"60 مليون زهرة" تنبت من تحت الرماد


"60 مليون زهرة" تنبت من تحت الرماد
د. رفيف رضا صيداوي*
ليس من حكاية في راوية "60 مليون زهرة" للكاتب والروائي الفلسطيني مروان عبد العال، بل لوحة تشكيلية، يجاور فيها الماضي الحاضر ويتقاطع به، كما يتقاطع الأسطوري بالواقعي، والغرائبي بالحقيقي، والأزرق بألوان الزهور والخضرة، ويتراءى الماضي كخلفية للصورة تارةً، ويتسلل الى المشهد الحاضر تارة أخرى، مضيفاً عليه زمنيّته، في ترابط شفّاف بين الفنّ التشكيلي كفنّ مكاني والرواية كفنّ زماني.
لئن كان أشخاص الملحمة أو الأسطورة، وبعكس أشخاص الراوية الحديثة، منفصلين عن زمنهم المعاصر، لكونهم بحسب باختين  "يستمدون قيمتهم وعظمتهم من الارتباط بالماضي"، بوصفى "أصل كل أهمية وقيمة حقيقيتين"، ولكونهم ينسلخون "من الزمن المعاصر بكلّ ما يحتويه من نقص ومشكلات غير محلولة ومطواعية وقدرة على تحوير التأويلات والقيم، كي يتساموا الى مستوى قيم الماضي ويجدوا فيه صفة الانتهاء والكمال"، فإن أشخاص مروان عبد العال لم يكتسوا صفات أسطورية بل تناظروا معها لكي يتكشّف من خلال هذا التوازي عمق الصلات التي تربط بين ملامح هذه الشخصيات وأكثر القضايا والوقائع موضوعية وتعقيداً.
بخلطة معقّدة كإختلاط وتشابك خيوط العنكبوت، وهو إحدى شخصيات الرواية التي لقبت بهذا الاسم، حضرتالشخصيات الأسطورية (دليلة وشمشون وغيرهما) في المشهد، وتداخلت بالشخصيات الغرائبية (مثل الجندي المجهول المتكلم)، وبالشخصيات الحقيقية التي تعيش أقصى المعاناة بسبب تبعات الاحتلال الاسرائيلي (دليلة وجبر الجيلاني أو الديناميكي)، وأخرى فانتازيّة مثل فتى الأكورديون، المولود نتيجة نطفة مهرّبة من السجن والتقى في مقبرة المعمداني "شخصاً أسود محروق الوجه، خرج من القبو، كي يعلّمه لحن الكون " (ص70) فعاش بين الواقع والخيال، أو العنكبوت ذاك الطفل الغريب الذي لا يكبر والذي كان" روحاً محتجزة في جسد، ومخلوقاً هو مزيج من غرابة الأرض وعبقرية الفضاء" (ص242). هو الذي حفر قره بنفسه ليحفظ فيه أسراره، وكتب عليه "هنا يرقد العنكبوت ثمّ اختفى فجأة وصار لغزاً" (ص242). انتصبت هذه الشخوص الأدبية الهائمة بين الحقيقي والخيالي أمام أعيننا كعلامات تفصح عن عمق معاناة وطن لا زالت قضيته قضية حياة أو موت، وطن لا تقتصر النكبات عليه، أي على فلسطين أو غزة، بل تشمل المدى العربي كله، الا أن خاصية غزة، كفضاء رئيس للرواية، هي أن الدمار فيها "لا يتركه زهر الدحنون وحيداً"، إذ كما تقول دليلة حتى الزهر في ارضنا يولد من تحت الرماد" (ص112). مدينة الستين مليون زهرة علّمت أبناءها ألا يدعوا الزهر يذبل في تراب أرضها (راجع ص129)، فظلوا أبطالاً يعزفون ويغنّون ويرقصون رغم الأم (راجع ص180).
أمام هذه اللوحة الفنية الروائية الزاخرة بمشاهد الزهور والدماء، والولادة والموت، والبطولة والخيانة، والتدمير والبناء، والبحر والصحراء، والسماء والأرض والهيولي والأشياء المتشكّلة حقاً، تسطّح الزمن وامتدّ في الفضاء الفلسطيني، وفي غزة تحديداً، كما تسطّح السرد الذي تولاه، الى جانب الراوي الأساسي، وهو تمثال الجندي المجهول، رواة عدة، تجاورت أصواتهم من دون أن تتوالد من بعضها بعضاً، وقد برز من بين هذه الأصوات كذلك صوت "العنكبوت"، القابع، كما يقبع العنكبوت، في عزلة قبره في مقبرة المعمداني"، تاركاً لكولومبو وساطة نقل الأسرار التي أخفتها أوراقه المدفونة معه. بحيث أفضى هذا التسطيح والتجاور  ولا سيما مع انتفاء الحكاية المؤلفة من مقدمة وعقدة وحلّ، الى اعادة صوغ حكاية مدينة وتاريخ متواصل من المقاومة والصمود. وقد استعار الروائي في صوغ هذه الحكاية الكبرى خصائص عائدة الى فنون عدّة، كالرسم والمسرح والشعر والملحمة والسينما والموسيقى، ناهيك بالتقنيات والوسائل الفنية المنتقاة لتعميق مضامين الرموز، مثل الأحلام والرسائل والأرشفة وغيرها. بحيث صاغت الرواية تاريخ وطن جعل الحجر ينطق. تاريخ وطن كان "ساحة تسرح فيها الغزلان، (و) صار ميداناً يسرح فيه الغزاة، ومعسكرات للتدريب وحقولاً للرماية" (ص30). إنّه "نصب تذكاري يعيد الذكريات علّها تنفع الذكرى، طارقاً نسيان كلّ زائر" (ص 223).
إنه وطن يقتل يومياً فيه الأموات والأحياء، وحتى التماثيل، ومن بينهم بطل هذه الرواية، إذ تمّ اغتيال الجندي المجهول غير مرة (ص22). ربما، لأن المستقبل  كما كتب كونديرا في "كتاب الضحك والنسيان": لا يعدو كونه فراغاً لا مبالياً، ولا يهمّ أحداً. في حين أن الماضي لا يلبث نابضاً بالحياة، ووجهه يغيظ ويدعو للثورة، وينجح ايضاً بحيث نرغب في تدميره أو اعادة طلبه .. ولئن نحن رغبنا في أن نكون أسياد المستقبل، فلأنّ ذلك يجعلنا قادرين على تغيير الماضي، ولا نزال نقاتل حتى نبلغ المختبرات حيث يسعنا أن نرمم الصور، ونعيد كتابة السير والتاريخ.
لكن هذا التاريخ كما يقدّمه الخطاب الروائي، والذي تقتضي محاولات استلاب الذاكرة ومحوها استحضاره، لم ينح بالرواية نحة أسطرة فصول المقاومة والصمود أو أسطرة الرموز، إذ ناهض الخطاب الروائي تلك الذاكرة الإلزامية او الاجبارية (Memoire oblige)، التي تقتضي  بحسب بول ريكور  الايفاء بالدين للذين سبقونا وجعلونا على ما نحن عليه، ومن بينهم ضحايا الحروب والنزاعات الذي يشكل استذكارهم أولوية وطنية وأخلاقية يعبّر عنها بلإقامة الاحتفالات التي تخلد ذكراهم، ذلك أن تحوّل هذا الاستذكار الى واجب وإلزام، يحوّل الذاكرة الى أداة، نتيجة انتقائية التذكّر: "كيف تحترمون تماثيل جامدة، لا تستطيع الرقص معكم ولا الدفاع عنكم؟ ولا حتى حماية أنفسها؟" (ص21) يصرخ "فتى الأكورديون" الذي يختلط صوته بصوت التمثال الناطق، تمثال الجندي المجهول. فالبطل الحقيقي بحسب الديناميكي المعجب بهنيبعل، وصاحب عبارة "إن لم نجد الطريق علينا أن نصنعه" (ص111)، "يكره تسميته  اي تسمية البطل الحقيقي- بالصنم أو الضريح" (ص 108)، ثم إن في موازاة هذا التاريخ الناصع، والزاخر ببطولات الفدائيين أو "أبناء العنقاء"، أو "فئران الرمال" كما نعتهم الغزاة الاسرائيليون (ص72)، ثمة خونة وجواسيس في الماضي كما في الحاضر. ومقابل دليلة السيدة الخمسينية التي منحها التمثال نفسه هذا الاسم مستعيراً إياه من الأسطورة، والتي لم تتوقف عن متابعة ظلّ خالها الفدائي المفقود المطارد في جبل النار، ثمة جليلة أختها ذات العلاقات المشبوهة بضبّاط الغزاة. ومقابل "الديناميكي" الذي عبر الصحراء "في صبيحة يوم تموزي حار من العام 1969" حيث "كان على موعد مع صلة من أبناء العنقاء" (ص88)، و"طارت ساقه في الحرب الثالثة على غزة" (ص107)، مقابل "الديناميكي" هذا إذاً، هناك كولومبو "الموظف في محطة التلغراف في قسم البريد منذ أن كان شاباً ايام الحكم العسكري، ثمّ صار مفتشاً يقوم بكتابة التقارير بإنتظام لسيدة الطاووس" (ص45) الذي أمره "بمهمة مراقبة الأموات" (ص56)، وما زال "يقوم بواجبه الوطني كما يظنّ، يقوم بتهريب حبوب الفياغرا" (ص266)، ومقابل اليوزباشي مصطفى حافظ، كامل العمصي، عبد الهادي الحايك، جيفارا (المعروف بجيفارا غزة)، رشاد مسمار وغيرهم من الفدائيين الأشراف في زمن العمل الفدائي، كان هناك الخونة والعملاء مثل بيّا وديب الهربيطي وآخرين.
ولئن استعاد مروان عبد العال لائحة طويلة من شهداء زمن الكفاح الفلسطيني المسلّح، وأعاد إحياءهم، فذلك لم يكن بدافع الأسطرة وإنما بدافع الحفر في الذاكرة، ولا سيما أن النص ليس "بالشيء المغلق على ذاته، بل هو مشروع كون جديد منفصل عن الكون الذي نعيش فيه"، ولهذا السبب تحديداً، فإنه  أي النص الروائي  لا ينقل الواقع الفعلي مباشرة. كما ان مرجعيته هي على نوعين، "مرجعية أولى يشير بها النص السردي الى واقعه المباشر، ومرجعية ثانوية هي بنية الزمانية التي يتولّى فيها الاجابة عن معضلة معيشة ينقلها المخيال الاجتماعي". ما يعني أن النص عبارة عن "وساطة بين الانسان والعالم، وبين الانسان والانسان، وبين الإنسان ونفسه".
فالحفر في الذاكرة جاء انطلاقاً من حاضر انقلب جذرياً، إنه الحاضر الذي جعل المؤلف يقيم من "مقبرة المعمداني" في غزّة إطاراً مكانياً أساسياً لروايته. إنه حاضر يشير الى واقع موحش ودامٍ عبّرت عند دليلة قائلة: "منذ خمس عشرة سنة انقلب الوضع جذرياً" كل شيء انقلع من داخلي، أحسست هذا بعد الجدار، كان مثل السكين في صدري الناس تغيرت .." (ص135). واقع بلاد أنهكها الحصار، وعصف بها الجوع، وضرب فيها الفساد، وضاعت قيمها، وقويت فيها الفردانية فانفرط عقد الجماعة، بلد بات مشايخة يحذّرون من سماع الموسيقى "لأنها رجس من عادات الغرب المنحطّ.. (ص232). الحفر في الذاكرة جاء كمقاومة للنسيان: "القيم في هذه الديار في خطر، لا يمكن تغليفها أو تجميدها خوفاً عليها أن تفسد، وتخليدها يكون بحفظها وإعادة سبكها كما هي الحال مع الحلي الثمينة، تظلّ نقيضاً للنسيان كشيء مرغوب فيه، والا لماذا نقاوم النسيان ونحن نسأل أنفسنا بتردد: ما فائدة أن نتذكّر؟" (ص188).
المضيّ إذاً في الحفر في الذاكرة واستنطاقها في إطار توصيفي لما جرى ولما لا يزال يجري للفلسطينيين وللغزاويين بشكل خاص، جعل خطاب الرواية خطاباً موجعاً، يذكّرنا بوجع "رُقيّة" بطلة رواية الطنطورية لرضوى عاشور، وذلك حين وعدت ابنها حسناً بمواصلة كتابة شهادتها عن فلسطين الآن، قائلة: "سأحاول يا حسن ولكن ماذا لو متّ؟ ستقتلني الكتابة". فأجابها ابنها حسن: "لن تقتلك. أنت أقوى ما تتصوّرين. الذاكرة لا تقتل. تؤلم ألماً لا يطاق، ربما. ولكننا إذ نطيقه نتحوّل من دوامات تسحبنا من قاع الغرق الى بحر نسبح فيه. نقطع المسافات. نحكمه ونملي إرادتنا عليه" (ص235).
باحثة في علم الاجتماع ومختصة بالنقد الروائي. ألقيت في ندوة خاصة حول الرواية أقامها النادي الثقافي العربي. نشرت في مجلة الطريق اللبنانية

3

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قلم أخضر

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء