الخيال الواقعي ،من صفات التجربة الفلسطينية في عصرنا الحديث

"60 مليون زهرة" لمروان عبد العال .


بقلم: محمد زينو شومان* 
موقع (التجديد العربي)

دأب مروان عبد العال منذ بداية مشواره الروائي، مع مطلع هذا القرن، في استنطاق المأساة الفلسطينية واعتصار "قادتها" الى أبعد حدود العصر والتوقع والاحتمال.

وليس هذا بالعجب العجاب ولا بمستنكر، أو بمستهجن بالنسبة الى عبد العال الروائي المهجوس بالهم الفلسطيني، كموضوع إنساني فضلاً عن كونه ذاتياً ووطنياً وقومياً، والفنان التشكيلي والمناضل الذي ولد على تخوم الجرح الأكبر من مخيم نهر البارد، الذي لا أعتقد أن برودة الأنهار قاطبة كافية لتبريد ألم كاتب ملتزم وصادق لا أجد في متناول يدي أو قلمي من اللغة العربية ما يضاهي فورته البركانية ولهيبه الداخلي الذي لا ينطفئ.

اقرأ عبد العال بشغف وتوتر شديد كما لو أنني في حالة استنفار نفسي ضاغطة جداً الى حد كبير، بل مطابقة لحالة الطوارئ التي تستدعيها بعض الأحيان ظروف أمنية أو سياسية لا تساهل فيها حيال أي فوضى أو خروج على القوانين العامة.

وكيف لا وهو ابن القلم المعمّد بالألم، الذي يخاطبك من أرض النص وكأنه من أرض المعركة، لا من خارجها. وهو ابن فلسطين الوطن كبش الفداء والأمل المتدحرج على سلّم المؤامرات والقضية المقدسة التي يورّثها الآباء للأبناء جيلاً بعد جيل من دون يأس ولا استسلام.

منذ باكورته الأولى "سفر أيوب" الصادرة في العام 2002 عن دار كنعان، دمشق وعبد العال غارق حتى هامة طموحه في مشروعه الروائي، الذي تمثّل فلسطين القضية والوجود والحلم والوطن والحق والعدالة والمصير بيضية القبّان، أو حجر الرحى بالنسبة الى هذا المشروع الإبداعي المفتوح دائماً، على خلاف الخطاب الشوفيني الدوغمائي، على حب الاستكشاف والمساءلة والنقد الذاتي والموضوعي. بجرأة ملحوظة لا تخشى.. السياسي ولا الايديولوجي ولا الديني بعيداً من خطاب التقريع والتخوين والتكفير ونفي الآخر وتدنيسه وتأثيمه سعياً الى تبرئة الذات والرضا عن النفس والنوم على سرير المدح الذاتي النرجسي، الذي يفاقم الداء ويستنفد الدواء.

فماذا عن روايته السابعة الصادرة حديثاً عن دار الفارابي (60 مليون زهرة)؟

هي، في الحقيقة، رافد من روافد نهر عبد العال الروائي الأكبر، الذي يستكمل شقّه بوعي ودراية وتخطيط متقن.

إنه، بتعبير آخر، يخطو خطوةً أخرى أو خطواتٍ أوسع وأكثر إيغالاً في جغرافيا التجربة الفلسطينية وشعابها ووديانها وازقتها وأحيائها وأنفاقها وسراديبها وثغورها. وكأن عبد العال هذه المرة شاء ان يضغط أكثر على الجرح الحي ومكامن الوجع الأشد إيلاماً وإفراز للقبح والصديد تنفيساً عن المكبوت ورفعاً للصوت الفلسطيني على أقصى مداه الروائي والانساني والوجودي!

وإني لأحسب أن ثمة نفحات من أجواء أدب أميركا اللاتينية الروائي ذي الخاصية الواقعية السحرية، ستهب على القارئ من بعض جوانب الرواية ما ينبئ بظاهرة أسلوبية، تعبر بشكل من الأشكال عن تطور بارز في آليات السّرد لدى الروائي عبد العال، من خلال المزج بين عناصر التخييل والميثولوجيا والواقع المستمد من التجربة الحياتية المعيشة الى حد ذوبان الاختلاف بين الواقعي والأسطوري وتحول اللامعقول والفانتازي والعبثي واللابشري الى حدث مادي ملموس من لحم ودم. أقله بالنسبة الى البطل الفلسطيني المحكوم عليه قبلاً أو سلفاً بصنع قدرة بما ملكت يداه من الصبر والتحمل لإنهاء عصر الاغتراب والنفي والتشرد وتدي قوى الشر والطغيان والظلم. وذلك منذ لحظة الولادة والقذف به على باب الإنفاق مدفوعاً بقوة الحياة الاستثنائية أحياناً وفي أحيان اخرى بقوة الأمل وارادة اكتشاف العالم والوجود ووظائف الحواس والقلب والعقل والروح.

وتلك عملية معقدة جداً تخضع للكثير من التحولات وتتطلب في المقابل ألواناً شتى من التجارب والمخاضات المتعاقبة التي يصعب حتى تصورها على بني البشر، الا من عبروا جلجلة الألم الفلسطيني وألقوا بدلائهم في بئر فلسطين بحثاً عن قطرة الأمل التي لا يعادلها شيء من مياه البحار والسحب.

ومن هنا يمكن إدراك فحوى السؤال الذي يطلقه عبد العال على لسان أحد أبطال روايته: "هل جربت أنت طعم حياة اللجوء في الداخل والخارج؟ ما معنى أن تتذوق كل الأنواع: نازحاً، لاجئاً، عديم الجنسية، مكتوم القيد، فاقد الأوراق الثبوتية، طريداً، مهاجراً، منفياً وشريداً، فقط كل أصناف اللجوء 22 ص 29.

وهل بعد من مزيد؟

أليس هذا كله كافياً للتقيّن أن معاناة الفلسطيني معجزة بشرية تجعل من السوريالي والخيال الواقعي خاصتين من خواصّ التجربة الفلسطينية في عصرنا الحديث؟

وبعد أي عالم جينالوجي خبير بفك شيفرات الهندسة البشرية بقادر على التمييز بين سيرة الراوي/ الروائي الحياتية وبين حيوات شخصياته الروائية وخياراتها المتاحة ومصائرها وميولها ورغباتها وأحلامها وشهواتها ومحاولاتها الناجحة أو الفاشلة على السواء، في حياة شبه متعذّرة علىبقعة محاصرة من الأرض ومحرومة من الماء والزرع والضرع ومحل نزاع وجودي لا ندري كم سيقصر ولكننا ندري أنه سيطول ويطول ما دام هذا النزاع قائماً بين ظالم ومظلوم. بين مستوطن مستجلب يدّعي بطلاً وعدواناً أنه صاحب الحق وسيد المكان وبين مواطن يُسرق منه وطنه جهاراً نهاراً.

فكيف لمثل هذا الصراع أن ينتهي قريباً وهو صراع بين هويتين وارادتين صراع بين دولتين إحداهما قابلة للحياة والأخرى قائمة على الموت". ص 116.

تكتسب رواية "60 مليون زهرة" عنوانها من شهرة المكان، أي قطاع غزة، واعتماد اقتصاده الذاتي على زرع مشاتل الزهور وتصدير ملايين الأزهار الى أوروبا والعالم. ولكن المفارقة المؤلمة تتجسد بكل حدتها ومرارتها بما جاء على لسان دليلة في محاورتها مع الجندي المحتل قائلة له: "نحن نغرس الزهور وأنتم تغرسون الموت، نعلقها في عيد الحب على صدر العشاق في أوروبا التي تهدي إلينا بدلاً منها قذائف تقتلنا أنت بها. نرسل اليهم الزهر فيهدون إلينا الشوك" ص 117.

هذا المقطع المقتضب من حوار طويل يلمّح الى مضمون الرواية وعالمها الصراعي الذي يتقاسم الأدوار فيه نماذج من شخوصٍ ينتمون الى مكان وزمان مصادرين ويواجهون أصعب الظروف الحياتية وأقساها تحت رحمة سلطة المحتل الاسرائيلي الذي يستخدم أجهزته الأمنية والادارية والقضائية أبشع أنواع القمع والتهديد والانتقام والتعذيب من مطاردة للمقاتلين والمدافعين عن وجودهم وبيوتهم وأملاكهم وأرضهم، الى الإمعان في محاصرة الباقين في ديارهم والمتمسكين بقشة الحياة الأخيرة حتى الموت بتضييق الخناق عليهم وتطويقهم يوماً بعد يوم، بأساليب وحشية لا تنتهي على غرار جدار الفصل العنصري منعاً لهم من تنشق الهواء ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً.

غير انهم جميعاً، أي شخصيات الرواية، معروفون بألقابهم وليس بأسمائهم الحقيقية. فمثلاً هناك الجندي المجهول الذي يذكرني دوره في هذه الرواية، بوضعية "حنظلة" لفنان الكاريكاتير ناجي العلي.

فإذا كان حنظلة هو الشاهد على مهزلة هذا العصر متسمراً في مكانه مولّياً العالم ظهره غير مبالٍ بحركة الزمن، كذلك حال الجندي المجهول في "60 مليون زهرة" إذ يدور حوله الزمن وهو ثابت لا يتحرك في موقعه ولكنه يرى ويعي ماذا يفعل: "الواقف هنا هو أنا الجندي المجهول، ولدت في الخمسينيات، ولم يكن في فمي ملعقة ذهب، إنما بيدي بندقية "الكارل غوستاف" سأظل الجندي الشاهد على ما يجري في البيت وحوله وخلقه (ص17).

ومن الجندي المجهول الى العازف الموسيقي مجنون الأوكورديون الرومنسي الذي... الدماء وحتى المواد الحمراء كالفلفل ودبس البندورة يستغرب كيف يحتفل الناس بالذبح في صبيحة عيد الأضحى" (ص 95).

وهناك كولومبو الذي كان موظفاً صغيراً أيام الحاكم العسكري ثم صار مفتشاً يدبح التقارير بإنتظام الى سيدة الطاووس. ثم تحول الى مهرب لحبوب الفياغرا وبات جاسوساً من دون أن يعلم. وهو كان شاهداً على التحولات السياسية التي أدت ولادة الفصائل الفلسطينية. ولكن العجب أنه يرى أن مواصفات المسؤول ليس "الآدمي" بل يجب أن يكون مقطع موصل ابن حرام".

وهناك رمبو الذي كان يُعرف أيضاً بسبع الليل وكان قناصاً ماهراً رصاصته لا تخيب وقد اختفى من دون أن يعرف مصيره.

فضلاً عن الديناميكي الذي ذاق السجن وفق ساقه في إحدى الغارات الاسرائيلية ولكنه اشتهر بمقولته" ان لم نجد الطريق علينا نصنعه" (ص 111).

وهناك أيضاً العنكبوت وهو رجل غريب الأطوار لسعته حشرة غريبة فمسخ عنكبوتاً.

اللافت أخيراً في "60 مليون زهرة" أنها لم تجد حرجاً في إبراز بعض الظواهر السلبية التي عرفها العمل الفدائي في السبعينات، والتي تشير الى ما تعرضت له فصائل المقاومة من عمليات اختراق من قبل الموساد ما ادى الى القضاء على مجموعات فدائية نتيجة الخيانة والعمالة والسقوط الداخلي.

ولم... الجرّاح.. أيضاً لا يساراً ولا يميناً من دون تحفظ، أو مدارة أو تقية. كقوله على سبيل المثال: "هكذا هو اليسار يشيخ من قلة النقد" وهكذا هو اليمين يحيا من "قلة الموت". (ص 55).

على أن وصف البحر مهما كان مشوّقاً لا يغني القارئ على الاطلاق عن الغوص بنفسه الى قاع الرواية واستكشاف ما هو أبعد مما أدركته هذه العجالة السريعة.

*****

* ناقد وشاعر لبناني


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء