عاش شهيداً مع وقف التنفيذ...!

كلمة وداع في تأبين القائد ابو عماد الجنداوي


كان القائل يعني محارباً مثلك حينما قال " تقتلنا المنون بلا قتال"، عادةً لا يخل المحارب موعداً، كما هذه المرة. كان يفترض أن نتحدث طويلا صباح ذلك اليوم عن تطوير عمل اللجان الشعبية في المخيمات. دائما تغافلني وتغيّر الحديث مع سبق الاصرار والترصد إلى ذكريات بعيدة ونكات سوداء من خبث بريء ونميمة ونوبات من الضحك، أعرف أنك تعرف تسخر على مبدأ شر البلية ما يضحك.
اعذرني يا رفيق المهمات الصعبة، المقاوم والمقاتل والمدرب والفدائي والمحارب، الدليل والاستطلاع والآمر العسكري والبطل والمنفذ والمخطط والشجاع والقائد، و المواصفات السهلة او والممتنعة، الودود والصلب، البشوش والعنيد، الهادئ والهادر والكتوم والغاضب مع ذلك ظلت له ميزات اخرى ، تختلف عن المسؤول السياسي الفلسطيني التقليدي، حيث هو ليس من موديل العمل على إشباع كل حدث حواراً ونقاشاً. وقد يكون الحديث فلسفيا مركزاً وعميقاً لشدة بساطته ودلالته، يسألني: كم بقي لنا من العمر كي نعيشه في حرب؟ فأقول حائراً: بل كم من العمر مضى ولم نعشه بدون حرب !
 نعلم ان ليس الانسان وحده من يخوض معركة موته البطيء. هناك موت فردي وهناك موت جماعي. كنت تهزأ انواع القتل ان كان قتل للحق او للمجد او تدميراً للبطولة ورموزها وحتى اغتيال الارداة. يعني موت بالجملة مش بالمفرق؟ و تسخر بعيون حزينه مستنكرة: لكن لم نفعل كفاية لتأجيله؟ فكيف ان كنا نفعل بعضه بأيدينا!؟
نودّعك ايها المحارب الآتي من بين ازيز الرصاص، منذ ان خرج صبياً من ملاعبه في وعرة السريس في جليله المزيّن بزهرها الابيض والرائحة الشجية حين كان يلعب بين أشواك القندول الاصفر ويصادق شجرة تين تنبثق من شق الصخر. يشرب من عين الزيّات ويرضع لبن الماعز في وادي الملك، مرّغ قدماه بتراب الهوشا والكساير ورويس علي والطبعون والقرمان. وعشائر الزبيدات والسواعد والخوالد والحجيرات والجنادي ينتشرون حتى بئر المكسور، وهناك شاهد سقوط شفاعمرو بيد اليهود .
بعدها الطفل خالد صار رجلا رغماً عنه، وهو وجبروت الموت في حلبة صراع مستمر، لا نعرف كم مرة ذهب ولم يعد، صمته المريب يقول لنا انه كان هناك في فردوس فلسطين على خط تماس مباشر . الحياة ورفاق السلاح يا ابو عماد ان كل واحد منهم يحيا مثل شهيد مع وقف التنفيذ.. وكما يقول غسان كنفاني " كم هو بشع الموت، وكما هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد"  لذلك كم هي شنيعة جريمة اغتيال اللحظة الممكنة.
والغياب ارادياً كان أجمل  ويتنقل من سجن إلى آخر؛ وحفرة واخرى وجنائز الشهداء عرساً وفقدان رفيق سلاح قصيدة او نشيد ، ادمن الحياة الشاقة والممتعة في آن، في سيرة متعرجة بين وعورة الجبال ونقاء القمم وبين مخابئ وديانها واحراشها، حين كان الثائر عاشقاً  للوطن  وبطل اسطوري في الحكايات السحرية.
قد يرقص بعض الجنرالات فرحاً بعد ان يتقاعدوا حتى لو  لم ينتصروا. لحظتها كم كنت أُثقل عليك بأسئلتي، وكم أحببت ان استفيد من حضورك واستدراجك لتحكي عن الفدائيين الاوائل، عن جهاد فرحات وموسى العريض عن رفيق عساف واحمد صبحة وعن ابو امل وابو كارم وابو عماد عودة وسعيد الصالح وعلى الفوز وابو الامين وابو خليل الجنداوي واحياناً عن صلاح صلاح وعن سليم ابو سالم. عن الحركة والجبهة والثورة وزمن الكرامة وصناعها. وسلالة الاوائل الذين عرفتهم.
احاول ان اخرج منك القصص التي اراك في تفاصيلها، عسكرياً على مدى كل العمر الا  قليلا لم يخفك شيء اكثر من عبور الحدود بين الحياة العسكرية والحياة المدنية ... رهبة النزول من وعر الجبل والاسلكة الشائكة والحياة الخشنة والحركة السرية والممنوعة إلى ازدحام المخيم  ليخوض معركة ناعمة في الحياة المدنية .
نقرأ شعور التحدي حين ينتابه ان الناس قد سبقوه ب ٣٥ سنة ويزيد وبكل شيء. كأن به يسأل: كم يلزمني كي ألحق بهم؟ كان الجهاد الاكبر والمهمة الاصعب التي اجتازها ليتحوّل الى قائد جماهيري عبر دوره في لجنة المتابعة المركزية للجان الشعبية الفلسطينية في لبنان .
حين واجه  تلك اللحظة بصلابة وتواضع واصرار على قبول هذه المهمة كأن الزمن لديك يا ايها العزيز لا زال مستمراً ولم يتوقف، ومضيت بين رفاقك في كل مخيم وكأنك عدت إلى منزلك  الدافئ لتحميه بحدقات المقاتل الخبير والمتوجس لكل خطر. 
إستطاع المرض ان يأخذ جسدك المتعب رهينة! كنت تدرك ان العلاج الانجع ان لا ندعه يهزمنا، ولم يكن لأي شيء أو وصف أن يعكر هدوءك وطيبتك، نتعلم من صبرك وقوتك وسر تلك السكينة في قلبك، وشغف الحياة التي ترتعش في عينيك وانت تنظر الى قائمة طويلة من اجيال غير منتهية من الأحبة والرفاق والأصدقاء. 
السلام على من عشق فلسطين وطناً وحلماً وشهوة الحرية، انت في ذاكرتنا ابتسامة صلبة وملامح سمراء فلسطينية حتى العظمة ترتدي زيّ محارب على خط الواجب لم يدر ظهره يوماً  للمعركة  
كل الحزن ان الأحلام عنيدة وعصية ولكن مهما كانت الظلمة كثيفة، عزاؤنا لك اننا سنظل على خط الضوء القادم  هو  الوعد الذي سينتصر فينا.
مروان عبد العال


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر