وتحولاته، فاغتنى بتجربة حقيقية ملموسة شكلت لديه فيما بعد مخزناً للهم الفلسطيني في المخيم بأشكاله كافة. ومن هنا ليس غريباً ان تمثل حياة المخيم، وواقعه، وشخوصه، مادة أولية لرواياته دون أن يقع في محظور الوصف الإنشائي المحايد أو في خطيئة الرواية الباكية على الأطلال، بل قدم صور المخيم ضمن رؤية إنسانية واقعية حادة النقد للظواهر والممارسات الانتهازية.
ومن يمعن النظر في أعمال مروان الروائية، وأعمال غيره من طليعة كتاب الرواية الفلسطينية: إبراهيم نصر الله، يحيى يخلف، سحر خليفة، وقبلهم غسان كنفاني وإميل حبيبي- سرعان ما يهتدي إلى فكرة مفادها أن هؤلاء لم يكتبوا روايات متعددة، بل أنجزوا فصولاً من السيرة الفلسطينية، وكأني على ثقة أن المشروع الروائي للكاتب حافل بالكثير من الفصول / الروايات في قادم الأيام.
وأقول بإيجاز أن هذه السطور التي شكلت مدخلاً لقراءة "شبه موسعة" ، "شبه شاملة"، إنما سعت إلى تهيئة مبدئية لجولة مكثفة من قراءات تطبيقية لخمس من روايات الكاتب، ذكرتها في موقع سابق، أمالاً في استخلاص ملامح عامة، أو أساسية، للفن الروائي كما أنتجه مروان عبد العال:
([1]) زهرة الطين: تعددت المنافي وهي واحدة:
بعيداً عن المبنى الفني للرواية، تروي زهرة الطين قصة شاب فلسطيني لاجئ مثقف اختار أن يلحق – مهرباً عن طريق البحر- من مخيمه في لبنان إلى إيطاليا ليعيش مع حبيبته مادلينا العاملة في لجان مناصرة للشعب الفلسطيني. لكن هذا العاشق لا يصل إلى حيث أراد، إذ انتهى غريقاً غريباً رمى به البحر في الرمق الأخير على بر مجهول لقرية ليبية نائية. تلتقطه الممرضة الليبية نرجس لنعلم بعد ذلك أنه مُمرغ بالطين، فيما فقد ذاكرته جزئياً حتى بات لا يتذكر اسمه ولا بلده، فأسموه "الطين"، وصار يشار إليه بهذا الاسم. يهتم به معلم فلسطيني من جنين يدعى، مطر، وحينما يستعيد ذاكرته ووعيه بعد أشهر تلقي به السلطات في مخيم في قلب الصحراء الليبية خصص للمبعدين الفلسطينيين.
في تفاصيلها وأحداثها وقصصها الفرعية، تصور الرواية بؤس الواقع الفلسطيني في مخيمات لبنان، وتشير إلى زيارات المتضامنين الأوروبيين للمخيمات تعبيراً عن مؤازرتهم للقضية وشعبها. وعبر البوح، والذاكرة، والحوار، نعلم أن هذا الغريب يدعى سيف الدين القاضي وأنه غادر مخيمه بحثاً عن الحب في منفى آخر لكنه يخفق في الوصول إلى المحبوبة وبلادها المرغوبة وينتهي إلى منفى لم يكن ليدور في خلده قط، منفى يفقد فيه ذاكرته واسمه وبلده- وإن بصورة مؤقته، ذلك أن إلحاح مطر على استمرارية الحوار مع "الطين" ساعده أن يستعيد تدريجياً ذاكرته وذاته بعد أن تفتحت جيوب في جدار الوعي المفقود. وهنا يحضر استدعاء الماضي عن طريق الذاكرة، لتغدو الذاكرة ذاتها أداة السرد الروائي إلى حد كبير، ما يجعل الرواية ذاتها رواية سيرة، ورواية بوح لكنها أيضاً رواية مأساة (تراجيديا). وليس الطين هو مصدر السرد الوحيد في الرواية، فهناك سرد من جانب مطر، وسرد يتم عن طريق رسالة "ناصر" الذي قرر ألا يعود إلى الوظيفة في المنفى وأن يلتحق بالانتفاضة، وهناك أنماط سرد وحوارات تتم مع شخصيات ثانوية عبر قصص فرعية.
ولهذه الرواية جماليات خاصة تتمثل في البداية والنهاية، إذ تنفتح الرواية على مشهد درامي يصور " الطين" مقذوفاً على الشاطئ لينتهي في آخر المطاف منفياً عند حدود الصحراء، أو قل صحراء الحدود.
لعل عبد العال أراد أن يقول للفلسطيني اللاجئ - المنفي طالما أن الفلسطيني بلا وطن سيظل منفياً، وأيه محاولة لاستبدال المنفى بمنفى آخر "أفضل" ستؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أن المنفى هو المنفى، وأن الأول قد يكون أفضل من الثاني، على الأقل في قربه من الوطن المحتل، وكلما بعدت المسافات تبددت الهوية أكثر.
والكاتب لا يقدم الفلسطيني نبياً ولا ملاكاً، وإن كان حُكماً ضحية، ضحية الاحتلال، وضحية لقسوة واقع اقتصادي شديد الشح، وواقع اجتماعي وثقافي فيه من الانتهازيين والوصوليين والفاسدين والمضللين ما يعمق الألم والمرارة. وهو لا ينسى أولئك العاملين في المستوطنات (بالرغم من ضغط العوز وقلة الحيلة) والذين يُشبَّهون أحياناً "كمن يزني في عرضه".
"زهرة الطين" رواية جديدة في مبناها، حيث المشهد الأول يبدأ من وسط القصة، ويتحرك الحدث في سياق ذاكرة مفتوحة تؤخر وتقدم كما يحلو لها، غير عابئة بمسار متسلسل للزمان والمكان.

([2]) حاسة هاربة : أرواح خاوية
إذا كانت "زهرة الطين" رواية سيرة فردية، فإن "حاسة هاربة" رواية سيرة تكاد تكون جمعية لحياة اللجوء الفلسطيني في مخيم نهر البارد، ولربما سردت شيئاً من سيرة كاتبها وسير أناس عرفهم عن كثب أو سمع عنهم. هي سيرة للمخيم في سنواته الأولى تحت قمع الدرك وغياب الثورة، وإن وجدت أنوية ثورية أولية. ولأنها رواية سيرة، تشكل الذاكرة أسلوب السرد الرئيس، وهو سرد وجداني في جوهره يصف ذكريات الطفولة في زمن الإذلال، والوهن، والخوف، الذي حكم حياة اللاجئين في المخيم قبل ان يشتد عود الثورة وتمتد مفاعيلها.
والرواية قائمة على سبع محطات هي (ذات مغيب، ذات روح، ذات نهر، ذات نار، ذات حلم، ذات عبور، ذات ماء)، فيما ترصد كل محطة (ذات) منها مرحلة ما، أو سمة معينة من سمات الحياة اللاجئة في المخيم. هي رواية نقد ذاتي لغياب الرد، غياب الثورة، وتقبُّل المهانة والاستسلام لقمع السلطة الرسمية، حتى بات الفلسطيني لا يعدو كونه زمرة من الصور النمطية لدى الجوار المضيف. وفي هذه الأجواء، يرتسم المخيم بقعة بلا حياة، ومقيمين بلا أرواح، ومكاناً يعشش فيه الخوف، وتعبث بعقوله قصص الجن والأرواح الشريرة، والأوهام، فيما تقوده شخصيات عاجزة، عمياء، كسيحة، مشعوذة، بالمعني والدلالة.
والمحطات السبع ليست منفصلة عن بعضها البعض، إذ إنها متداخلة ومتشابكة في واقع يفرض خصائصه على مناحي الحياة كافة. فالنهر الذي ينبغي أن يكون قبلة المحبين يشهد قتل الحبيبة غسلاً للعار، وهناك محجبة تبيع نفسها لمهرب مخدرات قرر بين عشية وضحاها أن يصبح ناسكاً وشيخاً وقوراً. أما العبور فهو ليس إلا تلك الزيارات المهزومة للوطن المحتل الذي سمح بها العدو عقب احتلاله للجنوب اللبناني.
"حاسة هاربة" رواية بلا بطولة لواقع يبدو مشلولاً ومستسلماً تماماً لقوى القمع والتضليل والتدليس. ولأن الواقع في جوهره صامت ساكن، فقد بدت الرواية سرداً ساكناً يكاد يخلو من الحدث، لتغدو رواية بوح  آخر بعد بوح "الطين" لزهرته. ولعل الحاسة "الهاربة" في سياق الرواية هي تلك الروح المتوثبة التي تترجم زخمها فعلاً إيجابياً مقاوماً في وجه واقع مهيمن، خالٍ من أحلام الفنان المتكسرة على صخرة القمع والرعب.
ولعل هذه الرواية هي الوحيدة بين الروايات الأخريات التي يبدو فيها الزمن وكانه يتحرك في خط مستقيم حاملاً شخصيات تعيش أيامها العادية المتواترة دون تغير فاعل او تحول ملموس.
"حاسة هاربة" رواية البحث عن الكرامة، والهوية، وهي بهذا المعنى رواية الدعوة لفعل إيجابي يرتقي بالمضطهدين من مذلة العيش إلى رحابة الوجود، وجود يليق بالإنسان.
([3]) "جفرا" : اشتعال الروح في الكفن
في رواية "جفرا" يتجه مروان عبد العال  نحو التراث الشعبي الفلسطيني، مخزون الروح والثقافة والجذور، متأملاً قصة جفرا- الصبية الجميلة التي صاغ الحس الشعبي من سيرتها نماذج عدة حتى صارت ملمحاً بارزاً من ملامح الثقافة الشعبية الفلسطينية، وتناولتها قصائد الشعراء والفرق الفنية. على ان الكاتب في هذه الرواية لا يقترب من القصة عبر منحى تقليدي سائد، بل مضى فيها إلى عالم الأسطورة فأنطقها يوم تشييع جثمانها محمولة على الأعناق نحو مقبرة في مخيم جنوبي مدينة صور. ولطالما حلم المعلم – الفنان أن يرسم الجفرا صبية فتية جميلة، تعادل في سحرها الموناليزا. زميلته في روضة الأطفال دأبت على حثه أن يرسمها هي لأنها شبيهة بالجفرا، ليعلم بعد ذلك أن جفرا العجوز- المتوفاة هي جفرا "الحقيقية". وهنا يبدأ منحى آخر للرواية يتمثل في بحثهما معاً عن سر الجفرا، عن الحلم والوعد.
والرواية في مبناها قائمة على تنهيدات ثلاث، تتفرع كل واحدة منها إلى عدد من الفصول، لكن الشكل الفني لا يتبع خطاً زمنياً متتالياً، بل ينفتح المشهد الأول في التنهيدة الأولى على تمرد جفرا على الموت بكسرها الصمت الطويل، وبرمزية تحاكي من ينفخ الصور فيبث الحياة في الموتى، وإن كان صوتها لا يصل إلا لمريديه. كان يمكن لهذا الصوت أن ينطلق في حياتها، بيد أن قوى المحافظة والتقاليد والقمع لم تكن لتسمح له بالانطلاق. ورمزية الجفرا بصوتها الخارج من حواف الكفن وحدود النعش، إنما تتمثل في استعادتها لدلالة العنقاء، والعنقاء هنا امرأة فلسطينية، تنهض من رمادها لتعلن قيامة الموتى – الأحياء علهم يعيشون حياة حرة أصيلة. وجفرا، بهذه الدلالة، لا تكون محمولة إلى قبرها، بل سائرة في درب الخلود.
"جفرا" رواية أخرى من روايات " البوح" الذي يتقنه مروان، ورواية ذاكرة للماضي والحاضر، وللمستقبل الآتي أيضاً ولكن من دون تتابع زمني وأحداث متتالية.
وإذا كانت الحياة تضم الملايين من البشر العاديين، فإن قيمة الفن أن يلتقط من سيرة هؤلاء ومن قصصهم ما يصلح لأن يكون مادة فنية، فكيف إذا بلغت الدلالات مبلغ الأسطورة؟


([4]) إيفان الفلسطيني : سؤال الهوية
يعود مروان عيد العال في رواية "إيفان الفلسطيني" إلى "ثيمة" المنفى والهوية التي شكلت الموضوعة الأساس في رواية "زهرة الطين". وإذا كان الشاب اللاجئ الفلسطيني المثقف في الرواية الثانية لم يتمكن من بلوغ المنفى المنشود – الجنة الموعودة كما تصورها، فإنه في هذه الرواية أوصل الشاب "عرب" (اللاجئ الفلسطيني، المثقف، ابن المخيم) إلى حيث أراد، إلى ألمانيا، ولكن عبر رحلة طويلة من التنقل والاختباء والهروب والتهريب والتضليل. انتهز عرب، المصور والصحفي في مجلة الثورة، فرصة إكماله دورة في التصوير الفوتوغرافي في بلغاريا، متخلياً عن العودة إلى بيروت حيث مقر عمله، باحثاً عن "جنة" بديلة تتمثل في ألمانيا، عن طريق بروكسل. وصل عرب إلى وجهته- الحلم، ولكن بأي ثمن؟؟
ولعله من المهم أن نشير إلى ان هذا الشاب الفلسطيني المدعو "عرب" ينتمي لأسرة فلسطينية مسيحية عاشت في مخيم "ويفل"، في الأصل مخيم مكون من عدد من الثكنات العسكرية القديمة، ويعد من أشد المخيمات الفلسطينية بؤساً وقسوة. وقد يبرز في هذا السياق سؤال محدد: لماذا جعل مروان عبد العال هذا الشاب واحداً من أبناء الطائفة المسيحية الفلسطينية؟ وتقديري أن الكاتب أراد أن يشير إلى أن المعاناة من شظف العيش لدى الفلسطيني في لبنان، بصرف النظر عن دينه، كانت معاناة واحدة جراء المعاملات والقوانين والممارسات الرسمية لسلطة الدولة المضيفة، وهذا ما جعل الحل الأسهل لدى بعض أبناء الطائفتين هو البحث عن بديل كانوا يرونه جنة الخلاص.
وقبل ان يصل "عرب" إلى ألمانيا عن طريق بروكسل كان عليه أن يستجيب لمتطلبات الدخول، ولما لم تتوافر لديه تلك الأوراق والشروط، فقد كان السبيل إلى ذلك، وفق احد الاقتراحات، أن يزيل بصماته، تماماً، الأمر الذي لا يتحقق إلا بحرق مقدمات الأصابع. كما ان تصريح الإقامة والعمل، وما إلى ذلك، كان يتطلب زواج مصلحة بمواطنة ألمانية.
في ألمانيا تبدأ عملية التناقض الداخلي لدى عرب، الذي صار اسمه إيفان بيتربورج، ثم ما يلبث ذلك الصراع الحاد أن يتفاقم ليصل إلى حالة من الفصام، حيث تتخذ الشخصية القديمة الأولى شكل "القرين" الضاغط بقوة على الشخصية الجديدة المصطنعة، بعد أن كان قد قرر فيما مضى أن يتخلص من ماضيه حين عقد العزم أن يمحو صلته بعالم المنفى الأول زماناً ومكاناً وبشراً.
ولم تعد مشكلة "القرين" الملازم له مسألة طارئة، مؤقتة، بل أصبحت مرافقة له كظله، وصفها الكاتب بحالة "الظل" الذي هو القرين الذي يشطر الشخصية إلى نصفين متناقضين، وينعكس حالات من الهذيان، والأوهام والعجز، والضياع.
أراد عرب في المنفى الجديد أن يستبدل هوية بهوية، وجحيماً بفردوس، ومعاناة بنعيم، ولم يكن يعلم أن مجرد حرقه لأصابعه لإزالة بصماته إنما كان المقدمة الأولى لفقدان الهوية الأصلية، وتفاقم حالة الفصام التي لم يستطيع منها فكاكاً، إلا بعد أن شرع يتأمل ذاته، ومعنى الوطن، والاستلاب، والغربة لتتوالى أسئلة الهوية:
*لماذا أنا يا حواء؟ (زميلته الجزائرية إيفا).
*لماذا أنا هنا؟
* بل من أنا؟
ولعل أسئلة كهذه، تمثل أسئلة البدء بالاستشفاء النسبي، فيما بعد إلا أنه لم يكن سوى ضحية لعالم يتقن صنع الضحايا والمعاناة.
([5]) شيرديل الثاني: شهادة وفاء للإنسانية النبيلة
لطالما خلد المبدعون الفلسطينيون أصدقاءهم وحلفاءهم الأمميين الذين انخرطوا معهم في مسيرة الكفاح ضد الصهيونية والإمبريالية، فكتب درويش ونصر الله والقاسم وغيرهم قصائد بديعة لرموز إنسانية قدمت حياتها، أو جانباً من كفاحها، دعماً لشعب فلسطين وقضيته العادلة. ومروان عبد العال في "شيرديل الثاني" بدا كمن يقول ليس الشعر وحده بقادر على ان يصوغ أناشيد المحبة والاعتراف للمناضلين الإنسانيين، بل الرواية قد تكون أكثر اتساعاً ورحابة لتقدم شهادة وفاء وتقدير لأولئك الأبطال الذين ربطوا مصائرهم بمصير الشعب الفلسطيني.
"شيرديل الثاني" أشبه بأنشودة وفاء للتآزر الإنساني الذي يتجاوز " الدعم" و"التحالف" ليبلغ مستوى التضحية بالروح من قبل مناضلين أمميين، يساريين في الأغلب الأعم، عند أكثر من محطة سياسية، أو منعطف صعب في مسار النضال الوطني الفلسطيني في داخل الوطن المحتل وخارجه. وهي رسالة محبة وتقدير، باسم الشعب الفلسطيني، لأولئك الشباب الذين جاءوا من أقاصي الأرض ليشاركوا الشعب الفلسطيني كفاحه، وليلتحموا بقضيته، فمنهم من نجا وواصل عطاءه لدى الفصيل الذي اختار. ولن ننسى ذلك "الشاب" الياباني الذي اشعل النار في جسده أمام السفارة الإسرائيلية احتجاجاً على مجزرة مخيم جنين.
"شيرديل الثاني" رواية مفتوحة الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخوص، وللذاكرة مفاعيلها، وللأرشيف دوره، وللتاريخ قصصه وحكمته. والبداية من قرى ومدن وازمنة إيرانية (كوت عبدالله، عبادان..)، انتقالاً إلى بيروت، ثم ألمانيا، وتل أبيب، وعودة إلى لبنان، حيث يولد الأشخاص ويكبرون ويتطورون طلباً للعلم أو طلباً لتضحية إنسانية نبيلة.
وقلما ظهرت بطولات فردية واضحة في روايات عبد العال، مثلما برزت بصورة جلية وموسعة و"موثقة" في هذه الرواية. ففي "زهرة الطين" نسمع عن أشخاص استشهدوا، وعن آخرين التحقوا بالانتفاضة لكن لا نراهم ولا نسمع منهم. وفي حاسة هاربة لا نماذج للبطولة وإن التحق بعض الفتيان ببعض الأنوية الثورية، وفي جفرا نقرأ عن نضال لحماية فلسطين من الضياع قبل النكبة، لكنه نضال لم يتوج بنصر. أما إيفان الفلسطيني فهي –بعامة- صورة للهروب من المنفى إلى المنفى، بيد أن "شيرديل الثاني" تضيء معالم تجربة نضالية جديرة بالتأمل.
وتتمتع هذه الرواية بصدقية خاصة في تصويرها للواقع الفلسطيني في المخيمات، يوم كان الوهم والخزعبلات والشعوذة والتدليس والانتهازية سائدة قبيل الثورة، واستمرت بأشكال متفاوتة بعيد الثورة. ولعل عبد العال في هذه الرواية قد مضى إلى ما هو أقسى من النقد اليومي، ليصل إلى درجة النقد الذي يحمل في ثناياه اتهاماً بالخيانة الوطنية، تجسدها شخصية "سرجون" – القائد العسكري الفلسطيني – الذي يسطو على ممتلكات الآخرين، بل يسرق انتصارات المقاتلين وينسبها لنفسه. إنها صورة "البطل المضاد" الذي اختار له عبد العال أن يكون فلسطينياً، وكأنه يقول – كما قال غسان كنفاني ذات يوم، في الوقت الذي كان هناك من الفلسطينيين من يقاتل ويستشهد، كان هناك منهم من يتآمر ويخون.
على أن طبيعة البطولة في هذه الرواية تتمثل في كونها بطولة فردية وهذه مسألة مفهومة، كونها تتحدث عن رموز كفاحية أممية، وهي فردية لكنها مستندة إلى مبادئ وقيم عليا إنسانية. لكن البطولة في عام (1982) لم تكن ذات طبيعة فردية، بل كانت شعبية: فلسطينية- لبنانية وإن انتهت كما هو معروف للجميع.
في رواية "شبه تاريخية" يعيدنا عبد العال إلى زمن "مظفر"، الشاب الإيراني (شيرديل الأول) الذي اقتحم سينما حين في تل أبيب ونفذ فيها عملية تاريخية، ويقدم لنا أبا سعد، شيرديل الثاني سائراً على خطى قدوته الأول، وعلى كوزو أوكاموتو ورفاقه اليابانيين الذين قدموا من أجل فلسطين تضحيات عظيمة جديرة بالوفاء، وجديرة برواية، بل بروايات. ويقف أبو سعد نموذجاً للمناضل الذي يأبى أن يستلم راتباً شهرياً لقاء كفاحه مع الفلسطينيين: "ثورة براتب شهري؟ كيف؟"
رواية "شيرديل الثاني"  تحتوي أربعة عشر فصلاً تتقافز فيها الأزمنة والأمكنة والأحداث في سياق بناء فني قائم على تيار الوعي، وهي، كما أشرت، رواية " شبه تاريخية" تمتزج فيها الحقائق التاريخية بالتخييل ارتباطاً بالواقع، ودون شطط من أحدهما على حساب الآخر.
وتظل اللغة عنصراً فنياً مميزاً للسرد الروائي عند مروان عبد العال، تعبر عن موهبته في التشكيل، إذ يلتحم فيها اللون والصوت والرائحة ومفردات الطبيعة لتنقل ما رغب الكاتب في نقله للقارئ من معان وأحاسيس.
ولقد بدا لي أن مروان عبد العال قد خبأ في نفسه شاعراً منذ عقود، انحيازاً للنثر دون أن يتخلص – بالطبع – من شعرية الرواية.
خلاصات:
أصدر مروان عبد العال حتى الآن سبع روايات تشير إلى أن الكاتب يطوي جناحيه على مشروع روائي واضح المعالم بالنسبة إليه. والروايات الخمس التي تناولتها بإيجاز شديد في هذه المقالة تؤكد أنه يكتب عما يعرف، وهو واسع المعرفة بالواقع الفلسطيني في لبنان، ما يوحي بأنه قد كرس مشروعه للكتابة عن الأحوال الفلسطينية في المخيمات، وتحولاتها وتشعباتها. وهو، مع صدور كل رواية، يكرس اسمه كاتباً روائياً فلسطينياً بارزاً في الساحة اللبنانية بخاصة، والعربية بعامة، ليشكل مع الروائيين الفلسطينيين في خارج الوطن، وفي داخله، منجزاً روائياً إبداعياً ذا جماليات فنية تليق بفلسطين وشعبها.
ومن ملامح التجربة الروائية لعبد العال، أنه لا يكتب رواية تقليدية، بل إن الجولة التي قمنا بها في رواياته الخمس سرعان ما تحيل قارئها إلى فنون الرواية الجديدة بأشكالها، وبناها، ولغتها. فهي لا تتبع خطاً زمنياً وحدثياً ومكانياً متتالياً ومتطوراً ومتصاعداً، بل ينتقي الكاتب مشاهد درامية مثيرة من وسط القصة أو من آخرها لتكون بداية السرد القصصي. وتتواصل عمليات القطع في الأزمنة والأحداث وفقاً لتحولات الذاكرة، ورغبات البوح والمناجاة والتأمل، والقصص الفرعية. وبناء على ذلك، يمكن القول أن الكاتب يتمتع بوعي واضح باستراتيجيات السرد ونماذجه الفنية في الرواية الجديدة، هذا الوعي الذي لم يتوقف عند المعرفة النظرية، بل تجاوزها إلى مستوى التطبيق، لكن مروان احتفظ بصوته الروائي الخاص في جوانب الشكل، وفي تميزه الواضح باستخدام اللغة الفنية التشكيلية الشعرية.
ولعل إحدى السمات البارزة للفن الروائي عند عبد العال، تتمثل في تلك القدرة العالية على دمج الواقعي بالمتخيل، والأسطوري بالواقعي والتحليق بالقارئ نحو آفاق متخيلة فسيحة من دون أن تفقد قدماه صلتهما بالأرض.
-انتهى-



[1] - مروان عبد العال ، زهرة الطين ، دار الفارابي، بيروت، 2006.
[2] مروان عبد العال، حاسة هاربة ، دار الفارابي، بيروت، 2008.
[3] مروان عبد العال، جفرا، دار الفارابي، بيروت،2010.
[4] مروان عبد العال، إيفان الفلسطيني، دار الفارابي، بيروت، 2011.
[5] مروان عبد العال، شيرديل الثاني، دار الفارابي، بيروت، 2013.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء