: ما يكتب بالدم لا تستطيع قوله بالكلمات.
نص الحوار الشامل" حول الثقافة
والسياسة والأدب والفن والفكر" في برنامج ٢٤/٢٤ على فضائية "الاتحاد".
أجرى الحوار الفنان الملتزم د. وسام
حماده
تحدي المخيم والزينكو والذاكرة
والمنفى والهوية
عبر فضائية الاتحاد، وحول الثقافة
والسياسة، والأدب والفن والفكر، مع الكاتب مروان عبد العال، افتتحه بقوله: مسك
البداية تحية عطرة إلى مخيم نهر البارد، ليس لأنه مسقط رأسي إنما لأنه مسقط رأس
الحكاية، وبداية الحروف التي تعلمتها، حيث كان المعلم الأول لها، ناسه البسطاء،
والدرس الثمين من فصول الذاكرة المستمرة، والإحساس الثري، فالمخيم بوصفه كائن حي،
وعبقرية المكان، وجسم اجتماعي. فالمخيم بالنسبة لي ليس كومة حجارة، وبيوت فوضوية،
وأزقة ضيقة، وحارات متشابكة ، بل ما يحتوي من نسخ حيّة، ووثائق مسجلة عبر طيات
الروح، وأوراق مقدسة من تغريبة طويلة لحياة استثنائية لإنسان غير اعتيادي، لا يحيا
حتى اللحظة حياة عادية، إنسان اقتلع عنوة من ترابه، ولكن رائحة التراب، وعبق الزرع،
وعبير الزهر مازالت في لهجته، وتقاليده، وذكرياته التي يعيشها كما كان يعيشها، من
أغانيه من التراث حتى من الملابس التي جاء بها، ومازال يتمسك بها، وكل إنسان في المخيم
هو رواية فريدة، وخاصة، لكنها لا تنفصل عن نسيج الرواية الجماعية.
فالمخيم الذي ذقت فيه القسوة،
والمرارة، والبؤس تحولت داخلي إلى تحديات كبيرة، قد تصيغ الإنسان نفسه، وتحدد
شخصيته وتكوينها، بل تبدع فن الأمل، ومن قلب الألم وأعتبر هذا التحدي هو الأهم في
حياتي.
وعن زمن الزينكو، قال: لقد ولدت في
منزل نصف خيمة، جداره من طين، وسقفه من معدن، والملعب الفسيح للطفولة كان الزقاق
المتعرج بين البيوت، الذي لا يتسع لعبور جنازة. أنا من زمن الزينكو، يعني أن تنام
على صوت حبات المطر التي تسقط من ثقوب السقف، في وعاء معد خصيصا لهذه الحبات، أوأكثر
من وعاء، بحسب عمر ألواح الزينكو. أما في فصل الصيف فتنهمر حبات ماء متحولة من
البخار المحجوز في الغرفة، وأنفاس الأجساد المكومة فيها، فقد كنّا اثني عشر شخصاً
في غرفة واحدة، هي غرفة النوم، والطعام، والدراسة، واللعب، والحمام.
غير أن البحر هو صديقي الشخصي، وليس
غريباً أن يكون بطلاً من أبطال رواياتي، وربما كان شاطئ البحر المتنفس الوحيد،
والمسافة الوحيدة المتاحة لنا نحن الأطفال في أن نمارس كل هواياتنا باللعب والصيد
والسباحة، وكل هذه الأمور بحكم أني ولدت في مكان قريب جداً من البحر، وكل نشاطات المدارس
التي تقيمها الأونروا تقريباً هي على شاطئ البحر، وكلها أماكن فسيحة، وهي عبارة عن
رمال تفرشها الوكالة على الأرض الحجرية، كي لا يتعرض الولد لأذى إذا وقع أرضاً. لكنه
صار شيئاً مخيفاً، بطلاً سلبياً، حتى وصولنا إلى 60 مليون زهرة" فقلت للبحر:
لماذا تحبنا حتى الموت؟
فهل صار البحر ملاذنا الوحيد للهروب،
مع أنه المكان الذي يعتدي منه العدو على المخيم، فعندما كانت بارجات العدو
الصهيوني تقصف المخيم استشهد لي أصدقاء طفولتي، فصار يثير التساؤولات، وأنعش
ذاكرتنا الطفولية، وخاصة في رواية "حاسة هاربة"، فعندما كنّا نسأل، أين
تذهب الشمس عندما كانت تسقط في البحر؟
يجيب أهلنا: إن الشمس تذهب إلى عكا، تغسل نفسها
ثم تعود في اليوم التالي، فهناك خلف البحر ثمة أسرار تجري بعد الغياب، لكن الدرس
الذي علمني إياه البحر، أن شعبي يشبهه، فكما خرج
سيرجع من حيث أتى حتماً.
أما عن ذاكرة الوطن، فقال: أخاف على
الذاكرة، فكلما زادت قساوة الحياة، إزداد الحلم جمالاً، فكل إنسان لديه حلم في
الحياة، والإنسان الذي ليس له حلم فهو كالتحفة الفنية بلا روح، كالجماد لا حياة
فيه، فأنا أخشى من فقدان الحلم كما الذاكرة، ومعظم رواياتي لامست هذا الموضوع الذي
أعتبره في شخصية الفلسطيني واقعاً مركباً، ومتناقضاً، فأخاف أن يتحول الحلم إلى
وهم، وتظل فلسطين في داخلي هي ذاكرة شفوية منقولة، ذاكرة حكائية مروية، سمعتها من
والدي، وجدتي، وسمعتها من والدتي والجيران، وكبار السن، كما أخشى من صدمة مستقبلية
بين ذاكرة المدن والقرى المقيمة في ذهني و بين ما هو قائم فعلاً بين متخيل وواقع،
متخيل يضمحل من جيل إلى جيل، وواقع يتغير من زمن إلى، كما أن هناك تحد بين ذاكرة
فردية تبقى ذاكرة ضعيفة، وربما كان المخيم استثناء، لأنه بشكل أو بآخر الذاكرة شكل له وعاء، كي ينمو حتى لو افتراضياً ولو
تعويضاً عن بدل ضائع ، لكنها أسهمت في حفظ الذاكرة، وتفاعلها اجتماعيا، وثقافيا،
وحفظت الهوية وأعادت تشكيلها.
وهوية المكان، ودوره في إنعاش الهوية
الأصل، لأن المخيم يترك في وعي الفرد بصمات ثقافية، هي جزء من تقاسيم اجتماعية وفق
خارطة القرى، التي حملها من الجليل، وحتى الآن (اللكنة) الخاصة بكل قرية فلسطينية مازالت
محفوظة في المخيم، والذاكرة المروية لا نستطيع أن نستشفها من عناصر التواصل
الاجتماعي .
أما البندقية، فقد فُرضت علينا، لأننا
بحالة دفاع، وهي حاجة وطنية لشعب وطنه مُغتصب، فتحولت البندقية إلى هوية، وثورة
تحرر وطني، وبحث عن تغيير نحو الأفضل، علماً أنه لدينا الكثير من النواقص التي
تجعلنا نتمسك بعناوين الكرامة. فعندما كنت أتلقى تعليمي الثانوي في مدينة طرابلس،
شمال لبنان، وفي كلية مختلطة من شباب وشابات فلسطينيين ولبنانيين، كان يأتي المدرّب
اللبناني، ويقول: الشبان الفلسطينيون والبنات يذهبون إلى البيت، أما اللبنانيون
فليبقوا، لأنه يتوجب عليهم التدريب العسكري، لأنه لديهم تجنيد إجباري في الجيش،
فحينها كنت أشعر بانتقاصي من رجولتي، لأنه من لا يجيد استعمال السلاح نعتبر رجولته
ناقصة، وأقول في نفسي:" نحن أبناء الوطن المغتصب، أيعقل أن نذهب إلى
بيوتنا؟"
أما عن الثقافة، فقال: الفكرة لها
علاقة بالسياسة وبالثقافة، لأن حاجة السياسة للثقافة هي حاجة الجسد للروح، وأعتبر أنه
من الممكن أن نكون أجساداً بلا أرواح، والقضية الفلسطينية لها عنوان حضاري، وإنساني،
والصراع هو صراع شامل، ومتكامل، وصحيح أن المقاومة هي العنوان الرئيسي، والمهم
لإيذاء المحتل، لكننا مرتبطون بجوهر الصراع، لكن العدو يريد إيذائنا من خلال محو
ذاكرتنا، ومعركتنا مع عدو استئصالي يريد أن يلغي، أو يطمس شخصيتنا، وما يجري في
القدس هومحاولة لعزلنا عن المكان، وإلقاء القبض على ذاكرتناكلها، وعبرنتها،
وتشويهها، ومحوها، لأن الذاكرة جزء من معركتنا، وهذه المعركة هي العمق الثقافي،
وكما قال الدكتور المعلم الكبير جورج حبش: " إننا ممكن أن نُهزم في كل
المواقع، ونستعيد قوتنا، لكن أصعب، وأقسى هزيمة، ونكون هُزمنا حقاً إذا هزمنا على
الجبهة الثقافية".
يعني كأنهم يحتلون عقولنا، وأحياناً أنظر
لما يجري من بشاعة، وتفتيت، وفتنة، وتدمير، فأجده احتلالً للعقل، خاصة عندما نرى
فكرة خاطئة، أو رؤية خاطئة، وهنا من الممكن أن تضيّع مستقبل امّة .
هناك كلام قالته "غولدا مائير
" وكشف عن هذا الكلام بعد 30 سنة عندما دخلت جلسة أمنية حكومية وقالت: (
اليوم تخلصنا من لواء مجوقل) وهي تعني المثقف غسان كنفاني
.
فيوجد أزمة ثقافية واضحة تماماً، ولها
علاقة بمسألة أعمق من قضية الثقافة، لأنها المستهدفة، بشكل أو بآخر، وأعتبر أن العديد
من الوسائل التي استُخدمت هي من أجل احتلال العقل، واغتيال روايتنا، وتدمير وعينا
وعقولنا .
أما عن المنفى، فقد قال: المنفى قادر
على صناعة الأمل، لذلك الأخطر ليس من يحمل البندقية فقط، بل من يحمل وعي البندقية،
لذلك لا نخشى المستقبل، لأن الطفل الفلسطيني الذي يحمل ذاكرة "الدلعونا"
يستهدفها، وهناك مؤتمرات يقيمها العدو الصهيوني من أجل طرح معركة
"السرد" وسؤالهم من الأكثر تصديقاً الرواية الفلسطينية أم الرواية الإسرائيلية؟
إن فلسطين الحقيقية متفوقة على خديعة
العدو، رغم محاولاته في عبرنة المكان، كأن يسمي قرية " كريات 4 "، وهذا يعني أنها
"قرية الـ 4 "الذين قتلوا فيها ربما، لكن أين هو الشرط التاريخي للمكان.
لكن الفلسطيني يستطيع أن يسلسل منذ الأراميين، ويحكي بها من جيل إلى جيل، ففي
رواية "جفرا" تكلمت على "وادي المجنونة"، وليس هناك شيء على
الخريطة اسمه "وادي المجنونة". لكن جدي، كان يقول لي: في هذا الوادي
هناك مشكلة، فإن أراد أحدهم أن يقطع بين قريتين، وفي الشتاء أحيانا تفيض المياه
فتغلق الطريق، ولم يعد أحد يستطيع التنقل من جهة إلى أخرى، لذلك أسموه بـ
"وادي المجنونة"، وهناك العديد من الأدباء والمثقفين أنتجهم المنفى،
ومحمود درويش كان يشكر المنفى.
فهناك معركة على الوجود، معركة على
الهوية، ودائماً نحن في حالة قلق فلسطيني، قلق من المستقبل سواء بالسياسة، أو في
الحرب، أوفي الوجود، فدائماً الخوف من أن تذوب الهوية، وكل ذلك ناتج عن الحاجة للوطن،
وبكل شيء دائماً يحضر الوطن، ودائماً كنّا نقول: إذا هناك أحد موجود في فلسطين يجب
أن يكتب عن فلسطين، ومن في المنفى يجب أن يكتب حتى يكون هناك تكامل، فهناك فئتان، إحداها
داخل فلسطين والثانية خارج فلسطين، فالموجودون في الداخل يمثلون الذاكرة المادية الملموسة،
الذاكرة الحية للفلسطينيين، التي هي تنتعش وتسير كل يوم، وصار اليوم عندي ذاكرة
افتراضية، لأن الأمكنة الموجودة في دماغي لم تعُد كما هي، لكنهم في الداخل، يقولون
لي: "ليست جميلة إلى الحد الموجود في دماغك"، لكنك لأنك بعيد تجدها
جميلة إلى هذا الحد"، وكذلك هنالك فلسطين المقيمة تحت الاحتلال، وفلسطين
المقتلعه في الخارج بفعل وسبب الاحتلال، فالموجود في الداخل يمثل الذاكرة
الملموسة، الذاكرة الحية للفلسطيني الحاضر في الوطن، حيث تنتعش وتسير كل يوم، وقد
صارت عندي ذاكرة افتراضية متخيلة، لأن الأمكنة الموجودة في دماغي أشبه بواقعية
سحرية لم تعد كما هي، في الحقيقة قد تكون أجمل، وأستسيغها في الخيال أكثر، صرت
أسير خيال اسمه فلسطين، وهناك من قال إن الأمكنة التي تتحدث عنها بشغف هي الآن ليست
جميلة في الواقع إلى الحد الموجود في دماغك، لكنك لأنك بعيد عنها تجدها جميلة، بالإضافة
إلى أن أهالينا علمونا الأسطورة، فمثلاً كانوا يقولون لنا إن حبة البرتقال كبيرة
جداً (بحجم البطيخة)، ولا يوجد أطيب من رمان الناصرة، أو تين عكبرة، وهناك أناس
ماتوا، ولم يأكلوا غير تين بلدهم، لأنهم أقسموا يميناً ألا يأكلوا إلا تين بلدهم،
فهناك ذاكرة غير قابلة للصدأ أشبهها بالمياه التي توقفت في المستنقع فتصاب بالعفن،
وإن ظلت المياه جارية تكون أكثر حيوية ونظافة .
أما الثوار، والفصائل، والمقاومة فهم
عامل إيجابي في إعادة تشكيل الهوية، وهناك أمور سلبية أوجدت هويات، فمتى وصلنا إلى
مرحلة صرنا نتحدث عن الفصيل وكأنه الهوية، ونحن ليس عندنا طوائف، لكن أحياناً تكون
الأمور مناطقية، والكيان الصهيوني سعى بكل طاقاته لتجريد الفلسطيني من فلسطينيته،
ومحاولة تحويله لأرقام، مثلاً عندما يقولون: هذا من عرب الـ 48 ومن ٦٧ وهذا من
فلسطيني الخط الأخضر، أو من فلسطيني الخارج، وهذا فلسطيني مقدسي والمنطقة (أ)، أو
المنطقة (ب)، وهذا دخل في أوسلو، وأحيانا نتخدث عن غزة، وكأنها تختصر كل فلسطين
أحياناً، أو جناحي الوطن، والتي تختصر الضفة وغزة.
أما عن شخصياته المتخيلة، قال: هي
شخصيات لأبطال حقيقيين، لكني حين أصنعها لا أصنعها فيزيائياً، وهذا جزء من
الروايات، مثلاً (جفرا) يحكوها عندنا في فلسطين أنها قصة لصبية أحبت، ولم تتزوج،
لأنه يعيش بعشق آخر، وفرضه عليها أهلها، وبالنهاية صار تمرّداً، وهذا الشخص كان
يكتب الزجل والشعر، فكتب لها اشعاراً شعبية هائلة "لجفرا"، وهذه قصة
حقيقية، وعاشت في الجليل، وبعدها صارت مثلا للجمال، والحسن، والغنج. وصارت الصبية
الجميلة تشبّه" بجفرا"، وعندما كتب عنها قصيدة الشاعر الكبير عز الدين
ناصرة، وغناها مارسيل خليفة (جفرا جاءت لزيارة بيروت)، جفرا هي حقيقية، لكني صنعت
لها شخصية أخرى تبحث عن حبيب
مازال يحتفظ بخاتم، هذا الخاتم كان
لجدتها في فلسطين، لأن الذاكرة لا شعورية، ومن الممكن أن نرتكز عليها، وهي واحدة
من عناصر القوة، (وحاسة هاربة) هي قصة المخيم، هي قصة المرأة في المخيم عندما
تحاصر نهر البارد وتدمر على أيدي القوة السوداء، كما أسميتها، التي دخلت إلى
المخيم، وقد عشت فترات القهر كله والحصار، والموت. كان هناك امراة فقدت عقلها تبحث
عن سرير، وكنت على تماس بسيط معها، وتبين أنها امرأة مصدومة، وبالنسبة لي السرير
هو الهدوء، والراحة، وفي الوقت نفسه السرير فيه طابو أرض فلسطين ومفتاح البيت المخبئ
تحت السرير، والحصار لم يكن على المخيم، بل على الذاكرة الموجودة في المخيم، وعلى
الهوية وعلى الوطن المؤقت.
وتكون الرسالة عظيمة فقط إن كانت بحجم
الرجال الذين يكتبونها، واليوم فاقت عظمتهم حدود الأسطورة، وقاماتهم تكتب رسالة
أكبر من الكبار، لأنهم استشهدوا وهم يحملون ابتسامة الأمل " تفاؤل الإرادة"
في وجه " تشاؤم اللحظة". الابتسامة هي الإصرار على التمسك بالحياة
وبالغد وبالحرية، والأهم من ذلك حملوا العلم الفلسطيني، اي أنهم ينتصرون للهوية
الوطنية، وأن فلسطين أكبر من السلطة، والوطن أكبر من الفصيل، والوحدة في مواجهة
المحتل أكبر من الانقسام، ومن دون المقاومة يصير كل شيء وهمياً، الوهم الذي تحاول
"إسرائيل" أن تخترع له مكاناً، وتزرعه فيه، ويكفي أن الذي يريد المستقبل
عليه أن يكون جديراً بالحياة، والحقيقة، والحق، ويحمل هذه الرسالة.
وهذه الرسالة ليست رسالتي أنا بالمعنى السياسي
المحض، بل رسالة الشباب الفلسطيني الذي يقوم بما لم أقدر على نطقه حتى الآن، لأن
ما كتب بالدم لا أستطيع أن أقوله بكلمات.