مروان عبد العال وأزهار الفدائيين الأوائل


ها هو مروان عبد العال في روايته الجديدة «60 مليون زهرة» (بيروت: دار الفارابي، 2016) يجتاز حدود فلسطين التاريخية، ويجوس في شعابها من الجليل في الشمال حتى رفح في الجنوب. وروايات مروان عبد العال كلها تدور وقائعها الحقيقية والمتخيلة في فلسطين، وبالتحديد في مخيماتها وبلدان الشتات ودروب الهجرة. أما هذه الرواية فتتكثف حوادثها في غزة بالدرجة الأولى، لهذا اختار لها عنوان «60 مليون زهرة» لأن غزة كانت تصدر 60 مليون زهرة إلى أوروبا سنوياً، وها هي تستورد الموت الإسرائيلي في كل يوم. صحيح أن هذه الرواية عن غزة، لكن ميدانها يمتد ليشمل فلسطين كلها، وأبطالها فدائيون وشهداء وبشر منسيون أو صامدون أو خائبون. إنهم عازف الأكورديون الذي توفي والده في السجن وحملت به أمه من نطفة مهربة من الزنزانة، ورامبو المناضل الذي كرست ابنة أخته دليلة حياتها للعثور عليه، وكولومبو الذي يتاجر بالفياغرا وكتابة التقارير ويسكن مقبرة المعمداني، والعنكبوت الذي لا يُعرف هل انتحر أم لا. وتحفل هذه الرواية بحكايات الفدائيين والمطاردين والعمليات العسكرية وتهريب السلاح من البحر، وتوغل في البحث عن «أبناء العنقاء» أو «فئران الرمال» الذين حوّلوا، في إحدى المراحل، مخيم جباليا إلى «معسكر التحرير» و «مخيم الشاطئ» إلى «معسكر فيتنام»، وصاروا أسطورة أمثال محمود الأسود (غيفارا غزة) وكامل العمصي وعبد الهادي الحايك.
تعيد هذه الرواية الحارّة والمكتوبة بحبر قانٍ مثل مصائر أبطالها، إحياء شخصيات ربما غوّرتها الذاكرة المثقلة بالكوارث والموت، فنعثر مجدداً على علوان الفدائي ومهدي وأبو جياب وأبو النصر والسعداوي وعزرائيل، وتكتظ الأمكنة بالشُهب الإنسانية التي أومضت في يوم من الأيام، وكانت نهاياتها علامات آسرة على طريق طويل نحو فلسطين، حيث ترصَّدها الموت عند كل منعطف، ولما ماتت جلّلها التاريخ بالعزة، فيما أهالت الخيانة أكواماً من العار على صنائعها أمثال ديب الهربيطي وبيا وغيرهما.
شخصيات الرواية كثيرة، لكن البطل واحد لا غير هو الجندي المجهول الذي ظل واقفاً وحده لا يتبدل ولا يبدل مواقفه ولا يتزحزح عنها. وتمثال الجندي المجهول هو محور الرواية الذي تتقاطع عنده خطوط السرد وأماكنها، وتتفرع منه بقية الحكايات. إنه الضمير الصامت لجيل كامل من الفلسطينيين الذين أرادوا أن يناطحوا السماوات في سبيل حريتهم، وأن يعيدوا رسم خرائط الأرض ولو بدمائهم، فتناثرت أقدارهم في الأمكنة كلها، وطرزت تواريخهم بحكايات هاذية أحياناً ودامعة أحياناً ومفعمة بالبطولة أحياناً أخرى. وفي هذه الرواية تنشطر الشخوص بطريقة تقارب الفانتازيا أحياناً كالفتاة التي غادرت رفح إلى السويد وما برحت تكتب الرسائل إلى ابن الجيران الميت على غرار رسائل رافيا إلى صديقها العنكبوت، وحكاية الزئبق الأحمر والدم المسحوب من أجساد مجروحة بالرصاص أو نازفة، والذي جُمعت ليتراته الإثنا عشر على مدى اثني عشر عاماً، وغير ذلك من ضروب الرؤى الباطنية وقد تحررت من قهر الوعي. وإنها لمكابدة مضنية حقاً أن يتمكن الراوي من الاحتفاظ بخيط سردي واضح في معمعان ذلك الهول الذي ينيخ على كل مَن يحاول أن يستكشف العوالم الداخلية لأبطال مجهولين في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، خصوصاً بعد مرور دهر على الزمن الروائي. ولعلني أستطيع المجازفة بالقول إن اللغة الشعرية التي تمتاز بها هذه الرواية، على غرار روايات مروان عبد العال السابقة، وبعض الرؤى الغرائبية فيها، كسرت تدفق السرد وكثافته أحياناً، ونقلته إلى التقريرية المباشرة في أحيان أخرى، ولا سيما في الفصل الحادي عشر حيث يتحول السرد إلى توثيق إخباري لقصة غيفارا غزة. ومهما تكن الحال، فإن اللغة الشعرية في الرواية لم تسهم، على ما أعتقد، في بناء الرواية عمودياً، وأبقتها فاعلة ومتدفقة على المستوى الأفقي. والرواية في نهاية المطاف تركيب وإعادة بناء للواقع المركّب وللشخصيات المشطورة وللمصائر البشرية المتعاكسة في آن. لكن، لكل روائي خياراته الفنية، وميوله في هذا الميدان من الكتابة. أما هذه الرواية فجعلت الفدائيين الأوائل يتحركون في غزة كأننا نسمع أنفاسهم أو ننصت إلى دبيب أقدامهم، أو نشهد اللحظات الأخيرة قبل استشهادهم.
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر