حكاية الرواية الأولى


أصالة المكان وروح الزمان وسرّ المعنى



حدث في قاعة للمناسبات الاجتماعية داخل المخيم، في حفل يشبه ميلاد الابن الأول، قبل عقد ونصف، عام 2002م أطلقت روايتي الأولى “سفر أيوب ” وسط حشد من الأصدقاء، شرعت في قراءة نفسي من على كرسي الاعتراف فكان البوح الأول: “اسمحوا لي أن اقرأ لكم نفسي، فأنا هنا كي أعترف، لا توجد مشقة أكبر وأعسر من تلمّس المحاولة الأولى والبداية الأولى والحكاية الأولى”.
كنت أقرأ هذه السطور بصوت خافت ومرتجف، يهتز ويضطرب ويتدفّق ثم يتصاعد ويتموج بلغة سردية تتداخل وتخفق فيه نبضات ممزوجة من الرهبة والفرحة.
عندما قلت “أعترف أنّ الكلام ليس لي، والحضور ليس لي، فالراوي الأول هو أصالة المكان وروح الزمان وسرّ المعنى”. يخلق الفلسطيني وتخلق روايته معه. أنجبني والدي مع الحكاية وملكة الكلام، أمي تروي قصص القرية بذاكرة حيّة ويقظة باستمرار عن فرس جدي البيضاء وقوة خالي غانم الأسطورية وطقوس شجرة السدرة، وموت شقيقتها عطشاً يوم النكبة، وأبي الذي يقتني مكتبة، يشتري الكتب القديمة من سوق الأحد ويقوم بتجليدها وتجديدها وتخطيط عناوينها من جديد، أكثرها روايات تاريخية، فضلاً عن موهبة الرسم التي يتقنها، وجدي أيوب صاحب صنعة محرّمة وممنوعة هي إصلاح وصناعة الأسلحة، تعلمها يوماً في مدينة عكا، وقضى شبابه في وعر القرية داخل خربة سرية يقوم بإصلاح أسلحة الثوار المعطوبة التي تم شراؤها بصفقات مشبوهة ثمنها حُلي النّساء، ومارسها مع صعود الثورة تحت ظلال المخيم.




اعترفت أنّ الذي بين دفّتي الكتاب هي أوراق من سفر حكايات يومية انسابت ببساطة على نفسي، سقطت على مسامعي، تواترت في ذهني مثل هبوب الأحلام. وأنّها أسرتني كحالة وربما تخطت نفسي. وعندما قلت “إنّي أكمل لكم الحكاية والرواية مستمرة “. لم أكن أدري أن هناك رواية ثانية. واليوم لم أصدّق أنّني أنجزت الرواية الثامنة ليتأكّد لي أنّ “سفر أيّوب” لم ينتهِ بعد.
الحكاية تعيش هنا والذكريات ذهب أصحابها ولم تزل هنا..! سفرنا يتواصل مع ابن المخيم، هذا الواقع المستحيل الذي يشبه الأسطورة. مع ابن اليوتوبيا وحلم الوطن البعيد الذي يأخذ شكل الأسطورة، ينتشر مع الشتات الذي يحمل حنيناً جسدياً وروحياً لا يهدأ، لذلك استمرت الرواية وتفرعت وتشابكت خيوطها ونسجت أسئلتها وألغازها وهاجرت لتصل الى ذات الرمز الغارق بالخيال والمستغرق في الأسطورة .
ما زالت “سفر أيوب” البداية التي بشرت بالنبأ العظيم الذي انتظرناه ومازلنا، ما زال يتعانق الحزن والقمر والوجد والأمل.هكذا كان ناسها، شخوصها وفصولها التي تتناسخ وتتماثل وتتزاوج وتختزل في ميثولوجيا واقعية. فلا الحياة فيها عادية ولا الموت كذلك، وكيف يصير الموت احتفالاً عظيماً كما أصحابه يصل حد الخرافة.
قبل عقد ونصف وفي مناسبة ولادة الرواية الأولى وصفت الموت الاستثنائيّ الذي يدفعني لتحدي الحياة حين قلت: “نحن لا نموت برصاصة، ما عدنا نختار موتنا كما حياتنا وإن قدّر لنا الاختيار نقصف بصاروخ أو عبوة طوعية، نحن، وأنا من شعب يمارس رقصة الموت في مشهدِ استشهادي بالكامل، فلا عيب أن تكون نثرياتنا مخيمات تُسحل بالكامل وأحياءً سكنية تسوّى بالأرض”.
علّمتني تجربة السرد أن أقاتل بالكتابة لأستعيد السّير والصّور ولترميم الذاكرة المهشمة والهوية المتعبة، وان أكتُب! ولا يمكن للمرء تجنّب الكتابة لمجرّد أنّ هناك معتوهين يسيئون التأويل. كما قال “أمبرتو إيكو”. لأنّ إهداء العمل الأوّل كان إلى الحالم الذي لا زال يسير على الرغم من كلّ شيء. فإنّ كلّ مشروعي الروائي لشعبي ولكم أنتم لأنكم بشارة العالم الى الحرّيــــــــّـــــــة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مروان عبد العال
* روائي فلسطيني مقيم في لبنان
صدر له: رواية “سفر أيوب” دار كنعان في دمشق، 2002، ونشر سبع روايات أخرى من خلال دار الفارابي في بيروت وهي: “زهرة الطين”، 2006؛ “حاسة هاربة” ، 2008؛ “جفرا … لغاية في نفسها”، 2010؛ ثم “إيفان الفلسطيني” و “شيرديل الثاني”، 2013 ورواية “60 مليون زهرة”، 2016 … وأخيرا “الزعتر الأخير” 2017.
الرواية نت – خاصّ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر