اعترافات الى " إمرأة الرسالة" لرجاء بكرية/ حيفا


"..بعد أشهر انتهت المعارك ، عدت الى المخيم ، كان البيت "ذات رماد"  وصفته في رواية  حاسة هاربة ..وكانت قد صدرت .. لم اكن اعتقد أنَّه وسط كل هذا الخراب ، سأعثر على" امرأة الرسالة" خلف البيت، وبين بقايا قصب نبت حديثا من وسط الاعواد السوداء، كانت امرأة الرّسالة موشحة بصفحات سوداء كأنها تعرضت لاغتصاب مريع ..."  
أسجل:
أولا ً: قرأت بشغف "إمرأة الرسالة" عند صدورها من دار الاداب في بيروت ، فانتابتني رغبة بأن أكتب لها رسالة ، أرسلتها كدندنة على وتر حرف النّون كجسر عبور الى عالم  الروائية الرائعة  قيثارة حيفا  "رجاء بكرية"             
واصلي دحرجة مياهك من غمامة الهمس البارد، لأتلقفها كزفرات ثقيلة، أفترشها كزادٍ ساخن وهبها لي وجه يشبه المسيح جمالاً، وأجمله بأنّ للورد أوانه وألوانه، المشعّة بقوس قزح من جواهر بثوب الكلام، حتى امتلكت روحي أطياف الفراشات المزركشة برحيق الندى. 
شقّت كلماتي الضوء، وجاء التعبير كأنه الطلقة تسبق ضغط الزناد: "انسياب حنون كحرف النون"، هطلت حنواً من إنحناء السماء نحو ندبة الخد. 
   
يا قيثارة "حيفا"، أوتارك تفك لغزنا المقيم بالحزن، ورقمنا السرّي " ثمانية وأربعون". وندندن على أوتار حرف النون، استنهض السؤال القديم، الراقد في عقولنا الصغيرة: هل فلسطين ذكرٌ أم أنثى؟ ونستغرب لماذا هي أنثى؟
ونحن صغار كنا نريدها من جنسنا، نتشّبه بها، كي يكون الوطن مرآة لوجهنا. حتى أكلت الحيرة فينا أدمغتنا، كما العقربة تفتك بالجسد وهي تسكن في بطن جيفه. نشتكي من أنوثتها!! نريدها بطلاً أسطورياً قاسياً، لا حكاية ورد، نستعيض فيها هزيمتنا، نرفض تماهي الشعراء فيها غزلاً، كأنّها الكيمياء المتفاعلة عبر خيط فسفوري مكتمل العناصر من المهد إلى اللحد، من إغفاءة السرير حتى نهاية المنام.  
الوطن فينا شهيداً، ضريحاً، ذبيحاً، نبكيه ونرثيه ونخافه ونحبه،كأنّ الحياة نعبرها بتجسيد موتنا. تتناثر في حبنا كحبات رمل على أطراف الخنادق وشارات دم على صدر المدن، وعطر للمارة على أرصفة الشوارع.
كبرنا أيتها المجدلية، كزنبقة بين الأشواك، نعبث بالرقّة في غربتنا الحادة كشفرات العشب الجارح. وقبل أن أقرأكِ، كتبتُ عن المجدلية، التي تحيّا هناك حيث تنبت " زهرة الطين " وأنّ طين الغربة ينتظر هبوب المطر كي يغتسل.
لماذا الآن؟ بالهمس الصارخ يتعرى السؤال ويصير يطاردنا، بعينيّ أنثى يحدّق فينا أينما حللنا 
أعترف وبدم مضغوط كقطع الثلج البارد، أني بتّ أخشى الذوبان فوق حمى الرسالة الممهورة بحرف النون، كي لا يبتلعني سرداب المخيم، أو تحتوينا جدارات الظلام فيه 
أرتفع على الأسطر هنيهة. مسنوداً على صديق هاربٍ من زاروب المخيم ويتمايل كنخلة وحيدة في ريح الصحراء. أحسست أن الهمس البارد، يخترق النفس كأجهزة الأمن السرية، ويقبض على الروح ككف طفلٍ على حبة" الشوكلاة" وتنغرس الكلمات كما الأقدام على الدرجة الأولى كالصبّار الذي يرسم ملامحي على بُعد أمتار من بيتك القرميدي، حيث هناك استعدت النفس، واسترجعتني الذكرى المرويّة على شفاه أمي. عدت إلى الجامع القديم الوحيد، يقرفص بين أشجار التين. ووحدها "قرينة" الغائبين تجوب التلال الخاوية، شاهداً على حياة لم أمارسها هناك، لكن تجرعتها مع منقوشة الإفطار زعتراً وفنجان ميرميّة.
تنفجر الأسئلة كما البرقوق في إطلالة الربيع. هل همسٌ أم صهيل فرس جامحة؟ هل تخلط ألوانها بقوس قزح، أم بحنين القلب؟ هل تستخدم ريشة عصرية أم جناح نورس مكسور على رمل شواطئ حيفا؟. 
صار ابن المخيم مثل "جوبيتر" ينام على وسادة "فينوس"، يستحلم الذكرى، وينظر نحوك من بين أصابع النسر الكاسر المفرودة على الوجه المضيء. يقال، أن الوحوش تلتهم اللحم البشري، الجيف، ولكن ليس اللحم الحيّ وكل وحوش الأرض لا تقوى على افتراس الحلم البشري المتكوّن كإنسان فينا.
فقط هي دندنة، على وتر حرف النون، كي تحملني سحابة مشحونة بالرعد أو ليلاً مفخخاً بالفجر. هل تسمع النون رنين مفتاح القلب؟ يغلق الباب ويدور في أكرته الحديدية، كي لا يولد فينا حلماً مبتوراً، ونملّ الانتظار على محطات الزمن، وتصير "إيزيس" ذابلة على محيطات اللقاء، تنتظر وعد النبّوة وأنا أسترق النظر من بين شقوق جدار أو طاقة قنّاص، واستلهم وجهك في ضياء القمر. 
أعترف أنّ قلبي نحلة، تصنع قفيرها وتنسج الحلم رويداً كقطرات العسل وأنا أصرخ فيها: تريدين أن تكوني أجمل؟ فأحبي! فقط كي تُزهر الحياة ولا يذبل فينا البنفسج. 
تعالي نهرب من الظل، كي تنتعش الشمس. فنحن أبناء نظام شمسي واحد. 
تعالي نرقص كالسحالي هرباً من العتمة. ننعش روحنا بشهدٍ نحن أبدعناه من خيوط الوصل. نتنفسه "كجرعة أوكسجين". نلهث خلف الحلم الذي يسخر منا ويهرول مسرعاً أمامنا، كطائرة الورق صنعناها أطفالاً، فكبرنا وأخذتها الرّيح.                                                    
وعدي أنّ "جفرا" صار لها ملامح جديدة، واسم آخر، فقد اخترق الحرف جدار الصوت، وتجاوزت الكلمات حدود الصورة، عندما كسرت زجاجة عطرك على جسد الوطن، صار داخلنا نصنعه كما نشاء، كمعجونة الأطفال، واستثار عطرك الأنثوي برونق ورقّة حرف النون، ذروة الجمال في العشق الأبدي                                                                            .
_________________________________________نيسان _ 2007
ثانياً: كانت رواية " امرأة الرسالة" في المساء على طاولة  في باحة الدار ،في الصباح غادرت البيت تحت الرصاص ، قبل ان يحترق المخيم ويدمر ويشتعل بيتي ، فعندما كتبت رواية "حاسة هاربة " كنت  لا اعرف شيء عن بيتي ولكن كانت احداث المخيم تتوالى ، فكتبت في حاسة هاربة كي غدت كل الاشياء المفقودة جميلة ،ومنها " رواية امرأة الرسالة "                                          
أرقد هنا على أشعار وقصص وحكايا، تتدفق في داخلي وفوقي وتحتي كالنهر أيضا                                                                               كانت كل حكايا العالم ترقد هناك في بيتي على رفوف المكتبة، التي كلما    عانقتها ، لأمسح عن جوانبها الغبار ، حتى أجلس لأتصفح أوراق كتاب، والتي لم أقرأها بعد وما زالت تعاقبني لأني لم أحملها معي. كنت ألوذ هارباً من فوضى العالم ، فلماذا لم تهرب معي من الركام ؟                              
.................... على طاولة المساء في باحة الدار ، تحت شجرة المشمش ، كوب شاي فارغ يصطحب رواية "امرأة الرسالة"  لرجاء بكرية . تهمس صفحاتها الأنثوية لعناق نسائم الصباح، ولوحات فنية تحتضن الحائط.... جميعها تسأل أو تشكو غيابنا المفاجىء.. ولعلها اضطرت للصمت، وبقيت حزينة تستكمل ملحمتها الوردية.                                    
كتب عاشرتها، تنصهر معاً لتحمي نفسها من السقوط على الارض المزلزلة . هي شجرة ولوحة ورواية ، لها ابتسامتها التي تناديني كي تخضر، كابتسامة "الموناليزا" ، ترسم ذاتها في موسيقى الفوضى والخراب ، وتخرج من روح المكان ، رواية من لون وصوت وصدى.                                          
كأنها نداء السرير النرجسي، حيث تطيب ساعات الحلم الليلكي، وتأتي منامات كرف الحجل ، تحلق على مدى مساحة الليل.                          
من بين أكوام الكتب المبعثرة في المكان                                          
كل ورقة من كتاب ، يشرق أمامي مثل قمر مكبوت بالغياب وينتظر مني وعد القبلات..                                                                            
تهتز الصفحات فيه، كجسد ينتفض من تحت ينبوع بارد، في الحي ، بيوت ، ومن بين البيوت،  بيتي وفي بيتي غرفة ، ما زال عطري يجوب أرجاءها ويستلقي على وسادة السرير.                                                            
عزف الوتر النسائي يرشح على مدخل الباب ، أنفاس رفيق الصباح، ورشفة القهوة ، و " طرطشة" مغسلة الحمام ، ترن في أذني ، ووجهها المفقود ، كما  المرآة... لا مرآة في الحرب...                                                  
كانت الحكمة ..لا مرآة في الحرب لأنه ليس هناك إمرأة....( صفحة 23 ) من رواية "حاسة هاربة" الصادرة عن دار الفارابي  في  2008
_________________________________________________________________
ثالثاً:  بعد أشهر انتهت المعارك ، عدت الى المخيم ، كان البيت "ذات رماد"  وصفته في رواية حاسة هاربة ..وكانت قد صدرت .. لم اكن اعتقد انه وسط كل هذا الخراب ، سأعثر على" امرأة الرسالة " خلف البيت ، وبين بقايا قصب نبت حديثا من وسط الاعواد السوداء ، كانت موشحة بصفحات سوداء كأنها تعرضت لاغتصاب مريع ...                                                
مروان عبد العال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر