نحو تأصيل وتحديث المشروع الوطني الفلسطيني
مروان عبد العال
تحية للإئتلاف العالمي لحق العودة، الجهة المنظمة للندوة التي أتاحت لي فرصة اللقاء بكم ، وترحيب بالأعزاء القادمين من أرض الوطن، وهذه النخبة الثقافية الحاضرة، والمشاركة في الندوة، وشكرًا للانتفاضة التي جعلت من عنوان الندوة المؤجل أمراً ممكناً يمكن أن تكون إرهاصات أولية لتفكير جدي بدأت تتحرك في ركود مياه اللقاءات والندوات والمراكز، ومنها جرى في أكثر من عاصمة تحت اسم : "مأزق المشروع الوطني الفلسطيني .". هذا إقرار ضمني بالمأزق، ولكن ما الذي تبقى أصلاً من المشروع الوطني !؟
وهنا لابد من إعادة تعريف لمفاهيم ملتبسة،
وتستخدم في غير مكانها حيناً، وتردد كعبارات روتينية تلازم خطابًا تقليديًّا
أحياناً
. المشروع كما أعرفه
وأعرّفه هو كناية عن منظمومة شاملة تحتوي في متنها شعبًا قد تعرض للسحق مادياً
ومعنوياً، ولكنه مصمم على النضال من أجل صيانة ذاته وقيمه وثقافته وشخصيته، هويته،
وحقوقه، ويتوحد حول قضيته الوطنية في قوى وحركة تحرر وطني لتحقيق هدف التحرير، ويبنى
على ركائز منها:
1-
الناظم: الذي يسمى بالسياسة الفلسطينية
العليا، عبّرعنها الميثاق الوطني الفلسطيني، ويحكمها الانضباط الوطني على أيقونة
الوحدة في حل ونظم الخلافات بين أبناء الصف والتناقض الرئيسي مع الاحتلال، وهنا تسمى
المصلحة الوطنية العليا، ثم هناك برنامج الإجماع الوطني المسمى بالثوابت الوطنية
الفلسطينية المرتكز إلى العودة والدولة وتقرير المصير. البرنامج الذي لم يكن يوماً
من الأيام" دولتين لشعبين"، ولم يطرح أن خيار "التسوية" عبر مفاوضات هو طريق تحقيقه، بل إن تحقيقه
يعتبر مهمة كفاحية، أي يستحيل أن يتراجع العدو من دون أسباب القوة بكل أشكالها
المادية والعنفية "القوة الصلبة"، ومنها القوة المعنوية، أو الروحية "القوة الناعمة"، وما
يمكن تسميتها بالغاية التاريخية، لذلك اعتبر العدو أن شطب الميثاق كان "أكبر
إنتصار حقق في تاريخ الحركة الصهيونية".
2- التنظيم: حاملة المشروع وأداته الثورية هي فصائل المقاومة الفلسطينيّة
المسلّحة، مادتها الأولى كانت المخيمات التي شكلت تاريخيًّا العمود الفقري للمشروع
الوطني الفلسطيني، وليس عبثا كان يطلق عليها "معسكرات"
3- النظام: الذي جسد الجبهة الوطنية العريضة،
بثقافة وطنية تحررية، مثلتها منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً وحيداً
للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، داخل وداخل الداخل، وخارج وخارج الخارج /
شتات قريب وبعيد.
4-
المنظمومة : التي تحتوي مساحة الصراع
الشامل وطبيعته، ومنحته التحالف العضوي من خلال ظهير عربي رسمي "قبل إقرار
خيار السلام الإستراتيجي"، وشعبي "قبل ما يسمي بالربيع العربي"، وإلى
حينها ظلت فلسطين قضية مركزية، والكيان الصهيوني هو العدو المشترك للجميع، وتضامن
دولي وتحرري، وقبل إنهيار الاتحاد السوفياتي. السؤال: هل نجح عدونا في اختزال المشروع
الوطني الفلسطيني ؟
ندرك أنه لم يتوقف يوماً عن مهمة تجريد المشروع
الفلسطيني من قوته، وعزله عن محيطه وصولاً إلى فكفكته، وثم نفي الشخصية الوطنية
الفلسطينية، كشخصية نقيضة له، وكذلك محو ذاكرة الفلسطيني، زمانياً ومكانياً،
والعمل الدؤوب لاغتيال أحلامه، وتحقيق حقه بالعودة، حتى لدرجة إقناعه باستحالة
النصر، أي أنه بعد احتلال أرضه يسعى إلى احتلال إرادته وعقله، وسلبه هذه الغاية
الروحية الجامعة، ولنعترف أنه شرع عبر مدخل البرنامج المرحلي، ثم أدخلنا بحلول
مؤقتة من خلال أوسلو وملحقاتها تحت مسمى مرحلة المرحلي، وحين جرى بهتان أقانيم مقدسة، مثل: العودة
والدولة وتقرير المصير!! أدى إلى نشوء ضبابية شوّهت الغاية الروحية التي اعتبرت
الحافز المعنوي الذي يستحق التضحية،
تأثير أوسلو المدمر
على المشروع الفلسطيني، حيث قلبت المفاهيم من الصراع إلى النزاع، وتغيرت قيم، وجرى
إفراغ المشروع الوطني من مضمونه التحرري، وكانت الجدوى السياسية لطاولة المفاوضات
عبارة عن خسارة سياسية ومعنوية حولت الزمن الفلسطيني إلى ملهاة، وأداة تزييف
استعمارية لتدمير الغاية الروحية الجامعة للضحية ندرك حاجة الغاية، كي تتحقق إلى الحركة
التي تعبر عنها، ثم إلى المركز الروحي الذي يجسد وجودها المادي، والذي يحفظ أو
يبعث الهوية ويراكم النضال، لكن بشرط أن لا يتحول إلى رمز سلبي كما هو الآن.
هل
قدمت السلطة الناشئة نموذجاً مأمولاً، أم محبطاً للشعب الفلسطيني؟ ومغايرا،ً أم
مطابقاً للواقع العربي؟
إن حصيلة التسوية الإجمالية كان انتقال
الثورة إلى الداخل، ولكن بسمة التخلي عن مضمونها التحرري، خسارتها المعنوية كثورة،
فولدت من هذه الحالة سلطة مقيدة ومؤقتة، وقطعت الطريق نحو دولة مستقلة، والغريب أنه
تحت الاحتلال، وتبين فشل حفظ ثنائية الدولة والثورة. صارت المؤسسة الأمنية أهم
مؤسسة في المشروع الوطني المفترض، أو ما تبقى منه. أما غزة، فكلما طال أمد حصار القطاع ، ندرك أن الانقسام كان ولا يزال
عملاً مدبراً، والحروب المتعددة التي شنت عليها تهدف لنزعها من المشروع الوطني،
ولعل التغيير الناشئ للبيئة الاستراتيجية كان تأثيره سلبياً على الخروج من نفق
الانقسام على الرغم من أننا في زمن "عقيدة أوباما"، باختصار شديد تعبير
عن العجز والنموذج السيئ في حمل مشروع وطني جامع، يرتكز إلى خيارات التنوع
والتعددية، وبوجهيه الإسلامي والوطني، أو بين القوى الجديدة المضافة للمشروع
الوطني، وقوى قديمة صنعت التجربة. وهذا مثال سيئ أيضاً لمفهوم المصالحة ذاتها،
وليس بين فصائل، بل بين الخيارات السياسية المتعددة، والمركبة في الواقع الفلسطيني
لمصلحة الأحادية وسط التباس بين ثنائية المقاومة والسلطة، حيث تم استخدام المقاومة
كشعار، والسلطة كهدف، بل كتلخيص للمشروع الوطني، وفي الحالتين تتحول كل سلطة إلى مشروع
مختلف عن الآخر، وبذلك تكون برهنت بالملموس عن عدم جدارة، بإدارة سلطة واحدة لكيان
واحد، فكيف ستدير دولة واحدة يوماً ما ؟ كيف إن صار لكل طرف مشروعه الوطني الخاص
به ؟
أما فلسطين المحتلة في العام ٤٨ فقد فشل العدو
في سلخهم، لكنه يسعى إلى إنتاج جيل عربي منفصل عن الحركة الفلسطينية، وضائع بلا
هوية، لايثق بنفسه، ولا بأمته، ليس له أمل في حاضره ومستقبله، ولكن الوعي والخبرة
ومعرفتهم بمخططات الاحتلال تعطي أمثلة بطولية رائدة، وتثبت عكس ما يريد.
أما قضية اللاجئين، لم تتوقف كل المناقصات
التي سعت، وتسعى لتغيير النصوص بإغراءات المقايضة والتبادلية، أو التأجيل، وثم ما
يجري بالتطبيق على الأرض من عملية تصفية لمجتمع الشتات/المخيم، لأنه الصورة الطبق
الأصل للقضية الفلسطينية، وخميرة المشروع الوطني، جرت فيه وحوله مياهٌ كثيرة،
ودخلته مواد تفكيك غريبة عن نسيجه، بهدف ضرب مكانته كوعاء للهوية الوطنية،
والانطلاق من فكرة الاستيعاب للاجئين في دول الإيواء الإنساني نحو إسقاط ممنهج
لرواية اللاجئين الفلسطينيين.
الامتحان الجديد يتمثل اليوم بالانتفاضة التي
انبهرنا بها، التي لم يفجرها كائنات فضائية، أورقمية أو حبل خارج الرحم، بل جيل
صنع في فلسطين، ومن رحم التجربة الوطنية التاريخية. العفوية تحتاج الى تنظيم ،
والفردية التي لا ينقصها الروح الجماعية، لكنها تحتاج إلى عمق شعبي، والأهم قيادة
متجددة وجديدة، ومحررة من قيود، وشروط الواقع الذي تمرد الشباب عليه، بمعنى قيادة
تحمل كلفة القيادة باعتبارها تضحية وليست وظيفة، بل تستولدها من عمق التجربة،
كمدخل لتجديد الحياة والنظام والشرعية الكفاحية، لأنها الوحيدة الكفيلة بإعادة
صياغة مشروع وطني فلسطيني جامع. ماذا فعلنا للانتفاضة؟ غير أننا نصفق للانتفاضة،
ونتغنى ونتغزل بتضحيات الجيل الجديد، ونعيش صدمة لم نكن نتوقعها، لذلك التلعثم
السياسي سيد الموقف عبر إفساد النقاش قبل أن يبدأ، واختراع الخلاف مجاناً على
تسميتها وتعريفها، وإنكارها أو تبنيها، والتأتأة الفكرية التي تسعى إلى إصدار
المواعظ والدروس بعيداً عن التفكير النقدي الذي لا يجمّل الواقع بالجمل المنمّقة،
بل يسعى إلى معرفة الخطأ وتصحيحه، وهذا يحتاج لمراجعة كجردة حساب لمعرفة الربح
والخسارة في مسيرة كفاحية غنية ومجيدة، نحتاج إلى انتفاضة العقل، بمعايير نقدية
ونزاهة فكرية أخلاقية وعميقة، وموضوعية ومنهجية، وبمستوى جرأة قلوب فتيات وفتيان
الانتفاضة.
قد نستمع، ونصم آذاننا وعقولنا من جديد، ولكن لا يوجد مشروع يتجدد من
تلقاء نفسه، أو ينهض بشكل ميكانيكي، تتحمل مسؤولية الصمت، أوالمحاباة، أوالغياب،
فالمسؤولية تقع على كل القيادات والنخب، والإرتهان إلى الانتظارية، أوالانتصارية
ما هي إلا استراتيجية اللاخيار، أو العجزارتدادات الانتفاضة، أوتداعياتها
الإيجابية يكون في أن يندلع صراع يؤدي إلى حياة جديدة تحت وقع إدامة الاشتباك الانتفاضي، من جهة،
وخوض مراجعة نقدية بشروط ثورية وتغييرية من جهة أخرى، هي بمثابة القنطرة الوطنية
لعبور المنطقة الرمادية، أو الانتقالية
نحو مرحلة جديدة. تجديد الشرعية الثورية تكون في إنتاج فكرة جديدة
مبتكرة، ووعي جديد وأصيل، ومما أقرته الحياة ذاتها.
إن حماية المشروع الوطني الفلسطيني اليوم
بوجوده وبتأصيله، وتحديثه يبدأ عندما يشعر الكل الوطني بأنه حاضر فيه، مشروع يدرك
حقيقة الصراع، وليس خارجه، يواجه كيانًا صهيونيًّا عنصريًّا يعادي المنطقة وشعوبها
قبل الشعب الفلسطيني، وإن سلام المنطقة واستقرارها وتقدمها لا يتحقق من دون تفكيك
مكونات هذا الكيان الاحتلالية، وأنه لم يعد ممكنا تحمُّل تدمير إنساني لغايات سياسية للمجتمع
الفلسطيني في فلسطين نفسها، وفي الشتات، وفي ظلم يخترق للحواجز ويعبر الحدود من دون
تصريح مسبق،
يرافقها انتفاضات
كرامة، كل له انتفاضته من أجل كرامته الخاصة به وتحديات جديدة بصيغ مختلفة، فأي
مشروع وطني يحمل اسمه الحقيقي يجب أن يشمل الشعب الفلسطيني كله في جميع أماكن
تواجده في فلسطين والشتات .
لذلك الامر يتطلب استراتيجة جديدة تعتمد
المقاومة كاشتباك تاريخي شامل ليست مجرد جملة تستخدم، بل إلزام تفرضه طبيعة
الصراع. هو قانون حركة التحرر الوطني، وهو هيبة وعمود ودرع وقوة المشروع الوطني
وغايته الجامعة.
مشروع وطني أصيل وحديث، يستعيد فلسطين
الحقيقية في الذات الوطنية بوصفها قضية التحرر الوطني في وجه الاحتلال، قضية العدالة
النقيض للجريمة الصهيونية. فلسطين الحقيقية هي قضية الوعي الجديد النقيض للظلامية
المتوحشة، وقضية الإنسانية في هذا الشرق النقيض للوجه الصهيوني البشع والرجعية
المتزمتة. قوة أي مشروع حتى لو كان قومياً أو إسلامياً، تحررياً أو تغييرياً
وطنياً. هو من قوة رمزية فلسطين، لأنها معيار لقوة ونبُل الغاية، وطاقة المشروع من
وحدة الرؤية، وقوة الفكرة وببعدها التحرري ضد الظلم والاستعباد والقهر، والتبعية والاستغلال.
فلسطين الحقيقية التي ننتمي حصرياً لها، هي فينا
أسطورة خالدة، ويستحيل أن تموت، لأنها قضية الوطن والحق والحرية.
*نص المداخلة في ندوة الائتلاف الفلسطيني العالمي لحق العودة تحت عنوان" تداعيات
انتفاضة الكرامة على المشروع الوطني الفلسطيني".. السبت في ١٩ آذار ٢٠١٦، مخيم
مارإلياس، بيروت - بيت أطفال الصمود.
تعليقات
إرسال تعليق