خيانة للبشاعة التي ترتكب بآسم الحب


مروان عبد العال*
 
أحييكم تحية مسائية نقية عطرة مكللة بزهر آذار، في الركن الهارب من إرهاب الحداثة نحو أصالة التاريخ، يفوح مع موسم الأرض الناطقة برحيق فلسطين و بالأبجدية العربية. مباركة بالأصالة عن نفسي وفرصة للحديث ولو جزئياً في رواية تستحق القارئ الذي يقرأ كأنه يبحث عن شيء ما حوله في الظلام.
يسعدني أن أحتفي معكم بمولود جديد وقيمة أدبية مضافة لمبدعة تعالج قضايا المرأة ووضعيتها الاجتماعية ونضالها كي تحقق حرية الروح  وتتنفس كما تشاء وتكتب كي لا تختنق، لأن الكتابة من حيث صيغتها اللغوية هي كلمة مؤنّثة ولكن الابداع لا جنس له والتأنيث والتذكير لا مجال للحديث عنه في مستوى الكتابة بل بمضمونها.
شدتني روح الكلمة، ما أن تقرأ بصوت خافت حتى تشعر بأنك تكلم أحداً ما، لحظتها تكون الشخصيات تتحدث إليك فتسمعها بقلبك وليس بآذانك. قدم لي النص نفسه دون عناء ، واجتاز مخيلتي بوصفه نوعاً ادبياً لا يمكن  مقاومته ليس بسبب واقعيته بل لأنه يكسر النمطية ويضفي على السرد نغماً موسيقاً ، ينساب في داخلك لتشعر بالسعادة حين تتماهى الفكرة مع النفس. او تكون إيحاء خفي لها، أجمل الاشياء عندما نجهد لنصبح ذاتنا.  
وداد طه الفلسطينية المتيمة بالوطن، تجترح المعجزة حين تحوّل الكتابة الى منطقة آمنه ووطن معنوي تأخذنا معها إليه، كأنها تقول أن الكتاب ليس صديقاً فحسب بل يصنع لك أصدقاء. منحتنا مكافأة مدهشة وهي تتحايل علينا لنتواطئ معها في دخول سراديب النسيج الانساني لأبطالها وتقنعنا بأنها تصنع أبطالها مواد بريئة كما يصنع طفل لعبه من معجون ملون، هذا المسحوق السحري المسمى سرد، يؤرخ لطغيان منطقي ساد لزمن في معادلة النضال النسوي الوطني أو الاجتماعي، على قاعدة الرغبة بالتحرير وتحرير الرغبة.
لكن وداد هنا تضع المثلث على قاعدته إسهاماً  في التحرر الذاتي ، فتنسج حبكة حكائية  تتطابق مفرداتها مع المشاهد والشخصيات والأحداث والأمكنة ، فحولت الصيغة السردية إلى مواقف ضرورية، مكثفة ومتماسكة. ثم البنية الدلالية الاكثر تجسيداً لمساحة الواقع وتمثيل الروح الجماعية.
نقطة التحول في الرواية  تبدأ في الشارع الذي لم يلوثه إلا قُبلة عابرة ومفتعلة وتآمرية المصيدة التي تعبث برمزيته المقدسة لغاية أخرى وتسقط في شباكها. شخصية غنوة السمراء أو السجينة رقم309 ، شخصية ذات أبعاد تولستوية،  فتاة في مقتبل العمر لا ينقصها الجمال ولا الذكاء. تستعيد بطلة تولستوي "آنا كارنينا" عندما تذكر" انهم يقولون إن النساء يحببن في الرجال حتى رذائلهم وأنا أكره فيه فضائله".
في رائعة تولستوي يصفها بأنها طاغية في الجمال لكن سحرها في لب القضية انها لا تطيق الكذب، هي انسانة صادقة مع نفسها، لا تعرف مهنة خيانة نفسها، مخلصة، ولذلك عندما تقع في الحب ،لا تخفي حبها، بل تطالب زوجها العظيم بالطلاق، لن تريد ان تعشق بالخفاء حتى لا تخون نفسها.
"آنا كارنينا" ضحية نفسها وجمالها و تعتبر أن الانتحار الحقيقي حين لا تقدر أن ترفض زوجاً يكرس حياته لنجاحه وحتى فضيلته أنه يقدس سعادتها.
ومن السندباد الذي "يداوي الموت بالموت" ويعاين الحرب صوتاً وصورة بدمه ودمعه  فيعلن السفر وطيف فؤاد طبيب امراض القلب وسهاد عيسى الغارقة وسط الملفات الزرقاء ، تتابع اسماء المرضى وعلا النابضة بالحرية (حسن صبي) التي تدخل سجن النساء لتكتب موضوعاً عن فتيات الليل ، فصارت من اصحاب السوابق ولكن بإلتباسات صارخة في الوعي  يبدأ بعلاقة البطلة بنفسها من توقد وشهوة  وبمن حولها من انفلات وانانية.
توغل الكاتبة في أحشاء المجتمع وتقدم نموذجاً لشخصية الشيخ خليل لتطرح قضية النفاق الاجتماعي حين لا تعبر الكلمات عن معانيها ، والانفصام في الشخصية الواحد بين ما يقول وما يفعل، ينهى عن المنكر في العلن ولكن يمارسه في السر، وتناقض مربك وصراع داخلي في عمق السجينات اللواتي استطعن بالاثم الشفاء من عالم خارج السجن.
وعلى امتداد ال138 صفحة تعمل وداد ببراعة على التمهيد للصدام بين خطي الحبكة وخلف باب السجن الموصد تكشف أسرار الروح والجسد وفي انطلاق  المطرد تتخلله إيماءات شخصياتها إلى النهاية المدوية.
الرواية هي رحلة بحث عن يقين عن حقيقة الذات مهما اختلفت الامكنة ولكن لا يختلف السؤال ، قبل السجن وفي السجن وخارج السجن . ان كان السجن داخلي ،في تناقضات تستعر بين اسطر الرواية وداخل مسارات السرد ، انهيار الحياة  ووقوعها اسيرة في كابوس الخطيئة . وهي تحب فؤاد كأنها تحب عذابها وتسحق ذاتها وكما قالت " كي أكفر عن خطاياي" .. سؤال العائلة ؟! عن الامان والسعادة والاسرة واستمرار الحياة .. وعن "البيوت التي تحمى بالقلوب وليس بالأعمدة ".قبل انتحارها تخبر آنّا كارنينا حبيبها فرونسكي . "أنا لا اعرف من أنا، أنا لا أعرف سوى شهوتي تجاه الحياة " تضحي بنفسها من أجل ذلك الحب. عندها مثلما قالت غنوة لنفسها: "وأنت اين تهوين؟ وأنت ما فيك مكسّر ومهشّم ومسحوق، وهذه الهوة فيك لا فيك ولا في هذا الانحدار من النافذة الى الأرض . إلى أين تهوين؟"
إلى أين تهوين ؟ سؤال يدور بلا توقف في أسرار النفس: "وأنت منذ سقطت من نفسك ما عرفت ارتفاعاً ". كأنما الحب سقوط من النفس داخل الفكرة وان الرغبة الانانية "هائمة على ثقل الهواء " أي أنه ليس حباً ما اكتشفته غنوة في نفسها وداخل زنزانتها، انه لايشبه الحب طالما أنه سجين الحلقة المفرغة.هي نقد موجه الى النظرة الليبرالية للحب الذي هو مخاطرة عديمة الجدوى. والنظرة التقليدية التي تقدس الزيجات المختطة تخطيطا استهلاكياً بوصفها مبعث السعادة لأنها تدوم أكثر.
هكذا يحضرنا قول الشاعر رامبو : " يجب ان نبتكر الحب من جديد" وفي الحب يحاول الوصول الى " كينونة الآخر" يذهب الشخص الى ما وراء نفسه، ولا يصنعها فرد بنفسه ولنفسه. فلسفة الحب أنه ليس حدثاً ميتافيزيقيا فقط، يبدأ بلحظة رومانسية وسحرية خارج العالم ويدخل الى المسرح العام والاندماج والاختبار، ينزل الى الارض "لا ملائكة على الارض يا صديقي " تدرك أن الحياة تغرقها المستنقعات ومثل اختبار السياسة الحقيقي الذي يكون ساعة الوصول الى السلطة..
ثنائية العاطفة الفكرية والعاطفة الجسدية، تشبه ثنائيات السياسة والسلطة ، كالعلقة بين بين الحب والعائلة،مقاربات بين السياسة والحب، القاسم المشترك هو الصراع ، في السياسة ضد عدو والحب ضد الانانية. أحيانا يأخذ شكل غريم وبذلك كما قيل الغيرة مكون من مكونات الحب نفسه.
ينفجر صراع الهوية والاختلاف، يمكن ان يكون حرباً فيه منتحرون وقتلى وانتصارات وهزائم ونكسات ومساومات وخيانات وشوزفرينيا ومناكفات وهدنة وانفراجات. ليست شخصيات ذات البعد الواحد متعددة الأوجه مثيرة ومتناقضة مليئة بالجروح وبالعيوب هم ضحايا وليسوا ابطال وحكماً شخصيات بعيدة عن المثالية.هم هكذا شخصيات شفافة ولكنها اشكالية، فهم  ليسوا صوراً فوتوغرافية  للنهايات السعيدة لا تنتهي الحبكة بأن يتزوج البطل البطلة بل هي البداية.
مهمة الرواية لا تقتصر على تصوير وتفسير الواقع بل أن تحدث ثورة  نقدية خلف الاسئلة المعلقة وشخصياتها الملتبسة وسبر غور الذوات المركبة والمهمشة والمنكسرة التي تجهل جسدها ونفسها وقهرها وحقوقها المسلوبة، أن تلقي الضوء في سجن النساء المعتم على كائنات متخشبة وحياة عقيمة، وتعيش في أقانيمها الباحثه عن الحرية في السجن وخارج السجن وبعد السجن، في أي سجن ؟
رواية "أخون نفسي " للكاتبة وداد طه، تمسح عفن السجن المعنوي الذي يغلق أبواب الجنون على واقعية الحب، نحو الحرية التي تقتفي أثر طائر الروح الطريد خلف حدود وطن، حرية مواطن وحرية الانسان،هي تحرر النفس المقيدة بحبال الصمت الثقيل الذي يسبغه المجتمع على النساء.
هي ثورة جديدة عبر سلاح الوعي بالفن الجميل في سرد سلس وقلبٌ مبدع وقالب من خيوط أنثوية ناعمة، تعج بوقائع درامية وحين تتخيّل الكراهية تتحول الى زجاجة مولوتوف محشوة بنارالعشق بمتعة البوح، بالحرية المشتهاة، حرية حارقة مثل خيانة حمقاء لكل أوهام النفس السلبية والهشة والعبثية، حقاً هي خيانة للبشاعة التي ترتكب باسم الحب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نص الكلمة التي إلقيت في حفل التوقيع رواية "وأخون نفسي" صادرة عن دار الفارابي/ بيروت للكاتبة وداد طه . اقيم في مدينة صيدا/ خان الافرنج - الكورنيش البحري / مقابل القلعة البحرية/ الخميس في 25 آذار 2016 / الخامسة مساءً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

ميدوسا": خِزَانَة تَجْر الْبِلَاد اليوم الثامن