قصة مجزرة معلنة


هنا الذاكرة نازفة تستجدي بوقائعها سياسة الذاكرة العادلة والذاكرة المشروعة وهذا لا يمليه فقط واجب الذاكرة بل تأكيد عدالتها ، ورفض نفيها وإلغائها، في ظل هناك من يحاول اختراع ذاكرة ، تفيض الذاكرة هنا في حياة ابناء المخيمات والشتات شاهد على النكبة المستعادة ، احفاد الذين تعرضوا الى فظاعة التطهير العرقي والتدمير الممنهج لحياتهم وهجروا عنوة من بيوتهم وقراهم ومدنهم عام ١٩٤٨ ولذلك هم هنا والتصفية المقصودة وفق خطة " دالت" التي نفذتها العصابات العنصرية الصهيونية في مدن وقرى الجليل .
واجب الذاكرة المشروعة للمخيمات التي تشكل برمزيتها تراجيديا الحياة الفلسطينية بكل وجع التغريبة الطويلة للشتات بل تنبض بالإبداع البطولي لتأكيد شرعية الحق بالعودة الى الوطن والحلم بالوطن وليس بأي وطن ، بل ان يظل خزين الذاكرة والشوق والحنين الإنساني، بواكير المقاومة وحكايتها الاولى والصمود بابجدياته .. 
صبرا وشاتيلا هي مذبحة تتعمق وتتسع طالما الحق ليس بمتناول اصحابه ، قد يكون للقاتل ذاكرة تفكيكية عندما مارست تلك الشهوة المنحرفة وكأنها في الحدث وخارجة في ذات الوقت.. 
نفي الذاكرة التي يمارسها القاتل . لكن للضحية ذاكرة تقطر دماً وتعمل بمفعول الخوف او التوجس الاستباقي ومن الآتــي أعظم ،  لأن الذاكرة في سياقها الاسترجاعي ما هي إلا سلسلة من المجازر المستمرة : من دير ياسين وقبية كفر قاسم وخان يونس وتمادى السلوك عبورا للمكان والزمان الى حولا وبحر البقر ومخيم النبطية وصبرا وشاتيلا وقانا و جنين والشجاعية والخ
ذاكرة الضحية، ذاكرة جريحة لانها لا زالت تنزف لأستمرار الشتات نتيجة هذا الكيان وما اقترفه ولأن هناك من تجاهل الامر تمكن من الافلات من العقاب  وبرر كل افعاله اللاحقة.. الاعتراف بالمأساة الاولى يؤدي الى فتح الباب لعقاب وايقاف الذين تمكنوا ان يفلتوا من المحاسبة كل مرة.
ذاكرة مجزرة معلنة ومنذ نكبة العام 1948 والمأساة تتجدد في آلية جهنمية...
لكن عند الضحية الامر مختلف فلا تزال الكلمات طازجة على ألسنة الناجين ممن بقي من صبرا وشاتيلا، تقطر دماً. 
فالزمن لم يمحُ آثار الجريمة ولا يمكن ان يشطب كل شيء.
الروايات الفظيعة التي تنقل في تسلسلها أخبار الأولاد يُنحرون أو يُخوزقون، والنساء الحوامل تُشق بطونهن، والرؤوس والأطراف تُقطع بالفؤوس، الى الجثث المكدسة. صورة المجزرة في مخيلتنا يعني فأس وبلطة وجثث بلا رؤوس!
ذاكرة الضحية لها ألوان اخرى من عذابات وتفاصيل هي الجحيم بواقع المخيم وتحويله الى حي موبوء يعيش فيه المهمشون والنازحون الجدد من الارياف او الخارج، يختلط وتتلاشى ملامح المخيم وسط ازدحام الناس واكوام النفايات بين الحوانيت وبسطات باعة الخضار و الفواكه، والأقراص المدمجة والسلع والملابس الجديدة والمستعملة، وما بين السيارات والدراجات. المكان جثة مشوّهه والاحياء فيه يشبهون ضحايا المجزرة.
 
ذاكرة فردية وجماعية ومستعادة بأسماء واشياء وذكريات تستعيد بصورة اخرى مشاهد الرعب كظلال سميك للمجازر ذاتها ولقتل من نوع اخر بأسلوب معنوي ربما وكأنه يكمل ما ارتكب في أواسط أيلول/سبتمبر من العام 1982.
تتجول في متاهة رهيبة في مختلف الأزقة معتمة نهاراً حيث تتدلى الأسلاك الكهربائية في كل مكان وتسيل في الأرض مياه المجارير. تنظر في عيون من تبقى هنا كأن المجزرة بدأت للتو ، كل شيء يعيدك الى مساء يوم الخميس .. يقول لك صدى المكان قصص الناس ، ليلاً رأينا قنابل مضيئة وسمعنا إطلاق نار. الشوارع مليئة بالجثث...: الأخبار نفسها، والرعب نفسه.
مشهد الجثث المتكدسة. شخص متدلٍّ على تعليقة الجزار وقد شطر نصفين مثل الذبيحة. وُضعت في الحفرة الكبيرة طبقة أولى من الجثث وكومة اخرى تحت الرمل والشارع كان من الجثث وعند الفجر عبقت رائحة الجثث في كل مكان.
الموفد الاميركي فيليب حبيب اخذ وعداً  من رئيس الوزراء الاسرائيلي بأن جنوده لن يدخلوا المنطقة الغربية والمخيمات ،الا ان احداً لم يحترم تعهداته، ثمة شهادات ووقائع لا يمكن إنكارها، اكتفى موريس درايبر بتعليق بسيط على المجزرة : “عبثية مطلقة”.
نقول ذلك لأننا ندرك  " ان القوة الايجابية لا تأتي من الكراهية بل من الحقيقة " وهكذا يحق للضحية التي دفعت ثمن مجزرة صبرا وشاتيلا معرفة الرواية الحقيقية، فهي  حكماً لا تتناقض مع العدالة بل تخدمها ، لذلك فان جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لا يسري عليها التقادم .. كما قال جان جينيه"  لقد كان عليّ أنْ أذهب الى شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت ، فالأجساد في الحالتين عارية وليس لديها ما تخفيه " .
الذاكرة المجروحة  هي جريمة مضاعفة. الجريمة  الاولى  ارتكبت بإطلاق النار واما الثانية لا زالت ترتكب بالنكران بالنسيان و بالافلات من العقاب . لا فضيلة للذاكرة  بدون فضيلة العدالة.
مثل اليوم تم توقيع اتفاق اوسلو كتوثيق لهذا العبث واليوم  تكررت في عبثية سياسية نسمعها من نتانياهو وباقي العصابة، مثل: ان حل دولتين ليس شرطاً ان يكون داخل الحدود، وان الاحتلال لا يمكن ان يشكل نقيضاً للاستقلال ، وبلغت الى حد اعتبار شرط ازالة الاستيطان هو تطهير عرقي. اذاً لا يمكن وجود حل حقيقي دون اسقاط ذهنية التطهير العرقي وذهنية المحزرك التي تستملك عقلية عنصرية موجودة في كيان ومجسدة في نظام ، لا مجال للعدالة دون اسقاط الرواية الصهيونية التي تنفى وجود الاخر.

مروان عبد العال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء