"زهرة الطين" رواية الولوج في العالم الانساني
د. هاشم الأيوبي
عميد كلية الفنون وأستاذ الآداب في الجامعة اللبنانية.
لعلَ الرواية أكثر
الفنون الأدبية مقدرة على استيعاب قضايا بحجم قضية الإنسان الفلسطيني والتعبير
عنها. واذا كان الشعر والفنون التشكيلية والأغنية والموسيقى تتكامل بدون شك
لإستكمال الصورة من جوانب أخرى لا تقل أهمية،
فإن الرواية بتكاملها مع فنون العرض الحالية، من مسرح وسينما، مع التطور الهائل
الذي طرأ على هذه الفنون، قد تكون الأكثر مسؤولية في عرضها لمسألة الانسان
الفلسطيني الهائلة في تشعيباتها الانسانية والسياسية والاجتماعية والحضارية، الى
آخر ما هنالك من جوانب تطال حياة هذا الانسان العربي في رحلة عذاباته، التي غطّت
معظم القرن الماضي وأطلت صاخبة مع هذا القرن، مضرجة بالدماء التي كانت آخرها دماء
أطفال بيت حانون.
يمضي مروان عبد العال في روايته الجديدة "زهرة الطين" قدماَ في
الولوج الى عالم الانسان الفلسطيني في رحلته التي لا تنتهي، وقد ازدادت تجربته ثقة
في الإقدام على مثل هذا العمل. ليس من اليسير أن يعرف الكاتب كيف يبدأ في الكلام
عن رحلة كهذه ومن أي باب يدخل. لم يغب ذلك عن خاطر مروان فدمج بين الرمز والواقع،
وبين التاريخ والجغرافيا، بين نوازع الانسان السامية منها والتافهة، بين الوعي
واللاوعي، في تداعيات ذات مدلولات كبيرة.
فـ "الطين" هل هو اسم ذلك المرميّ على الشاطئ؟ ولماذا على الشاطئ
الغربي من الوطن الكبير؟ ولماذا "مطر" الذي التقى به صدفة في هذا
المكان؟ ولماذا هذه الأسماء الخارجة من الذاكرة المنهارة: المجدليّة وسعدون وناصر
وجنين والمخيم ...
إنه الانسان الفلسطيني في المخيم بين المطر والطين، في العمل عند الذين
احتلوا أرضه، ولكنه مرغم على تأمين لقمة العيش، في معاناته بين أهله العرب، حيث
يقتل "نبيل" تحت التعذيب لجرم لم يرتكبه، وما هم أن تعرف الحقيقة بعد
موته، الانسان الذي يعيش معاناته في تحولات داخلية تفضي به الى أفكار تجابه
المجتمع الظالم له، المهمش لكرامته فيلجأ الى حركات أصولية في نظر المجتمع ولكنها
تلبي قناعته كإنسان ملاحق، مظلوم، ومقموع، لا لشيء الا لأنه حلّت عليه مأساة
التهجير واللجوء، فأصبح دون ارادته انساناً مهجراً لاجئاً.
يدخل مروان عبد العال في التفاصيل الواقعية عن قصد كما أرى، لأن الانسان
الفلسطيني ومسألته صارا في كل تفاصيل الحياة الربيّة والانسانية وليس الفلسطينية/
العربية وحسب. ومن طرابلس وعكار الى الخليج والمانيا بعد المخيم التاعس. الى
ايطاليا ومادلين ذات الشعر المجعّد على كتفيها. الى فرنسا والفلسطينيات المجنسات.
الى تعاطف شريحة كبيرة من شباب الغرب اليسارين. الى العلاقات الانسانية والعاطفية
بينهم وبين شباب المخيم. الى الانتظار بفارغ الصبر للقاء الفتاة الايطالية، وهل هو
انتظار شاب لصبية أم انتظار التلاقي بين شعبين وحضارتين، يمكن للقضايا الانسانية
أن تجمعهما بدل حواجز الخوف والدم والنار التي يضعها دعاة صراع الحضارات بينهم.
كنت أخشى أن يدي هذا التداخل المتشعب في الرواية وعناصرها وهذا الغنى في
التداعيات الى ارتباك في بنية الرواية، ولكن كان واضحاً أن مروان لم يزدد ثقافة
وتجربة وقدرة على ربط الأشياء وحسب، إنما ازداد تملكاً للغة الروائية والحبكة
السرديّة، بحيث كلما بدات الرتابة أحياناً تتسلل اليك نتيجة تكرار امور معروفة أو
مستعادة، ولكن سرعان ما ينتشلنا منها مروان الى مقاطع تشدك اليها وتبعدك عن خطر
الرتابة، وهذا يدل على قدرة متميزة كما يدلّ على أن الخط البياني لمروان هو في
تصاعد واضح.
لا أكون مبالغاً اذا قلت الى أنني ازددت اطمئناناً ليس فقط الى مصير
الرواية الملتزمة عندنا، بل الى المستوى الفني والأدبي للرواية الفلسطينية التي
تقع على كاهلها كما على كاهل الانسان الفلسطيني والعربي مسؤوليات جسام على مختلف
الأصعدة والمستويات كل حسب موقعه ومكانه.
و إذ نفتقد الوطن فلسطينيين يشغل كاهل الكاتب بتتبع روحنا المتناثرة في كل ركن وزاوية، في كل قطر ولنا في كل ركن حكاية مشتعلة وصدى تسجله كلماتك بوعي دائم .
ردحذف