جديرٌ بفلسطين من يقاتل من أجلها
مروان عبد العال*
ثالثهم أحمد. ثلاثة رجال ولم تَبْتلِعهم الخُرافة بعد!
أصالة الحرية ورموز التّحرُر الأُممي وأبطال أسطورة آلمطلق، أمميون في كفاحم وهم يخترقون حواجز الزمن ... الأوّل ياسوكي (صلاح) والثاني اوكوادير ( باسم ) و ثالثهم كوزو (أحمد) ... ثلاثة أبطال أتوا من مشارق الأرض إلى وطن لم تنقرض فيها البطولة يوماً، و روح البطولة الجماعية التي تنجب فتياناً جُدُد، حين كسروا معادلة الهوان وذهبوا بكرامة مغسولين بمذاق تلك آلحكاية.
تحية الى أول ذكرى ، قبل ٤٤ عاما لم نكن نعرفهم ، ولم نسمع بهم ولم نراهم أبداً ولكن حتماً نُحبّهم ونحاكيهم ونحلمهم.... نعرف المثّال والقيم والثورة التي فيهم ونحن مثلهم تماماً نؤمن بها ونقتدي بها .
هي أول ذكرى لهم نجتمع بهذا الأفق ، بعيداً عن النصب وبحضرة ثالثهم ، لنغمس كلماتنا بأسمائهم لا لنكرمهم فقط بل لنرث عنهم حتميّة أن نعيش مكانهم!
تحية الى الاحتياط رقم واحد ، ثلاثة رجال وصلوا بأوقات مختلفة غرق أحدهم في عملية تدريب بحرية فاستدعي الاحتياط رقم واحد على عجل وكان إسمه: كوزو اكوموتو، وبعدها سافر كل واحدٍ منهم الى بلد اوروبي مختلف، ثم إلتقوا وعبر رحلات متعددة ووسائل سفر مختلفة الى مكان الانطلاق ، جلسوا في مقاعد متباعدة على متن الطائرة .
ساعة الوصول الى مطار اللد في تمام التاسعة وخمسة واربعون دقيقة مساءً . الهدف ، اغتيال العالم في السلاح البيولوجي أهارون كاتزير وهو شقيق افرائيم كاتزير الذي أصبح في العام (1973) رئيساً الكيان .. "باتريك اورغويللو" كان أسم العملية وأمر المهمة : الانتقام لتدمير طائرات شركة طيران الشرق الاوسط في مطار بيروت ... والإمضاء الابداعي بالحبر السّري كان للعقل المدبر : د. وديع حداد..
تحية الى كوزو الفلسطيني رقم واحد، يوم ظلت القنابل تحاور الزمن ، ينهمر رصاص كوزو ليعزف النشيد الوطني ويسهم في صناعة الحق الأزلي والحلم بالعدل وبالحرية . يكز على أسنانه كي لا تنفذ من جعبته الذخيرة وحتى لا يستعيد تاريخ الفشل ، في عقيدة الساموراي الفشل يعني الموت.
متجاوزاً عشوائية الرّاهن، يستمد قدسيته من كونه وطناً لمن يكتبه ويمْتشقه كالصباح. فلسطين علمتنا ان الاكثر جدارة بهويتها من يقاتل لأجلها أكثر .. وهو جديرٌ بفلسطين لأنه يقاتل لأجلها، منذ ان تعمقت فيه وعياً وقناعة .. فقط لا يستحقها من يغادرها ويغدرها.. !
مدرسة الحكيم تعلمُنا درس يقول إنّ دائرة الصراع مستمرة ، طالما هناك إحتلال، فنحن في سجال لم ولن يتوقف. بعد ٣٥ سنة اعترف العدو، أن إغتيال غسان كنفاني كان رداً على عملية مطار اللد، الصراع سجال مستمر، حين صار الامين العام ابو علي مصطفى شهيداً. كان الرد بقتل العنصري زئيفي ، وصار أحمد سعدات الأمين العام اسيراً .
واليوم في حضرة من قضى في زنزانة الفاشيست عمراً ، كان يقرأ بلاغه ويكتمل.."إنّني جندي في الجيش الأحمر الياباني أحارب من أجل الثورة العالمية، أقاتل مع الجبهة الشعبية وإذا متّ سأتحوّل إلى نجم في السماء".
تحيه إلى أحمد الياباني : كوزو اكوموتو العربي : الرفيق الساموراي الاحمر، سليل الكاميكاز ، الشاب الطالب في كلية علم النبات ، كان يومها عمره ٢٤ سنه ، ابن مدير مدرسة، ومن عائلة ميسورة الحال، يؤمن بأنه دون الثورة يتحول العالم الى منفى. لأنّها الثورة نقيض الشعور بالنفي أو الاغتراب عن واقعنا وأنفسنا وبلادنا . كوزو الانسان يبحث عن الحريّة مقاوماً ضد الظلم والظلام والظلامية ، كما بحث عنها تشي جيفارا في غابات أميركا اللاتينية.
تحية لمن انتزعت حريته بوضعه في الرقم واحد على جدول التبادل ، بعد ١٣ عاماً من التعذيب النفسي والجسدي نال الحرية بعملية "الجليل" التي قامت بها الجبهة الشعبية / القيادة العامة في العام ١٩٨٥ . وسنوات صراع مريرة بين قبضة الجلاد لتفريغه من انسانيته وتدمير ذاكرته وإحساسه بالزمن . المقاومة الذاتية وابتدعنا لها مواصفات حصرية جديدة في معركة التحدي نحو استعادة ذاته ككائن حي ،وكيف نجعله يتصرف كالإنسان، ما هي وظيفة حواسه؟ واطرافه ؟ يديه ورجليه؟ وكيف يقتنع أنه ما يزال إنسانا..!؟
والى اللاجئ السياسي رقم واحد، نذكر بمحبة هذا اليوم كل اصدقاء واحبة كوزو وكل الذين وقفوا دفاعاً عن أصالتهم وانتمائهم يوم أودع كوزو السجن وفي لبنان عام ١٩٩٧ وبتهمة دخول البلاد خلسة مع خمسة من رفاقه ، وعام 2000 نال حريته من جديد كأول لاجئ سياسي في لبنان.
وإلى المنتصر الأول على ذاته، آخر مرة كان يجثم فوق هيكل رخامي في مقبرة الشهداء في شاتيلا الذي يرمز للعملية وهو يقدم شهادة ميلاده الجديدة، برفقة باقات الزهر ورائحة أعواد البخور. ختم كلمته برفع قبضته الى الأعلى وصاح :، " ايها الرفاق كوزو سيبقى يحارب معكم ضد "إسرائيل". بعد هذه الكلمات أدركنا إنّه لم يولد فقط وإنما عاد إلينا محرراً من الموت ..!
تحية الى الظّل الأول ، لقد إنتصر كوزو على المستحيل وفك قيده الداخلي ، لغز هذا الرجل أنه يهلك ولا يهزم ! ومعنى الهزيمة بالنسبة إليه تكون حين يقتنع بأن اليأس حقيقـــة، انتصر على الاستسلام بهدوئه وبابتسامته التي لا تفارق وجه وبالرفاق الذين رافقوه كظل واحتضنوه كطفل كبير فكانوا أسرته وقت اوجاعه ونوباته وفرحوا بكل خطوة جديدة تضاف الى حياته ، وظله الاول والدائم الذي كلما ابتعد عنه يوماً وقسراً تقرأ ذلك في تقاسيم وجهه ودمعات عينيه .
تحية الى المقاوم الاممي الأول كوزو ، نبي الحلم الجميل وهو يتنفس فلسطين دماً وكفاحاً ووجعاً وسجناً وزنزانة وقمعاً ومخيماً وحرية وحلماً ، يؤمد لنا هويته بكل حواسه وبكافة العيارات والمعايير ، وتكفيه منّا زهرة فلسطينية من جنون ما تبقى من هذا الأرض، ونعلقها عربون حب وتحية مجد للبطولة بلا حدود وللكفاح الاممي ضد الظلم العالمي ، ولعنفوان هذه الارادة الاسطورية والصلبة .
شرّفنا حضوركم ومشاركتكم وكلماتكم واشعاركم والفيلم المبدع الذي يختصر الكثير ، هو تعبير عن اصالتكم في التمسك بجوهر الصراع ، الذي تمثله فلسطين والوفاء للحق التاريخي الغير قابل للنقصان أو المراوغة ..
هناك الفرح كان أُمميا بإمتياز أشبه بكرنفالٍ مدهش. ذات مساء بمدينة تونس ، فرقة تحتفل بسقوط النظام ، صدفة نسمع أغنية تصدح في فضاء المكان ونحن نعبر الطريق، وعرفنا أنها من كلمات للشاعر الشهيد مختار اللغماني (الذي قُتل تحت التعذيب في السجن بتونس ) تقول:
أوكاموتو/ أحبّك يا أوكاموتو/أحبّك يا أخي الإنسان/ولستَ أخي في الدين/ولستَ بقارئ القرآن/ ولستَ من "خير أُمّة قد أُخرجت للناس"
فحين حُبول البركان/ تذوبُ جميع الأجناس../وتسقطُ كلّ الأديان!
سقطت كلّ التيجان!../مات أبطال الرّوم/ ومات أبطال اليونان/ ومات عنترة وعليُّ ابن السلطان/ مات جميعُ الأبطال../وما زال الإنسان!
وأخيراً...كوزو ، إسم ورمز وذاكرة نقول له : نحبك ثانيةً وثالثةً... ودائماً
* نص الكلمة التي ألقت تكريما للمناضل كوزو اكوموتو/ بيروت/ مركز طبارة/ 2/6/2016
تعليقات
إرسال تعليق