البطل في "زهرة الطين" هو إنسان الزمن الآتي الذي لن يموت
د. خليل الدويهي
أستاذ الأدب
الحديث في الجامعة اللبنانية/ طرابلس
الكلام على "زهرة الطين" هو عندي كلام على
معاناة إنسانية، على تجربة المؤلف نفسه بوصفه فلسطينياً يعيش ويعاني، عقلاً
وقلباً، مما تثيره الحياة في دخائله من ألوان الرؤى وضروب الخواطر والمشاعر، في
لعبة الصراع والتناقضات، عندما يقف في مواجهة الحياة والتاريخ ويتبين له الجانب
السلبي في حركة الحياة الفلسطينية، فيلتزم جانب الوفاء، واضعاً سيرته كفنان في
مواجهة التفاعل مع محيطه، منطلقاً من السخط الذي نلاحظه على الوضعية التي آلت
اليها القضية الفلسطينية في المجتمعات العربية والعالم، مما يثير فينا شيئاً من
القلق عن مصير ما يزال يميز حضورنا في العالم وكأنه حضور العدم. هذا هو محور
الرواية/السيرة الذي استتبعه في كافة الفصول بمستويات متعددة.
ففي هذه العجالة لا أعلن عن دراسة نقدية أو رأي فني من
خلال روايته، يجدر بي أن هذا العمل الروائي قام على تقنية تعبيرية أدبية، اقتضت
على اعتامد السرد القصصي وسائر ضروب الايحاء الجمالي للتعبير على ترجمته هواجس
الكاتب ذي البعد الانساني وقيمة المدلول الفكري للرؤيا وحجم التجربة التي يعانيها
واتساع آفاقها وشموليتها بحيث لا تفوتها حركة الحياة الصراعية من اجل وجود أوفر
حرية وكرامة وهناء. هنا مناخ الحب ومناخ المشاعر الوطنية والمواقف السياسية، وإن
خرج عن نطاق هذين المناخين ليعبر عن مشاعر خاصة ومستتبعات فكرية وتحولات يتأسس
عليها مفهومه الخاص الوجودي حين يمثل الثائر على نفسه وعلى تقاليد مجتمعه وقيمه
ويجرؤ على انتزاع الأقنعة التي تخفي الحقيقة. هذه الأبعاد الفكرية تتنوع ي روايته
فترتدي تارة شكل الرحلة في السفينة ليتابع مسيرته الظافرة على أنقاضها وترتدي تارة
أخرى شكل المخيم المتداعي التي لا تلبث أت تلد البطل المنقذ مع قلب الضياء
والانسحاق.
فـ مروان عبد العال في "زهرة الطين" توحدت
قسمات وجه الروائي لغة وأداء. فيه نتبين عذاب المتشرد الذي يرفضه مجتمع الجهل
والغباء، المصلوب على أرض الأحقاد، إلا أن جذوة ناره لا زالت تلتهب فتضيء دروب
كثيرين الى الحياة. يتفتح مع كل زهرة طين وينتشر كالعطر الفوّاح.
هو إنسان الزمن الآتي الذي لن يموت. هو أسطورة الحياة
التي آمن بأناشيدها، فمضى يفتديها بالقهر والسجع والاقتلاع، الذي صنع الرحيل، كما
يقول.
هنا نشعر بأن إيمان الكاتب بقضيته تزداد الحرارة ودفقاً
وانه على استعداد لتغيير نفسه ووضع تاريخه
الذي هو نقيض هذا الواقع، الذي يرفض معايشته وتجسيده. من هنا أشاع في نفوسنا حالة
من الثورة والتمرد والرفض بالنسبة الى هذه المرحلة التي يجتازها عالمنا العربي في
عصرنا الراهن في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
بطله "طين" جوّاب، حالم. والتأمل الداخلي هو
نهجه وطريقة حياته. يعيش مبادئه في أرض غريبة، أرض أحلامه اللامتناهية. متأزم، هذا
الوضع يمنعه من قبول أي شيء كأمر نهائي. فهو يعيش دوماً بوضع ينشد به وجوداً أعلى
كما يقول "نيتشه"، ولتحقيق هذا المناخ فلا بدّ من اختيار ذاته، وهذا
يعني حرية اختيار صيرورته. والتأكيد على معرفة ذاته هو التأكيد على حريته في تحديد
مركزه من الوجود. هذا الادراك الذاتي أدى به الى الضياع. من أنا في هذه الأمكنة؟
وما هو هذا المكان الذي يحتضنني؟ فعن طريق الحرية يحاول معرفة الذات ومعرفة المكان
الذي يحتضنها. هو يرفض أن يحيا على الطريق التي يحيا عليها اي شيء من الأشياء.
يخاف الحياة اليومية المسطحة. وخلاصه، كما يراه، هو الانشقاق عن الحياة المباشرة.
بالانفصال عن حياة الانسان المعمم، فلذلك يلجأ الى الانطواء الداخلي، أو العمق
الذاتي لمحاولة تخليص فرديته من الطغيان الجماعي.
فذاته الواعية هي وجود، هي عالم بذاته تريد أن تمثل
دوراً في محيطها دون أن تفقد هويتها ولكنها تفشل في تأسيس علاقات حقيقية مع آخرين،
فتلجأ الى عالم النفي والاغتراب الذي هو الصدام بين الوعي الفردي وعلاقته بالمجتمع
مباشرة. من هذا المنظور نعثر على معنى الانشقاق
عند بطله عن المحيط. فهو لا يوجد معزولاً عن الجماعة، بل هو جزء منها، لكن
المشكلة هي خضوع غير مشروط لهذه الجماعة. هذه هي المشكلة الأساسية التي يواجها "طين". فالإنسان في عالمه يضيع في علاقات هندسية، وهو خائف على حضوره
لئلا يسلب وتسلب معه القضية. من هنا، يمكننا أن نفهم نزعة "طين"
الانشقاقية. فهو يأبى أن يكون مجرد مركز لتلقي النتائج الموضوعية، ولذلك استدار
الى الذات وغاص في دخيلاته، يحدد علاقتها بما حوله من نرجس الى قمر الى مجدولينا
الى عطية الى أم شعلان وآخرين.
يفهم وضعه ولا يخضع لأي مسميات الا لما يكتشفها في
داخله، لأنه يريد ان يمتلئ بها ويكون نفسه. بعد هذا الامتلاك يختمر بالتحدي ويثب
الى مجابهة العالم مؤكداً ذاته.
أن تثور هذا يبعني أنك تفتش عن الحقيقة التي تؤمن بها.
هو رفض النظريات والأفكار المجردة واكد وجوده الخاص. هذا دليل رفض للواقع
ولمقايسه، لأنه ليس واقع الانسان الحر، الانسان القابض على مصيره. هو يرفض كل نظام
يأتي اليه من خارج نفسه لأنه مهتم بالنظام الذي ينبع من داخله. هو على استعداد أن
يتحاور مع الآخرين، شرط أن لا يحيلونه الى وظيفة من الوظائف (حديثه مع نرجس وقمر ومجدولينا
ومطر..) إنه يرفض الخضوع والانقياد، لذلك يعيش بلا دليل لأنه قائد نفسه. والقيم
السائدة في عصره لا تعني له شيئاً. يجب أن يتمتع بأشيائه الخاصة البعيدة:
الذكريات، الأحلام، الأشواق، التصورات... هذه الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يشارك
الآخر فيها لأنها مصدر الذات الفرد.
ما معنى أن يحيا الانسان "طين" كإنسان؟ هي
المشكلة الأساسية التي قادته الى نفي آخر. فهو لم يرفض الحرية طلباً للسلامة، ولم
يتخل عن توكيد ذاته اجتناباً للخطر، بل قبل المغامرة عن وعي وادراك وبدا رحلته
لينتهي الى نوع جديد من الضياع والنفي الوجوديين. انه واحد من التائهين يغني
لدربه، شارداً حتى اختفى من المكان كلياً كما يعلن.
في هذه الرحلة يقطع آخر خيط من خيوط الانتماء بينه وبين
هذا العالم. لقد أصبح أكثر التصاقاً بذاته. وبقدر شعوره بالنفي يتحسس الحضور.
انطلق في مغامرته بكل شجاعة ومهارة. لم يغير اتجاهه ولم يستسلم، فهو مغامر لا
ينتظر مرفأ. هو دائم الرحيل، هدفه في هذا الوجود هو خلق البداية. يولد من جديد في
عتمة الأشياء، يبحث عن صورة أخرى لوجود أكثر إنسانية، من هنا رفضه للآخرين.
لقد أعلن قضيته في جلاء. في إشارة بأن النهاية كانت
بداية. لقد انتهى الى بدايته في سبيل تكوين جديد يبشر به ولا يفصح عن معالمه، يحمل
أسراره ويتحرق اشتياقاً إليه.
إن هذا البطل امتلأ قلقاً واهتدى على أن النضال بتعدد
أوجهه، وحده يحقق للشعب الفلسطيني، بمهمته، ولادة حياة متجددة. وحده يقبل على
الناس الجرس، يوقظ النيام. وحده يحمل لهم غرّة النهار. وحده يشعل النار فيما هو
قائم على عفن وفساد.
هذه هي ثورتهن ورسالته لا تقاس بحياته بل بذاتها الخالدة
المستمرة.
11/11/2006م.
تعليقات
إرسال تعليق