رواية (إيفان الفلسطيني) بعيون تلميذة تونسيّة(1)
" ان تكون روايتي ايفان الفلسطيني مادة دراسية في معهد المرسى في العاصمة التونسية الحبيبة، لم يكن حدثاً عادياً بالنسبة لي ، وحين بدأت طلائع المقالات النقدية بالوصول أحسست ان بطل الرواية ازداد حضوراً ومعنى حين اعادة صياغته اقلام تلامذة تونس ، كل الامتنان للجندي المعلوم والمعلم العربي النموذجي الذي يبرهن ان الثقافة لا تعرف الحدود ولا تهزمها الجيوش ، هذا المذهل بإلتزامه ومهنته وخبرته وعنيت به العزيز الصديق المنذر المرزوقي" ..
م. ع
من المعاناة الجماعية إلى المصير المأساوي
بقلم: هادية زيتوني*
إيفان الفلسطيني قضية بل مأساة فى روايةٍ للأديب العربيّ الفلسطينيّ مروان عبد العال. رواية تنقل معاناة الفلسطنيين، بل كلّ المقهورين الباحثين عن مكانة بعد فقدانهم لموطنهم. إذ ترصد الرواية معاناة اللاجئ الفلسطينيّ والمصاعب التي يُواجهها في حياته اليومية لأنه حامل لجنسيّة لم يخترها. ليتحول من "مواطن" إلى لاجئ يعاني فى المخيم ويحرم من طفولته. هذا بعض ما تجسّده الرواية التي تعالج من منطلق عام مسألة التهجير. إذ أنهم أرغمُوا على استبدال وطنهم بموطنهم - مُخيّمهم الجديد الخالي من كلّ صفات الوطن. ولكن عليهم التأقلم مع محيطهم الجديد إذ يقول البطل "صحيح أنيّ ولدت فى منفى ولكني شيدته وطنا من خربشات طفولية على حيطان المدرسة" إن عليهم تحمّل المسؤولية منذ الصغر، فإذا بهم يتحوّلون إلى كهول رغم صغر سنهم. وهذا ما أكّده إيفان فى حواره مع شبحه عرب "لقد كبرنا قبل موعدنا، أنا وأنت.. ولدنا نتسابق أعمارنا ونكبر قبل الآوان" فمأساة التهجير والإبعاد عن الوطن مأساة شملت الفلسطنيين شعبًا وأفرادًا. فكأنّ الرواية قسمت إلى جزئين: جزء اهتم بالمعاناة الجماعيّة ويظهر ذلك من خلال استرجاع أم البطل لتلك المعاناة من خلال توظيف صيغ الجمع "هاجرنا / تركنا كل شيء وراءنا.." فالهجرة شملت كلّ الفئات "كبار السن/النساء، والأطفال. فإعلان مشروع التقسيم في "29/11/1947" لفلسطين من مُستعمرة لدى بريطانيّة إلى أرض مغتصبة جرّاء النكبة التي أثرت على الشعب، مُخلدة ذكريات مليئة بالألم و الحزن. إنّها الأوضاع التي وصلوا إليها جرّاء تسليم بريطانيا فلسطين للصهاينة "قدمّت لليهود وعد بلفور وانسحبت من فلسطين لتسلمها لليهود بجميع المعدات العسكرية من دبابات و طائرات" .
إلا أنّ الفلسطنيين لم يستسلموا أمام المحتل الغاصب بل "بدأ العرب بالاستعداد لمقاومة هذا التقسيم المجحف" . في المقابل أنشأ اليهود عصابات ومنظمة تسمى "لهاجاناه" و"الأرغون" ولكن لسوء حظ الفلسطنيين أنهم لا يمتلكون معدات كافية، بل كانت"المسدّسات الشخصية والبواريد لا تتجاوز عدد الأصابع." لقد تعاظمت مأساتهم بعد محاولاتهم العديدة لشراء السلاح والتي باءت بالفشل لتكون النتيجة: "هاجرنا و تركنا كل شيء وراءنا." ليصبح الشعب الفلسطينيّ محروما من وطنه حاملا معه ذكريات ستبقى خالدة في ذاكرته وذاكرة الأجيال المقبلة. وقد عبّرت الأمّ عن عمق المعاناة التي حلّت بالأهالي من خلال استرجاعها لهذه الآلام "لقد تساوى الجميع بالمصيبة نحن وأهالي قريتنا، فالجميع عَانى نفس المعاناة" .
وقد خصّ الكاتب"عبد العال" جانبًا من الرواية ليصوّر معاناة الشعب وأبناء المخيّم، لينتقل، من خلالها إلى المعاناة الفرديّة التي سببها الحرمان من الوطن. فما هي آثار هذا الحرمان فى شخصية عرب/إيفان؟
عالجت الرواية إذا مسألة التهجير مبرزة آثارها على البطل. فهذا البطل الفلسطينيّ الذي تشكلت شخصيته نتيجة حرمانه من الوطن، لم تقتصر معاناته على البعد الوطني فقط، بل كان الفقدان سببا فى تحطيمه. فما يُمّيز إيفان البطل عن بقية المُهجّرين أنه في كلّ مرّة، وفى كل تجربة من حياته يفقد بُعدًا من أبعاده الإنسانية. وهذا ما أكّده من من خلال استخدام أسلوب الاسترجاع. فالبطل استرجع حياته من الطفولة وصولا إلى شبابه، من المخيم إلى ألمانيا. من ذلك حادثة تأخير تاريخ ميلاده التي أثرت فى نفسيته واعتبرها جريمة في حق ذاته. لأن هذا التأخير كان مقابله مجرّد الحصول على "بوط أو جزمة".
لقد كانت النكبة عاملا رئيسّيا في تلاشي هويّة البطل، وهذا ما أكده قوله "احتلت النكبة حياتي وعمري وصرتُ ألهث وراء الحياة كأنها ستفر من بين يدي. وعلى مقلب الأخر بدأت مسيرة أخرى." إنّ هذه الحادثة، ورغم مرور سنوات عليها، كأنما قد وقعت البارحة، لبقائها خالدة في ذهن البطل. فحديثه مع الشبح عرب أعاده إلى فترة الطفولة، لينتقل فيما بعد إلى قساوة والده التي أعتبرها سببا غير مُباشر فى فقدانه بُعدًا من حياته. فهذا الأب كان متسلطًا ويتخذ القرار بدلا عن ابنه، ليصبح عرب تائها فى الحياة مُقيدا بالعادات والتقاليد. فكل ما يرغب فيه البطل يعتبره أبوه "لا يليق بسمعته الحسنة كرجل تقيّ يخاف اللّه." إلاّ أنّ الأب لم يكن على علم بأن تسلطه سيخلق فى ابنه نوعا من التمرّد والثورة على واقعه وعلى عاداته و تقاليده. إذْ أنه يقوم بما هو مخالف لأوامر أبيه "إني أمارسها كردّة فعل ومعاكسة للحياة التي يتمنى أبي أن يعيشها." و بالتالي "بكل بساطة بدأ تمردي على واقعي و ثورتي الخاصة لبلوغ ما أريد". فالحياة التي يتمناها عرب حياة مليئة بالرفض، كالتدخين و الكحول. فى المقابل كان والده إنسانا محافظا ملتزما. وهنا ستبدأ مغامرة عرب وثورته على نفسه بذهابه إلى بيروت.
اشتغل عرب فى بيىروت فى مجال الصّحافة ومن هناك بدأت حياته في التحّول ودخل في طور جديد وأصبحت هويته السابقة تتلاشى ويكتسب بالتالي ملامح بديلة وجديدة مليئة بالمجون والتمرد والتحرر. وتحوّل إلى شخص مختلف عما كان عليه في المخيم. فرغم توصيات صديقه "صخر" بتوخي الحذر وأن يحافظ على أخلاقه مؤكدا أن "المدن تفسد أخلاق الثوار" ليؤكد عرب أنه "أنا فاسد خلقة". فحياته الجديدة مغايرة تماما لحياة والده "كم يختلف نهاري الجديد عن نهار والده الذي تركته خلفي"
ومن هنا تكّونت القطيعة بين عرب وأسرته. فالأسرة ترمز إلى السجن في حياته الجديدة المليئة بالسعادة. لكنها سعادة جزئيّة برغم ما تحتويه من تمّرد على الأخلاق التقليدية. لذلك انتقل عرب من بيروت إلى صوفيا مُعتبرا أن بيروت ليست المكان المناسب لتحقيق أحلامه لأنها تظل بلدًا عربيا مقيدا بالعادات و التقاليد. لكن هذا لا ينفي أن بيروت كانت نقطة تحوّل في حياة البطل. إذْ انفجرت فيها مكبوتاته التي كانت مختبئة وراء ما يسمى بالعادات.
وهااهو إيفان يتذكر ذلك فى حديثه مع عرب. فرغم أن إيفان فرّ من الماضي إلاّ أن عربًا مازال يلاحقه، يذكره بطفولته المفقودة ووطنه المغتصب، ليكمل مسيرة حياته المنسية. لقد استرجع سفرته إلى صوفيا حين "نال منحة التصوير الفوتوغرافي" لكنها كما قال عرب "لم أكن أعرف أني قد بدأت الصعود إلى هاوية سحيقة."
ففى صوفيا فهم البطل أن حياته كانت ناقصة لذلك سيسعى إلى نيل السعادة. فهو لا يعتبر نفسه قد وصل إلى السعادة الحقيقية؛ لينتقل إلى بروكسال. فكلّ مكان يمضي إليه البطل يضفي إليه ملامح جديدة ويمحو بعض ملامحه القديمة. فى بروكسال تعّرف البطل على ثلّة من العرب تركت الماضي فى سبيل تحقيق السعادة أو النجاة من أزماتها، لكنها سعادة مغايرة لسعادته. "هذا ما لم أكن أتوقّعه، وليس كالذي تخيلته فى فردوس الغرب، أو كما كنت أتصورها فى كوابيسي بأنها أرض الأحلام." ففى اعتقاده أنه سيتخلص من أجواء البلدان الشرقية. لكن بروكسال أصبحت نسخة للأجواء العربية، لكن بطابع غربيّ "تخيل كيف فرّ اللاجئ الفلسطيني من لبنان إلى شارع لبناني، لاجئا أيضًا فى قلب أوروبا"
فما بناه البطل عن حياة الغرب كان مغايرًا لما هو في الحقيقة. فرغم محاولته لنسيان الماضي أو بالأحرى تناسيه، إلا أنّ حضور شخصية عرب ترغمه على التذكر. فهو لا يستطيع انتزاعه من نفسه وذاته. ولكن الظروف هي التي قتلت عرب وخلقت إيفان فيه، خاصة عند محو بصمات يده من خلال الحرق. فهذه العملية لم تحرق البصمات فحسب، بل أحرقت هوية شخص بدأت بالتلاشى، لا لشئ إلا أن هذا" الإحتراق سيكون أهون ألف مرة من احتراق الرجوع إلى أرض مشتعلة" . وقد اعتبر أن حرق البصمات "وجع مؤقت لنيل حياة أجمل". غير أن هذه العملية قد أعادته إلى ليلة الختان. وهذا يدل على أن البطل مازال مقيدا بعادته و تقاليده، إذْ استرجع أجواء الحفل بحضور الأهل و الحلوى. كل ذلك في سبيل عدم العودة إلى وطن محروق، فهو يفضل أن يكون لاجئا في بلد غريب على أن يكون غريبا فى وطنه "تحرر من الألم لكن بألم أيضا".
إلاّ أن معاناة البطل لم تقف عند الحرمان من الوطن، وتأخير تاريخ ميلاده، وحرق بصمات اليد، بل انتهى به المطاف إلى تغير اسمه. ومن هنا كانت نهاية عرب وبداية إيفان الألمانيّ. ولكن.. هل انتهى أمر عرب ؟ لقد قتل البطل ماضيه من خلال الأوراق إلاّ أنه فشل في قتل ضميره المتمثل فى عرب. فهذه الشخصية عادت بعد أن انتزع البطل كلّ ما له علاقة بالماضي معتبرا أن"عرب يذلني." وربما هذا ما يفسر عملية الانتحار. كما يمكن أن نعتبر أن إيفان هو من قتل عرب، لأنه رغم ما قدمه من تضحيات وتنازلات في سبيل حياة آمنة عاد إليه عرب حاملا معه الحزن والآلام ومآسى الماضي. لذلك نرى إيفان يعلن عن ذلك بقوله "لو حضر ظلي مرة ثانية سأقتله". لقد نفخ مروان عبد العال في الطين الفلسطيني فاستوى بطلاً على قدمين، ليضعنا أمام مأساة بشرية من العيار النفسي والاجتماعي والوجودي والتاريخي الثقيل. فهل تؤكّد بقية روايته نفس المأساة أم أنه يسعى إلى التحرر منها سعي عرب/ ايفان إلى ذلك؟
* تلميذة بكالوريا أدبي/ معهد مرسى الرياض/ تونس العاصمة
تعليقات
إرسال تعليق