لماذا لم تعلمني مهنتك يا جدي؟

مروان عبد العال/ مجلة الطريق اللبنانية


لماذا لم تعلمني مهنتك يا جدي؟


مروان عبد العال

إني أحيطك علمًا أنني مسافر إلى مكان بعيد. لماذا أقفلت ورشة الحدادة  قبل أن أسرق منك مهنة صناعة السلاح؟! حرمتني يا جدّي من تعلمي للحدّادة الفتاكة، ومن أن أرث مهنتك النادرة، أخذت مهنة السلاح معك وتركتني مع "هوميروس" أضيع في ملاحم من ورق  وعلى ورق، بين الخيال الخرافي في مدينة  كلها من معدن، ناسها و قبابها وأبنيتها، بيوتها، شوارعها، واجهات محالها، أرصفة معدنية، والمارة بوجوه معدنية.

قبل أن أهوى معدنك، والمرايا الرقيقة تتحطم في صباح الحلم المعدني، حانات ليلية اختطفت منها السماء، أسطورة معدنية تستعد لحرب طروادة، ومن مدخل المخيم  كتب " أخيل" وصيته: "علموا أولادكم صناعة البندقية أولًا ثم الرماية ثانيًا، ومعرفة التصويب ثالثًا، ولكن قبل كل شيء تحديد الهدف".

ماذا تفعل هناك بلا سلاح ؟ وأنت تعبر إلى الشمال، تقطع الحدود سيرًا على الأقدام.
صرت أنا مطارد في كل زاوية من البيت، غريب يقع في قبضة ملك أسبرطة  يعاقر الذل بكأس معدني، وعنكبوت ينسج على فمي خيوطه المعدنية.

كيف أذود عن حياضك المقدسة، أتعرف قساوة التيه؟
 لكل تيه إغريقي "هيلانة "، وهنا تيه آخر. تنشر الصبية غسيلها على شرفة المخيم، والقاتل من بعيد يتربص بأقدامها الحافية تنقش الطريق، ويعد خطواتها وأحلامها وهي تكرج  كالموج في موسم الهروب نحو البحار .

يا جدي، لماذا لم تعلمني صناعة السلاح؟
هذا العالم من معدن، ولا يزال حلم "أيوب" معلّقًا على سور معدني،  والكون الملعون يجتمع ليل نهار ليقف في النصر الذي أراده" أخيل"، في منام كالملح  لضحايا المجزرة، ونوم أم ثكلى يصير من حجر.
بعد دهر ينتفخ  القائد المترف جذلًا  بالإنجاز العظيم، تنقر الخديعة كل طبول الأعراس وأهازيج ملحمة الإلياذة المفترضة.
لو تعلمت مهنتك محاربًا، لتركت حصان طروادة النحاسي، وعزفت على أوتار رصاصات قيثارتك، وكسرت أقفال أبواب الزمن  بمفتاحك الناري، وخلعت عن الليل  سواده المخيف.
 كلما سمعت زخة رصاص أحسبها زغرودة قادمة من بيادر القرية، وأسمع صدى المخارط تفرز الحديد بلحن  تتنفس منها حواشي الرأس، مثل مطر مشتهى، أتنفس كتراب وأتجدد كعشب في حنايا المساء، تتقطع في السأم البارد أقراط النساء الفضية.

أعدك يا جدي حين أجيد مهنتك، سأبحر قبل الأوان  وقبل أن يغرقني" هوميروس" الأعمى  مرة أخرى  بدموع طفولة ساذجة فقط، لا أريد دمى لألعب بها مع باقي الأولاد، أريد مصنعًا صغيرًا في سوق الخضارفقط ، لأتعلم فن تشغيل آلات الخراطة الحديدية، في فرن الرجولة  تسبك همم الأبطال من بين زوايا القهر المكعب الأضلاع

أنت ابن ملحمة الألياذة يا جدي، وأنا الجداروالمعدن والباب والقفل، خلف كروم التين انتصبت مستوطنة معدنية محشوة بغربان سوداء كلها تلتف حول عنقي وتعبرني الطرق الصفرية .
جدي الفلاح الذي  كان ينطلق كجواد جامح فجرًا إلى حقول الذرة، ليطفئ نار جهنم من تلك الشعوذات التي تخلط بين اللحى الغجرية وسوالف شيالوكية، ومواعظ تلعب على رقعة معادلة مميتة من النهائيات الصفرية.

كان لا بد أن تخاطر بي وتعلمني مهنتك؟
ألم تقل أن السحالي وحدها هي التي ترتبط بمخابئها حتى ساعة موتها. هكذا علمني عطرك المسكي الباقي في المكان، الذي ينام على وسادة ينخرها الليل، وعقالك العربي الأصيل الذي يتناقص في الشرايين الحياة ، يحضر الفرح أحيانًا وعزف للدبكة الشمالية أغنية بلون القمح.
لو أعطيتني سر المعدن  يا جدي!  حتىلا يزجر عنق " جفرا" المسبية بحد سكين من المعدن، يمثل بجثتها، ويعلقها على باب معدني، في سوق الملابس المستخدمة، ضحية تجري خلف قطار، تستجدى العجلات المعدنية أن تكف عن القهقهة الساخرة.

قبل أن ترحل جمعتنا في حصان طروادة ولكنه لم يبتلعنا في جوفه المعدني، وعندما خدعنا المدن لفظتنا من أحشائها الجارحة، باتت تهربنا كبضاعة بدوية فارّة من ثأر القبيلة، وتعلن اللجوء المتعدد الأصناف والأرقام ، فقد عربدت النكبات  في رحم الجغرافيا مثل الخطيئة، وقبل الأوان ولد على ثغرها جنين الكلام.

 في عالم من معدن تصير بصقة الطاغية من معدن، تذوب في نبرة الصوت، عند تخوم الحقيقة وتتوزع جنازات تحتفل بالجسد القرنفلي رصاص يتبع خطاها، ينساب وراء أنفاسها، نباح من أشداق الموت الفاغرة.
أردت أن أكتب  لك رسالة عاجلة فاكتشفت أن المحابر صارت من معدن، وحتى لا  أكتب على حجر القلب بقلم مغناطيسي، بحت لك  بأسرار العشق المعدني، فماذا لو أخذت منكر حرفتك الثمينة؟ وتركت للباقي كل العلاقات المعدنية الباقية؟ تتنافر فيها الأقطاب السالبة، تمتزج بي الاقطاب المختلفة التي لا يمحو سحرها ذاك التشابه.

فوق محراب من معدن تؤدي صلاة لا يمحوها زمن الماء، ترفع الدعاء لسماء جامحة لا يلجمها صمت. أمنيات تجري  نحو غيداء تتبرج بالجفاف وتتعطر بالطين، تعبر شواطئ الحلم البعيد قبل أن تغرق مراكبها في ازدحام الوقت مازالت هناك، تراوغ الضحكة البركانية في قاع الوجع وهي تقرع على جرس معدني.
ما أرق قبلة "هييلين" حين توجتها ملكة غاضبة، تجري خلف انفجاراتها القلبية، ترفرف كفراشة حول أقحوانة برية وتختفي  في مساء صنوبري، وعند أول الظلال تقارع أحمر الشفاه، تذوب بين نكهتين: احتراق وشهيق.

هي دمعة "جفرا" في كأس ابتسامتها البيضاء، يخربش فروضه المدرسية بالطبشور على عجل لو التقط  كيف تسترد الحياة فرحها، والفراغ يعج بالعبث كلامًا كفقاقيع الصابون يطير في الهواء، ومقهى بلا نادل، وشرفة بيت بلا جليس، وأكواب بلا الشاي الأخضر، وفناحين بلا القهوة، ومساء بلا جليس.
أخشى أن أكون سببًا لهزيمة"هيلانة" عندما تودع أسبرطة  كأنها سطر كتب بالماء في دفاتر الريح، صارت حكاية لا يقتلها معدن وهي تلتهم بأنوثتها خيوط الليل.
كان الأجدر بك أن تعلمني صناعتك.

 ما زلت تردد "ما حك جلدك الا ظفرك". يا جدي علمني أن أكتب التاريخ على كعب بندقية، لا دخل لي بكعب "أخيل". أتركه للكهنة يكتبون على الرمل وإلى الأبد.
أتذكر الأباليس الذين أطلقوا عليكم الرصاص ياجدي ؟! 
صبايا عصابات "الهاغانا " دسن بأحذيتهن العسكرية النسائية على حدائق الزنبق، وأحرقن ضمم الحبق عند النافذة ، ومارسن العهر فوق أرض البيدر، وصارت حكايا الشتاء تلوح كل مساء على مشنقة " الأوذيسة " المعدنية.

هل حدثكم أحد عن سيدة الحنّاء ؟
أعترف أن جدي هو من أخبرني قصة جفرا الأسطورية، قال لي: إنها  حسناء من القرية المجاورة، تبحث عن حبيبها عند نبع العسل الواقع  شرقي القرية، وهناك  خبأت لي أنوثتها خلف شجرة الخروب، ووضعت كروم العنب في حرجها، ثم طوت الوعد الأبدي كحلم في حقيبة القلب، وتدور في قبضتها جاروشة تطحن حبوب العدس، كي تلملم فيها مؤنة البيت من شظايا الروح ، أوراق الوردة الهائمة على حافات الطرقات .

لن تغيب طويلاً، وقد تعلمت أنها جديرة بك، والعاشقة في زنزانة معدنية تنتظر الفارس عند أول خط من كحلها العربي، وفي صدرها يرقد أرشيف الحكايات من ألف جرح وملح وحلم.
حين ترمي أنوثتها في حرج من الأشواك، ليسكنها الصدى الحميم في ثوب الفراغ عن وجه اللحظة الخاوية يتكسر حولنا المعدن، والحلم المرعب باللغة الأم، هي تعويذة للثورات التي جف حليب الحرية في صدرها ، جزعة من شمعة مثقوبة في ليل معدني يسيل منها الظلام.
جدي لم يعلمني مهنة السلاح، ربما حتى لا يكون لي قلب معدني، ولكن أنا ابن طفولة يا جدي شقت وجه الحائط المعدني، ولدت على حاجز معدني، ترضع شتات البيت من زجاجات الضياع، تلوم الزمن العتيق أن تأخر، تمارس البراءه لعبتها بصمت في شوارع الصخب، تتبعثر كالأحرف العربية فوق جسد البلاد.
كلما تقرع "هيلانة" على قلب أميرها  تشتعل الحياة بالوحشة. ما انحنت ناقتها خلف معدن السجان، تزرعني ضلعًا أخضر  للحرية وفي واحة عينيها.
قلت يا جدي: إن المعدن ليس لي ! ولكنك صاحب مهنة من كرامة وبطولة ومجد ونخوة وشرف، لا تكره هذا الصلب والبارد، تباً لحلم يصاب بالصدأ، ولعقل وحزب ونظم وممالك و ملوك من معدن.

لقد كرهت أن تعلمني مهنة السلاح. تباً لزمن من معدن، من دول فضائية  يعني" كرتونية" تخترق ليل نهار، وفيها أجهزة من معدن، تراقب كل حياتك، دول تستقل لساعة خطاب ولا تجد لها أقدامًا لتمشي مثل منام بطعم المرارة، لكابوس يوقظه الماء في مدينة من طين
أريد مهنتك  أكثر حين أرى كم هو نازي هذا الجدار!. لن يخترقه قانون بعد سوى حديدك الصلب يا جدي. فيه وميض الأمل السحري الذي يشع كل صباح .

لو علمتني مهنتك يا جدي، لحشوت الذاكرة بكل أسباب الحياة، بملاحم من حكايات تقصها خيوط الشمس، وتخبرنا العصافير أنه لا طروادة بلا شمس، يضعها كزهرة قرنفل في باقة عطر عند النافذة الخلفية.

جدّي صاحب صنعة محرّمة بحسب غرف الأنظمة المضبوطة جداً، مهنته الممنوعة فني في إصلاح وصناعة الأسلحة، تعلمها يومًا في مصنع إنكليزي، في مدينة عكا، وقضى شبابه في وعر القرية داخل خربة سرية يقوم بإصلاح أسلحة الثوار المعطوبة التي تم شراؤها بصفقات مشبوهة ثمنها حُليّ النّساء ، ومارسها مع صعود الثورة تحت ظلال المخيم، لكن وقاره الشديد آثر أن يعلّمني قصة الخديعة التي أضاعت عمراً ووطنا يسرد حكاية فضيحة السلاح العتيق المنتهية الصلاحية منذ" السفربرلك".

ماذا لو علّمتني صناعة السّلاح؟
كم أحتاج إلى إلياذة جدي الأقوى من كل معدن، ملحمة البطولة  التي تصنع الرجال، وتفتح ذراعيها بشغف للحلم، إلياذة الوطن المزروع  في أضلع الفتية الذين يسرقون لنا فتات الحرية من وراء ظهر العالم.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

رواية 60 مليون زهرة