رواية زهرة الطين: غربة تسوق إلى غربة

بقلم : عبد الكريم الحشاش
كاتب وروائي وباحث في التراث
زهرة الطين هي الرواية الثانية للكاتب مروان عبد العال، وهي ترصد حركة النوح بما رافقها من معاناة مرهقة وظروف قاهرة يصعب تخيلها، لأناس كانوا هادئي البال في بيوتهم ومزارعهم، وبغمضة عين وجدوا أنفسهم يهيمون في جبال وعرة وصحراى قاحلة يقتلهم العطش، وتشوي جلودهم أشعة الشمس المحرقة، هاموا على وجوههم في ظروف صعبة بلا زاد ولا زوادة  ظناً منهم بأن هذا الخروج مؤقت لن يدوم لأكثر من أسبوع، وسيعودون الى ديارهم بعد استئصال شأفة الخطر اليهودي. ان الروايات التي يرويها الناس عن كيفية طردهم، سواء في الشمال والجنوب والوسط من فلسطين تقشعر لها الأبدان، بما رافقها من مجازر وذعر كان الهدف منها اخافة الناس وجعلهم ينجون بجلودهم تاركين كل ما يملكون، وكذا قتل من يمكن أن يقاوم الاحتلال بعد حين. إن رصد هذه الحالات المتشابهة في الهول والتي تنقل الذاكرة الفلسطينية من جيل الى جيل تجعل المأساة لا زالت ماثلة، ومما زاد الطين بلة الجهل الذي رافق النزوح من المضيفين ان صح التعبير، وكان لمقابلاتهم وتصرفاتهم الوقع السيء: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند"..
وكيف لهذا اللحم العاري والزهور الذابلة أن تجد لها حاضنة توفر لها المأوى والمأكل والملبس والأمن، وفي هذا الجو الضاغط والهول المريع أصبح تذكّر البطولات الفردية لا يجدي نفعاً، فحالة الهزيمة طغت بلونها الكالح وكست كل شيء، كما رصدت الرواية حالات عديدة لأناس حاولوا العودة الى بيوتهم اما ليختبؤا هناك لأنهم ذاقوا الأمرين خارج الوطن، وقالوا ان الموت في البيت والقرية أفضل من العيش بلا كرامة خارج الوطن، وهذا يذكّر بقصة الثعبان الضخم الذي يتخذ من جذع الشجرة بيتاً له، فحاول المجاورون لهذه الشجرة التخلص منه، وقرروا حرقه، فما كان من الثعبان الا أن آثر الموت في بيته عن الهروب والنجاة بجلده، فقال عبارته الشهيرة: "آكل النار ولا ترك العقار" ومن هؤلاء الناس من عاد ليجلب شيئا من مخزون بيته من حب ودقيق، ومنهم من عاد ليرى منله وبستانه، ومنهم أخيرا من عاد ليقاتل كي لا ينعم المحتل بالراحة والأمان الى أن يأتي يوم التحرير.
ان هذه الرواية بلغتها الشاعرية مفعمة بالحنين الى الوطن ورصد ملامحه التي لا تزال تُسمع من الأباء والأجداد المرهقين الذين طال عليهم الأمد وباعدت بهم الشقة، وكانوا يتمنون أن يمتد بهم العمر ليروا بلادهم محررة وآخر وصاياهم أن تم التحرير بعد موتهم أن تُنقل عظامهم لتُدفن في قراهم بعد أن أخذت مناطق الشتات تبتلعهم الواحد تلو الآخر، آثر عيشهم المضني في المخيمات التي لا تصلح لحياة البهائم، وعلى الرغم من ذلك لم تسلم من قصف طائرات العدو الذي أخرج الناس من ديارهم وأخذ يلاحقهم في الشتات ليقتل ويرتكب المجازر تلو المجازر، ويدمر بعض المخيمات على رؤوس ساكنيها بأيدي الأشقاء أيضاً.
وتزخر الذاكرة الفلسطينية بكل هذه المآسي المضنية، يهلوس بها المحتضر والساعي وراء لقمة العيش ليعول أفرارد أسرته، غربة تسوق الى غربة، ومعاناة تسلم الى معاناة اخرى، والتفكير في الهجرة بعيداً لا يكتب لها النجاح، وكأن طالع النحس لم ينقشع بعد، ان هذه المعاناة التي جثمت على الفلسطينيين في الداخل والخارج لم يتعاطف معها سوى قلة ممن شعروا بوخ الضمير من الفتيان والفتيات الأجانب الذين حاولوا وما زالوا يحاولون مناصرة المنكوبين، حاولوا أن يعبروا عن تعاطفهم بتحسين حياة الأطفال، أو التبرع لهم بما يسد الرمق، أو الحيلولة دون هدم البيوت فنالهم ما نالهم من هلاك وضرب وسجن وترويع، ان هذه العدو الغاشم لا يوفر أحدا ولا يحسب حساباً لا لقوانين دولية ولا لأعراف انسانية ولا لخوف من العقاب، فهو يسرح ويمرح ويصنع ما يشاء دون حياء أو خوف او وازع من ضمير.
والرواية تطفح بالمفردات التي يتم تداولها على مدار الساعة بين جموع النازحين في مخيماتهم وأماكن عملهم، ليس عبثاً أن يسمى بطل الرواية الشخصية المحورية فيها بالطين، فالطين هو الأرض التي يهذي بها الناس ويسعون لإعادتها، يحملونها في حلّهم وترحالهم، والطين هو الذي يصنع منه "الطابون" والتور الذي يتم فيه انضاج الخبز اللازم لإستمرار الحياة، كما يلاحظ ورود أسماء الزيتون، والصبار، والزعتر، والكروم، والبيارات، والبحر المالح، والقوارب، والحيوانات الأليفة، والأسماك، والمساجد، والكنائس، ودور العبادة، والفلسفة، والميثولوجيا، والأحزاب والحركات القومية، والانعزالية والحرمان والتشبث بالحياة، ويلاحظ الاهتمام الشعبي العاطفي بالقضية الفلسطينية ومشرديها في حين لا يعبأ بها النظام الرسمي. لعل منشأ ذلك عمل العديد من المدرسين الفلسطينيين في التدريس على مساحة البلاد العربية الواسعة، فكانوا يعملون وينورون الطلاب ويشرحون قضيتهم كلما أتيحت لهم فرصة لذلك.
والكاتب ثمل بما يتردد على مسامعه اليومية من أحاديث وحكايات وهموم في المخيم وخارجه، لأن كل نازح يمكن أن تشكل حركته ومعاناته رواية، روايات متنوعة ومتشابهة كلها في المعاناة والألم حتى الوجوه غدت كالحة أرهقتها التباريح وشظايا الألم. ان هذه الهموم القاسية هي التي أخذت تخرج وتطفو على السطح،  ولم يستطع الكاتب كبح جماحها فأثرت في بعض المواقع سرداً مباشراً احتل حيزاً على حساب فنية النص.
وكلمة السر في هذه الرواية مجدلية، وكأنها ترمز الى المرأة التي كشفت خطاياها، في حين أننا جميعاً نحاول إخفاء خطايانا، ونبرز خطايا الآخرين ونحملهم أوزارها.
وأخيراً على الرغم من فداحة المشهد فإننا نرى بصيص أمل في آخر النفق تمثل في رموز تدل على التفاؤل: فالطين كتبت له النجاة على الرغم من هلاك الكثيرين، وزهرة النرجس ترمز الى التفاؤل، والمطر فيه سر الحياة، وناصر يلمح منه النصر، والقمر ما زال ينير الطريق ويبدد الظلام.

كتبت عام 2006/ مجلة الهدف



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء