مروان عبد العال: العمارة الروائيّة تبدأ من الأسئلة الشخصيّة عن الحكاية الفلسطينيّة
حاوره : أوس يعقوب/ مجلة رمان
في روايته «الزعتر الأخير»، الصادرة عن "دار الفارابي" البيروتية في 2017، يلملم الروائيّ الفلسطينيّ مروان عبد العال (مواليد 1957)، تفاصيل ذاكرته التي يخشى عليها – خشية أيّ فلسطينيّ - من الاغتيال والمحو والسحق. هو المؤمن بفلسطين المعنى والحقيقة والحق، وأنّ "الهزيمة الحقيقة تقاس بمدى خسارة الإنسان لذاكرته"، وأنّ "الإنسان يكون ضائعاً وتائهاً وعارياً عندما يكون بدون ذاكرة". مشدداً على أنّ "ذاكرتنا هي مفتاح عودتنا".
في روايته الثامنة «الزعتر الأخير»، يتتبع ضيفنا مصائر الزعتر، تلك النبتة الطاهرة برائحتها الحادة ونكهتها اللاسعة، التي تنبت فوق القمم العالية في جبال الجليل، وبين شقوق الصخر، عبر رحلة مبتدؤها سفوح وادي الحنداج في فلسطين المحتلة، وليس منتهاها بمخيّم "تل الزعتر" في لبنان. رحلة رصد السارد تفاصيلها بمنأى عن صخب وأوجاع المنفى وضجيج الغربة وأحزانها، لا بسرد تسجيلي كلاسيكي، إنما استناداً إلى وقائع خلدتها الذاكرة الجماعيّة لشعب اقتلعه المحتل من أرضه، أرض الزعتر.
"رمان" حاورت صاحب «سفر أيوب»، الحائز على (جائزة القدس للثقافة والإبداع) للعام 2016، والذي يرى النقاد أنّه "أسس رواياته على ظروف المنفى، المخيّم، معاناة الشتات وعذابات اللجوء، والحنين إلى الوطن“، فكان هذا الحوار حول روايته الأخيرة، وغوصاً في تفاصيل سيرته ومسيرته الأدبيّة الإبداعيّة الطويلة مع الكلمة المقاتلة..
«الزعتر الأخير» ما الذي أعطاك فكرة كتابة هذه الرواية؟ وماذا أردت أن تقول للقارئ؟ وما هو مدلول هذه التسمية عندك؟
عندما يعود الإنسان الفلسطينيّ إلى نقطة ما في الذاكرة ويتوغل فيها كثيراً، ويَضيع في تفاصيلها ينسى الحاضر أو التفكير بالمستقبل، كشيء يشبه المرض. تسرد الرواية شخصية إنسان يحتوي داخله الفائض من الذاكرة في مواجه الفائض من النسيان، المخنوق داخلها حتى تنفجر وتفيض بالحكايات، وربما يتحوّل من خلال الاستذكار إلى أن يكون بطلها هو الإنسان الحر فقط فيها.
تجاوَز «الزعتر الأخير» الراوي عندما منح القارئ تأشيرة دخول إلى عالمه وأغرقه في ذاكرته المُفرطة، فأصبح له الحق الحصري والأخير في الرواية! وقد يقنع القارئ أنّ الإنسان هو البطل الحقيقي لروايته وحياته، لذلك يفيض بكل ما لديه من ذكريات منذ ولادته في الوادي واقتلاعه من جذوره، إلى تحدي قساوة اللجوء، وبكل ما فيه من خيال وواقع وليكون اللاجئ الإيجابي الذي لديه ما يحتاجه العالم.
فيستقر أخيراً في المخيّم كمأوى للذاكرة، يختزن حياة ومسيرة اللجوء بأشنع صورها مثل اغتيال مخيّم "تل الزعتر"، لذلك يستحيل عَزله عن ذاكرته السوداء، ظلّ مشحوناً فيها إلى حد الانفجار، أراد القول إنّ الموت الحقيقي يكون بموت الذاكرة. التي يرمز لها بالزعتر الأخير بل بالرمق الأخير..
«الزعتر الأخير» حكايةٌ للمعنى العميق للإنسان الفلسطينيّ، وتَتَبُّعٌ لمسيرة لجوء الزعتر من مَنْبتهِ على سفوح وادي الحنداج في فلسطين المحتلة حتى مخيّم "تل الزعتر". هل يمكننا القول إن الذاكرة هي البطل في هذا النصّ؟
ربما تكون الذاكرة أكثر من بطل، إنّها أحياناً شبح أو ملاك، علاج أو مرض، إنّها تتدخل في حياة البطل وترسم له أحياناً طريقاً آخر، قد تحجزه في مكانه وقد تكون أيضاً المكان الذي يحرّره، لكنها في الرواية كانت هي المكان والانسان والوطن معاً، والشفاء منها، هي حالة وجودية كبرى، فالبطل هو اللاجئ الإيجابي الذي يسعى إلى الخروج من الذكريات البكائية المستدامة إلى الذاكرة الإيجابية، البطل في صراع داخلي بين إعاقة ذكورية أصيب فيها أثناء الدفاع عن المخيّم، هذا من جهة وإفراط في الاستذكار الذي أحدثته صدمة الفاجعة وهذا من جهة ثانية.
كان استحضار الذكريات لحماية الهوية ولمقاومة النسيان، وهي على صلة بهذين النمطين.. نمط الخيال الذي يحلّق مع ماعز أليف عايشه في الوطن، ونمط الصورة عن ماعز الغربة الأسود المتوحش والمعقوف القرنين كرمز للفاشية. لُغز الرواية في العلاقة بين الزعتر الأول بوصفه ضحية أولى، كما الزعتر الثاني ضحية ثانية، لقد سحقهُ الماعز الخرافي المفترس دون رحمة، والرواية هي إدانة لكل فعل فاشي نقيض للإنسانيّة، لأن سبب اللجوء واستمرار معاناة الغربة هو نتيجة لتفشي الجنون والظلم في العالم.
«الزعتر الأخير» ضحية فاشية هي عبارة عن القرف المركب من واقع نكبة مستدامة، لذلك تكتب المأساة ليس بهدف إثارة الشفقة، إنّما لنتقيأ هذا الوسخ الفاشي، حتى لا نهضمَه أو يجترّه أصحابه، والأسوأ هي عودة "نوستالوجيا الفاشية" في الخطاب السياسي. هكذا تنتصر الفاشية من جديد، عندما يصير القتل شيء مليء بالمتعة والتباهي، الزعتر جعلنا نتذكره ليكون مدعاة للعار وليس للفخر، وبوصفه جريمة وليس عملاً بطولياً، لندرك رمزية الزعتر كجريمة بأدلة وقرائن وشهود، والقتلة ليسوا إلا حفنة من الفاشيست، وجودهم ليس سوى نقيض لثقافة الحياة.
هناك قرّاء أصابهم الحزن الشديد إلى حد القرف أثناء قراءة الرواية، وذلك تضامناً مع الزعتر، حتى السكرتيرية التي ساعدتني في طباعة بعض فصولها كانت تضع علبة محارم ورقية جانبها لمسح دموعها، لم تكن تتصور فظاعة ما جرى، ولا أخفي أنّ هذا أسعدني جداً، لسبب أنّهم عاشوا مع البطل بدون تصنّع، وقد تمكّنت من أخذهم إلى تواريخ تمّ مسحها، لقد نجحت في توريطهم وإدخالهم إلى قلب ذاكرة متوترة، لقد رفضوا تخيّل الواقع أو التفكير بطرق أخرى مجهولة للموت، حيث بَدَت لحظات حياة لا تطاق. أعتذر لمن دفعته إلى الماضي المقيت لا أقصد بذلك للإقامة فيه بل لمغادرته، إنّها دعوة لتنقية الذاكرة من أوساخها، لغسيل الروح من شياطينها، ثمّ هي إدانة لما اقترفت البشرية من عبث حيواني خرافي. نكتب كأننا نبحث عن حياة لا نريدها ونحس بواقع نرفضه، الحياة المنبوذة التي لا نرغب بأن نحياها ثانيةً! ثمّة أفعال قبيحة ومشينة، لا تستحق إلا أن تكون الفعل الأخير.
بذاكرة تمتلك نزعة المقاومة، حملت سؤال الهوية راصداً بسرديّة متواصلة وخصبة، تفاصيل سيرة جماعيّة بدأت فصولها من «سفر أيوب» روايتك الأولى، مروراً بـ«زهرة الطين»، «حاسة هاربة»، «جفرا (لغاية في نفسها)»، «إيفان الفلسطينيّ»، «شيرديل الثاني»، «60 مليون زهرة»، وصولاً إلى «الزعتر الأخير». سؤالي: كيف بنيت عمارتك الروائيّة في مواجهة السرديّة الصهيونيّة؟
العمارة الروائيّة تبدأ من الأسئلة الشخصيّة عن السيرة الجماعيّة وعن الحكاية الفلسطينيّة، فبدأت "بسفر أيوب" حيث فكّرت أن أروي قصة اللجوء بطريقة فنيّة تشبه السرد الشعري، ثمّ تكثّفت الحكايات في «زهرة الطين»، وأصبح هناك أسئلة وجوديّة عن الماهيّة الإنسانيّة، كأسئلة المنفى الجديد وإشكالية الهوية كما في «إيفان الفلسطينيّ»، وعن اغتيال المخيّم عبر الأرواح السوداء والشريرة كما في «حاسة هاربة» أو مكان الحلم والعشق كرواية «جفرا» أو التضحية حتى بالحياة العاطفية كما في «شيرديل الثاني» وثمّ كما حدث في «60 مليون زهرة»، قصص البطولة التي يرويها نصب الجندي المجهول حيث تتوِّج ذلك بالإيمان بالأمل والآن «الزعتر الأخير».
البنيّة الروائيّة بالنسبة لي هي مِدماك في مشروع ثقافي يستجمع ليس لذاكرة الشتات بل لشتات الذاكرة، شتات الذاكرة، كمعادل لرواية فلسطين الحية والحقيقية، ما يتنافى ومعظم المقولات والحلول المطروقة، التي تروِّج لها الرواية الصهيونيّة وتدفع لترويجها في العديد من الآراء والرؤى العامة، الرواية الفلسطينيّة هي أمانة للجيل الفلسطينيّ الجديد، يجوز أن تكون سلاحاً أمضى من التاريخ المكتوب نفسه. التاريخ ليس حيادياً، غالباً ما يُكتب في ميزان النصر والهزيمة.
لذلك الرواية الفلسطينيّة هي أصدق من كل السرد المزيف لذاكرة صهيونيّة مُخترعة ومُستجدة ولا علاقة لها بالمكان البتة، ذاكرة مسبقة الصنع، تستند إلى أكذوبة بخلفية أيديولوجية قائمة على ممارسة الإقصاء والنفي والإحلال.
تقول: "كتابتي لا تتوخّى كتابة أو توثيق التاريخ بقدر ما هي محاولة لرؤية التاريخ مِن زاوية أُخرى". فكيف ترى العلاقة بين الأدب والذاكرة في فلسطين؟ وبالتالي هل تعتقد بأن الأدب قادر على تعويض التاريخ؟ وكيف تراه كشهادة حيّة عن اللحظة التاريخية؟
أنا لا أوثّق التاريخ فعلاً، لكنني أقول بشفافية ما أرى على طريقتي، وظيفة الرواية أن لا تستنسخ أو توثق أو تُسجّل التاريخ، قد تستند إليه ولا تستحضره، لكن بشروط وعي التاريخ ونقد التاريخ. ما حدث وما يحدث هو جزء من تراكمات مكدسة في أرشيف الحياة الإنسانيّة الفلسطينيّة، وجزء من شخصيته الوطنية، كيانه الروحي الذي يحتاج إلى سرد عميق وروائي ليتوغل فيه. إنّه ليس التاريخ فقط، بل تقاطع أشياء كثيرة محاذية للتاريخ ولها بُعدها الزماني والمكاني والإنساني من الشخصيات والفن والحوار والذات والآخَر والبطل السلبي والايجابي، وما يصدر عن هذا اللقاء من قرارات تؤثر في مجرى الأحداث.
الأدب يعكس المعنى العميق والمركّب للإنسان الفلسطينيّ، والقيمة التاريخية تَكمُن في قدرته على إنتاج الغاية النبيلة، وهي التعويض عن خسارة الضياع واستعادة معنى فلسطين داخلنا.
إلى أي حدّ أثّر "اقتلاع" عائلتك من أرض الآباء والأجداد على حياتك المطبوعة باللجوء؟
إنّ اقتلاع عائلتي هو ما أثر كثيراً في داخلي كروائي، لقد رحل أجدادي ولكن حكاياتهم المروية ظلت على قيد الحياة، ظلّ صداها يتردّد في نفسي، جدّي إسمه الحقيقي "أيوب"، بكل ما يرمز من نبوة وتحمّل وصبر، منذ طفولتي ظلّت شخصية أسطورية في نفسي، فهو شخص لصيق بالثوار الأوائل في البلاد، وهو محارب قديم، في ريعان شبابه كان ذاك الثائِر المبدع في صيانة وإصلاح أعطال بنادق الثوّار التي كانت تجمع أو تُشتَرى حتى أو كانت غير صالحة من العواصم العربيّة، كلّها تجمّعت في ذاكرتي وحزمة من الأسئلة الكبيرة، التي ظلّت تكبر معي وشكّلت حياتي، وَوَرِثت معه الحكايات والمنفى وتفاصيل اللجوء، وتعبيراته القاسية الذي صار دافعاً كبيراً، لأن للأسئلة أن تتواصل وتتفرّع في أنفسنا: لماذا نحن غرباء؟ ولماذا الذين في المخيّم غير الذين خارجه؟ هكذا صار اللجوء هو سؤال الهوية! وبدأت ذهنية الاقتلاع داخلنا تعبر عن ذاتها، ونَمَت عقلية المنفى "الغيتو" الذي نحلم أن يكون مؤقتاً على وعد العودة إلى الوطن الأم، وعندما يكون هناك لجوء في منفى جديد نصير نحلم بالرجوع إلى المخيّم الأول بوصفه "المنفى الأم".
وعند كل نكبة نعيد إنتاج السؤال من نحن؟ الذي هو سؤال مهم جداً في كل الروايات التي كتبتها، وحتى الآن ما زال هذا السؤال قائماً ولا نستطيع تجاوزها. إن سؤال المخيّم هو سؤال فكري وإنساني كما هو سياسي وثقافي، قبل أن يصبح اختزال معرفي لهويتنا ولتكويننا الاجتماعي، فهو سؤال أدبيّ بالدرجة الأولى، فقد أثّر على حياتي بأنّها رُبما جعلني كاتباً.
ما بين الحياة في مكان والجذور في مكان آخر، وتحت وطأة الحنين والشعور بالغربة، ماذا تعني لك لحظة الكتابة؟ ولمن تكتب؟
الكتابة تعني لي أن أكون صادقاً وشفافاً مع نفسي ومع الآخرين. أن تعكس ذاتك الحقيقية دون مساومة، دائماً يترافق الشعور بالغربة مع إحساس بالقصور وبالنظرة السلبية، وأحياناً ثقافة الكراهية، تعيش كآخر أي كغريب بكل وقائع الاغتراب، هذا تحدي إبداعيّ لأنّك تنتمي لذاكرة وطنية منقولة وذاكرة نكبة نعيشها، فيطغى بمثل هذه الحالة الحضور للمُتخيّل أكثر، وهذا شعور صادق وطبيعي، وتأتي الكتابة لتجعلك تنتمي لما تشعر به من حنين وفي مكان آخر الكتابة حالة تمرّد أخلاقي على البشاعة..
هل تتّسع دائرة الحرية في لبنان بقدر يسمح لك بطرق مواضيع حسّاسة واختراق التابوهات؟ ومِن ثمّ كيف تتعامل مع رقيبك الداخلي أثناء الكتابة؟ وهل يسبب عنصر قلق لك أثناء الكتابة؟
وُلدت في مناخ الحرية في لبنان، ولكن في دائرة المخيّم الفلسطينيّ المقفلة، في عُمر المراهقة بدأت مع الحرب الأهلية اللبنانية، عِشت سنواتها العجاف متأثراً بالفضاء المتاح في إثبات الذات ومعاكسة القهر والشعور بالاضطهاد، وسط ثُنائيات متناقضة ومتصارعة حيناً ومتعايشة أحياناً أخرى. لبنان مسقط الرأس الذي أعطاني كثيراً من تنوعه وتعدديته وحريته وجماله وفنه وناسه، ولكن حرمني من حقوق بديهية وفق المواصفات والمعايير الإنسانيّة لللاجئ، تحت فزاعة التوطين وغيرها، رغم ان المخيّم مأوى مؤقت ولن يكون يوماً أي وطن على الأرض يساوي الوطن الأصل الذي يظل مسقط الحلم. لكن هناك تُخوم بين تناقضات المشهد اللبناني عامة وبين الظلم والانصاف، والمنع والحرية، والكبت والإبداع، وبين التمييز والمتاح، بين الإغلاق والانفتاح، هذه تصدُّعات البنية الطائفية، التي تتسع وتتفاعل فيها ضمن واقع متنوع ويتسع للاختلاف. في الكتابة لا يشكّل رقيبي الداخلي سلطاناً علي، سواء كان من دولة أو حزب أو دار نشر.
أكتب دون التفكير بالتابوهات، لأن وظيفة الكتابة أقرب للدواء حتى لو كان مُرّاً، فغايته علاج الداء وليس إثارة المريض، نحن في بيئة استثنائية ولا قيمة دون تشخيص وعلاج، أنا أدافع عن المُثل الأعلى الجمالي، ولا أبحث عن الشهرة عن طريق القتال ضد المُثل العليا، المهم أن أكون حقيقياً ليس مخترعاً أو خادعاً، وفي هذه الحالة الكفيلة بأن يسيطر فيها الكاتب على النص، ومن المستحيل أن أكتب رواية بدون حرية، لأنه لا إكراه في الرواية.
في سياق متصل بالذاكرة كثرت في الآونة الأخيرة كتب السيرة الذاتية لمثقفين فلسطينيّين، أي دلالات يحملها ذلك الاتجاه برأيك؟ وهل تفكر في كتابة سيرتك الذاتيّة؟
تأتي السيرة الذاتية في سياق التأريخ لأحداث مهمة، هناك خوف لفقدانها أو نسيانها ولا سيما أن الأرشيف الفلسطينيّ يتم فقدانه شيئا فشيئا، لذلك تأتي السيّر في سياق الاعتراف والكتابة عن أحداث هامّة، بالنسبة لي لا أريد كتابة السيرة الذاتية، بل أنحاز بقوة للذاكرة الجماعيّة أكثر من الذاكرة الفرديّة، انتهى زمن البطولة الفرديّة، أحياناً أشعر أنّ السِير الذاتية هي تبرئة للذات من ماضي مهزوم، قلّة من كتب سيرة ذاتية كمراجعة نقدية ذاتية، وهذا يحتاج لمستوى من الغيرية لا تتسع لها السيرة الذاتية. كما أنني أعترف بكل شيء في رواياتي، لأن الشخصيات التي كتبت عنها اكتسبت شيئاً منّي، وقد حمّلتها الكثير ممّا أريد قوله.
بأي الطُرُق ساعدتكَ السياسة، أو أعاقتكَ، ككاتب للأدب؟
لم تكن السياسة عائقاً في طريقي، لأنها ليست حِرفة أو وظيفة عمل بالنسبة لي، عندما تكون السياسة كمهنة، تضع حاجزاً بين الواقع والحلم، وتتسع المسافة وتكثر القوالب الجامدة ويزداد الإحباط والتحنيط واللغة المجَنّحَة. لذلك يزداد التنافس السلبي الفئوي على حساب الطاقة الإيجابية وتُصبح أبعد من القدرة حتى على حل مشاكل الناس، وهذا ما يفسر العزوف عن السياسة وهجراً لها عموماً. هذا الشكل الأناني للسياسة هو معيق لكل إضافة نوعية، حيث يصبح الشكل أهم من المحتوى والتراتبية، أهم من التربوية السياسية، تتحوّل إلى "ما قبل السياسة"، عندما تتسطّح ويغيب العمق الفكري والقيمية والثقافي والتربوي والأخلاقي. حاجتنا للسياسة ليس كشطارة ومنصب وسلطة، إنّما السياسة التي تصيغ الرؤية وتحفظ المعنى وتفتح نافذة للحلم، بآليات ومصداقية عملية.
لهذا النوع من السياسة أنتمي وعنها أدافع، فقد ساعدتني دائما في فهم كينونة الإنسان الفلسطينيّ وعلاقته بكل شيء، بذاته ومكانه ومشاكله اليومية، السياسة كانت دائماً جزءاً من فلسطينيّتي ومن ثقافتي، هي إنتماء وطني وليست رغبة تنظيمية، لذلك لم أجعلها في الرواية إلا خلفيةً في المشهد. حرَّرتنا الثقافة من لعنة الغباء السياسي التي تخدم هدفاً ذاتياً، نقيضها هي سياسة إنتماء وطني وإلتزام نضالي هدفها تحقيق فضيلة الحق والعدالة والحقيقة والمصلحة العامة.
ألا ترى أنّ الجمالية النضالية المقاومة في الكتابة الفلسطينيّة الإبداعيّة، قد استنفدت وأدّت دورها في فترة تاريخية معيّنة، وأنّ المقاربات بدأت تختلف وتتنوّع؟
الكتابة الفلسطينيّة الحالية، تتوغّل أكثر في الذاتية والوجودية والابتعاد عن أسئلة القضية التي كانت سائدة فيما قبل، هناك مواضيع كفاحية جديدة، خاضها الأدب سابقاً ولا يزال يمتلك إرادة الإبداع أو الأمل الجيّد من أجل قضية عادلة وشائكة ومركبة، وازدادت تعقيداً، بعيداً عن سطوة الخطاب السياسي وأحياناً "الشعاروية" على الثقافة الفلسطينيّة، لكن هناك ديناميات إجتماعية وتحوّلات مُؤثرة في الواقعين العربيّ والفلسطينيّ، بل تبدّل الوضع جذرياً، من المرحلة الأولى القائمة على تثبيت الهوية السياسية للشعب الفلسطينيّ ومنع تحوُّله إلى تجمّعات لاجئين، إلى مرحلة جديدة والتي تتعلّق بما يُمكن تسميته بـ ”الإبادة السياسية“، أي فصل المجتمع عن كيانه السياسي وتحويل الخصوصيات إلى كيانات منفصلة عن الأرض الواحدة، أي الانتقال من وطن مسلوب إلى أراض ٍمتنازع عليها ثمّ إلى تدمير "الوطنية الفلسطينيّة". يجب أن نعترف أن عقولنا تعرّضت لتخريب ممنهج، ممّا إسهم في إحداث شرخ إجتماعي وتفتيت للنسيج الوطني في محاولة لتحويلنا إلى هويات وأطياف وحيثيات طائفية أو إثنية أو جَهَويّة أو تنظيمية، هذا التشتيت مدعوم بإرادة دولية تدفع بهذه العملية نحو تحويل الأوطان ألى أسواق والمواطن إلى مستهلك.
هذه حقيقة نعيشها نعم ولكن لا يجب ان نستسلم لها، لدينا طاقات وقُدرات لو تمّ تفعيلها وإدارتها فهي قادرة على إنتاج وضع تاريخي جديد، وهذا حكماً يحتاج إلى تقنية جمالية جديدة، وهذا ما أعتبره إلى حد ما تقصير في مواكبة القضية في أدق مراحلها. لكن برأيي أنّ كتابة السيرة الجماعيّة مستمرة لم تنته بعد، وما زال هناك الكثير من الزوايا التي لم يسلَّط الضوء عليها، خصوصاً أنّ اللجوء وأسئلته ما زالت، والمنفى الآن مليء بالقضايا الوجودية والسرديات التي لا زال الأدب يفتقر إلى كيفية التعامل معها وطرحها من جديد بطريقة أخرى.
يُلاحَظ أنّ الرواية اليوم تحتل المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ. فهل هذا ناجم عن إنجازات حقيقية اجترحتها هذه الرواية أم هي مجرّد موجة عابرة؟
الرواية اليوم تحتل المشهد الثقافي نظراً إلى قبولها وقراءتها من قبل القرّاء أو لأنّها الوسيلة الأكثر تملكاً للتعبير عن أدق التفاصيل الإنسانيّة، خاصةً في مركبات هذا الواقع الاجتماعي القسري وخصوصياته الموضوعية وتداخلات المشهد السياسي، فلا بدّ من استراتيجية إبداعيّة بأفق ابتكاري يدخل في متاهات الشخصيات المُلتبسة كحالات إشكالية ناتجة عن تبدّل سُلّم القيم وتَعثُّر الحالة الوطنية والتداعيات الإنسانيّة لحالة الفشل في عملية الصراع. يجب أن نعترف أنّ الإنجاز الفلسطينيّ الروائيّ يظل محكوماً بِبُعدين:
أولاً: البعد الاجتماعي، أي اتساع دائرة الإهتمام بما يصدر، وأنا أركّز على القراءة والتي هي بحالة تراجع.
ثانياً: البعد الإبداعيّ، سيّما غزارة ونوعية وجودة المنتج الروائيّ الفلسطينيّ، وتحقيق مراتب وجوائز على هذا الصعيد. ولكن على أساس الحفاظ على منسوب المعادلة الناجحة، وهي تشجيع الكتابة الجيدة مع رفع نسبة القراءة.

هل فعلاً أنت من جيل أدبيّ بلا نقاد، إذ ليس هناك دراسات نقدية على كتابات جيلك، وإنّما هناك عروض صحافية للنصوص الأدبيّة، عروض تَخلو من النقد بالمعني الحقيقي؟ ومن منظورك كيف يستطيع النقد "ترشيد" المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ، وبالتالي توسعة الإشارة إلى آفاق جديدة؟
يفتقر المشهد الفلسطينيّ إلى نُقاد حقيقيين، باستثناء بعض الأسماء الذين ما زالوا يتعاملون مع النقد بِرشد. نحن بحاجة إلى نقد حقيقي، يوجّه الأدب نحو آفاق جديدة على مستويين:
المستوى العامودي: إلى ناحية التقييم الجمالي للبناء والسرد والصور الجديدة واللغة والتجريد والفن والرمز يرصد التجديد ويكتشف بنية الإخفاق، كذلك وتفكيك "الكود" الروائيّ ومفهوم البطل الجديد والمنفي أو اللاجئ المكرر الذي انتقل من حالة إلى أخرى وتماهى فلسفياً بين السلبي والايجابي، وبين البطل الفردي ولكن ليس الهوائي والجماعي ولكن ليس الشعبوي وحتى البطل الذي أصبح ذاتاً بذاته، هذه المسافة النقدية لا زالت غائبة.
والمستوى الأُفقـي: من أجل توسيع دائرة الفعل الأدبيّ في مواجهة وتعدّد المنافي وتعدّد الحركة السرديّة حسب مستويات الغربة، تصبح فيها الأعمال الروائيّة مُلتبسة بوقائعها ومعزولة بواقعها، وكأننا إمّا لقطات أدبيّة هنا وهناك، وظيفة النقد الأدبيّ هو فك الحصار عن الرواية وهدم الجدارات عبر مقاربات للتعدّد الحركي للأدب، ووضع متتاليات تُخرِجه من المنفى الداخلي والاغتراب الذاتي، هو إسهام في تعميق وعي الشتات، لأن المنفى صورة مشوَّهة للمجتمع، في تجاوز ظاهرة الاغتراب والتوزُّع والانتشار إلى المنفى الأقصوي.
ماذا عني لك حصولك على جائزة القدس للثقافة والإبداع للعام 2016؟ ومن ثمّ هل يمكننا القول، إن الجوائز تلعب دورًا مهمّاً في المسار الأدبيّ للمبدع؟
الجوائز لا تفعل شيئاً سوى إنّها تشجع المبدع وتقدره وتشكره، لقد شعرت بمحبة القراء وكان لي شرف الفوز بهذه الجائزة. أولا: القدس وبما تعني فهي إرْث الرباط والثبات والتمسك بالثوابت الأساسية، وأنّ القدس هي قلب فلسطين النابض والعاصمة الروحية والوطنية والسياسية لفلسطين التاريخية والحرة المستقلة. ثانياً: هي حافز لدعم معنوي لثقافة المقاومة لكل محاولات طمس الهوية، وتثبيت الوجود الفلسطينيّ عربياً وعالمياً. ثالثا: دلالتها كتجسيد روحي لوحدة الشعب الفلسطينيّ في الوطن والمنافي. فاللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربيّة، شرفني إختيارها منحي الجائزة وأشعرني فعلاً أن "الفلسطينيّ للفلسطينيّ بيت ووطن" على حد قول وزير الثقافة الصديق د. إيهاب بسيسو، إنّها بالنسبة لي مسؤولية كبيرة اتجاه القدس واستمرار في مسار الإبداع عامةً والنضال والكتابة خاصةً.
سؤال أخير عن انشغالاتك الآن، وما الذي تهجس به على صعيد الكتابة في قادم الأيام؟
أنشغل الآن بقراءات جديدة وبنَدْوات حوار عن رواية «الزعتر الأخير» وأنشطة ثقافية مرتبطة بها، حق الرواية يظل قائماً حتى تكتمل دائرتها الثقافية، وتصل إلى سن الفطام وهي بين العام ونصف إلى العامين من تاريخ الإصدار، تجبرني على البقاء في حالة استنفار، لتلَقي ردود الفعل والتفاعل مع آراء ونقد وأسئلة القرّاء فيها وعنها.
في روايته «الزعتر الأخير»، الصادرة عن "دار الفارابي" البيروتية في 2017، يلملم الروائيّ الفلسطينيّ مروان عبد العال (مواليد 1957)، تفاصيل ذاكرته التي يخشى عليها – خشية أيّ فلسطينيّ - من الاغتيال والمحو والسحق. هو المؤمن بفلسطين المعنى والحقيقة والحق، وأنّ "الهزيمة الحقيقة تقاس بمدى خسارة الإنسان لذاكرته"، وأنّ "الإنسان يكون ضائعاً وتائهاً وعارياً عندما يكون بدون ذاكرة". مشدداً على أنّ "ذاكرتنا هي مفتاح عودتنا".
في روايته الثامنة «الزعتر الأخير»، يتتبع ضيفنا مصائر الزعتر، تلك النبتة الطاهرة برائحتها الحادة ونكهتها اللاسعة، التي تنبت فوق القمم العالية في جبال الجليل، وبين شقوق الصخر، عبر رحلة مبتدؤها سفوح وادي الحنداج في فلسطين المحتلة، وليس منتهاها بمخيّم "تل الزعتر" في لبنان. رحلة رصد السارد تفاصيلها بمنأى عن صخب وأوجاع المنفى وضجيج الغربة وأحزانها، لا بسرد تسجيلي كلاسيكي، إنما استناداً إلى وقائع خلدتها الذاكرة الجماعيّة لشعب اقتلعه المحتل من أرضه، أرض الزعتر.
"رمان" حاورت صاحب «سفر أيوب»، الحائز على (جائزة القدس للثقافة والإبداع) للعام 2016، والذي يرى النقاد أنّه "أسس رواياته على ظروف المنفى، المخيّم، معاناة الشتات وعذابات اللجوء، والحنين إلى الوطن“، فكان هذا الحوار حول روايته الأخيرة، وغوصاً في تفاصيل سيرته ومسيرته الأدبيّة الإبداعيّة الطويلة مع الكلمة المقاتلة..
«الزعتر الأخير» ما الذي أعطاك فكرة كتابة هذه الرواية؟ وماذا أردت أن تقول للقارئ؟ وما هو مدلول هذه التسمية عندك؟
عندما يعود الإنسان الفلسطينيّ إلى نقطة ما في الذاكرة ويتوغل فيها كثيراً، ويَضيع في تفاصيلها ينسى الحاضر أو التفكير بالمستقبل، كشيء يشبه المرض. تسرد الرواية شخصية إنسان يحتوي داخله الفائض من الذاكرة في مواجه الفائض من النسيان، المخنوق داخلها حتى تنفجر وتفيض بالحكايات، وربما يتحوّل من خلال الاستذكار إلى أن يكون بطلها هو الإنسان الحر فقط فيها.
تجاوَز «الزعتر الأخير» الراوي عندما منح القارئ تأشيرة دخول إلى عالمه وأغرقه في ذاكرته المُفرطة، فأصبح له الحق الحصري والأخير في الرواية! وقد يقنع القارئ أنّ الإنسان هو البطل الحقيقي لروايته وحياته، لذلك يفيض بكل ما لديه من ذكريات منذ ولادته في الوادي واقتلاعه من جذوره، إلى تحدي قساوة اللجوء، وبكل ما فيه من خيال وواقع وليكون اللاجئ الإيجابي الذي لديه ما يحتاجه العالم.
فيستقر أخيراً في المخيّم كمأوى للذاكرة، يختزن حياة ومسيرة اللجوء بأشنع صورها مثل اغتيال مخيّم "تل الزعتر"، لذلك يستحيل عَزله عن ذاكرته السوداء، ظلّ مشحوناً فيها إلى حد الانفجار، أراد القول إنّ الموت الحقيقي يكون بموت الذاكرة. التي يرمز لها بالزعتر الأخير بل بالرمق الأخير..
«الزعتر الأخير» حكايةٌ للمعنى العميق للإنسان الفلسطينيّ، وتَتَبُّعٌ لمسيرة لجوء الزعتر من مَنْبتهِ على سفوح وادي الحنداج في فلسطين المحتلة حتى مخيّم "تل الزعتر". هل يمكننا القول إن الذاكرة هي البطل في هذا النصّ؟
ربما تكون الذاكرة أكثر من بطل، إنّها أحياناً شبح أو ملاك، علاج أو مرض، إنّها تتدخل في حياة البطل وترسم له أحياناً طريقاً آخر، قد تحجزه في مكانه وقد تكون أيضاً المكان الذي يحرّره، لكنها في الرواية كانت هي المكان والانسان والوطن معاً، والشفاء منها، هي حالة وجودية كبرى، فالبطل هو اللاجئ الإيجابي الذي يسعى إلى الخروج من الذكريات البكائية المستدامة إلى الذاكرة الإيجابية، البطل في صراع داخلي بين إعاقة ذكورية أصيب فيها أثناء الدفاع عن المخيّم، هذا من جهة وإفراط في الاستذكار الذي أحدثته صدمة الفاجعة وهذا من جهة ثانية.
كان استحضار الذكريات لحماية الهوية ولمقاومة النسيان، وهي على صلة بهذين النمطين.. نمط الخيال الذي يحلّق مع ماعز أليف عايشه في الوطن، ونمط الصورة عن ماعز الغربة الأسود المتوحش والمعقوف القرنين كرمز للفاشية. لُغز الرواية في العلاقة بين الزعتر الأول بوصفه ضحية أولى، كما الزعتر الثاني ضحية ثانية، لقد سحقهُ الماعز الخرافي المفترس دون رحمة، والرواية هي إدانة لكل فعل فاشي نقيض للإنسانيّة، لأن سبب اللجوء واستمرار معاناة الغربة هو نتيجة لتفشي الجنون والظلم في العالم.
«الزعتر الأخير» ضحية فاشية هي عبارة عن القرف المركب من واقع نكبة مستدامة، لذلك تكتب المأساة ليس بهدف إثارة الشفقة، إنّما لنتقيأ هذا الوسخ الفاشي، حتى لا نهضمَه أو يجترّه أصحابه، والأسوأ هي عودة "نوستالوجيا الفاشية" في الخطاب السياسي. هكذا تنتصر الفاشية من جديد، عندما يصير القتل شيء مليء بالمتعة والتباهي، الزعتر جعلنا نتذكره ليكون مدعاة للعار وليس للفخر، وبوصفه جريمة وليس عملاً بطولياً، لندرك رمزية الزعتر كجريمة بأدلة وقرائن وشهود، والقتلة ليسوا إلا حفنة من الفاشيست، وجودهم ليس سوى نقيض لثقافة الحياة.
هناك قرّاء أصابهم الحزن الشديد إلى حد القرف أثناء قراءة الرواية، وذلك تضامناً مع الزعتر، حتى السكرتيرية التي ساعدتني في طباعة بعض فصولها كانت تضع علبة محارم ورقية جانبها لمسح دموعها، لم تكن تتصور فظاعة ما جرى، ولا أخفي أنّ هذا أسعدني جداً، لسبب أنّهم عاشوا مع البطل بدون تصنّع، وقد تمكّنت من أخذهم إلى تواريخ تمّ مسحها، لقد نجحت في توريطهم وإدخالهم إلى قلب ذاكرة متوترة، لقد رفضوا تخيّل الواقع أو التفكير بطرق أخرى مجهولة للموت، حيث بَدَت لحظات حياة لا تطاق. أعتذر لمن دفعته إلى الماضي المقيت لا أقصد بذلك للإقامة فيه بل لمغادرته، إنّها دعوة لتنقية الذاكرة من أوساخها، لغسيل الروح من شياطينها، ثمّ هي إدانة لما اقترفت البشرية من عبث حيواني خرافي. نكتب كأننا نبحث عن حياة لا نريدها ونحس بواقع نرفضه، الحياة المنبوذة التي لا نرغب بأن نحياها ثانيةً! ثمّة أفعال قبيحة ومشينة، لا تستحق إلا أن تكون الفعل الأخير.
بذاكرة تمتلك نزعة المقاومة، حملت سؤال الهوية راصداً بسرديّة متواصلة وخصبة، تفاصيل سيرة جماعيّة بدأت فصولها من «سفر أيوب» روايتك الأولى، مروراً بـ«زهرة الطين»، «حاسة هاربة»، «جفرا (لغاية في نفسها)»، «إيفان الفلسطينيّ»، «شيرديل الثاني»، «60 مليون زهرة»، وصولاً إلى «الزعتر الأخير». سؤالي: كيف بنيت عمارتك الروائيّة في مواجهة السرديّة الصهيونيّة؟
العمارة الروائيّة تبدأ من الأسئلة الشخصيّة عن السيرة الجماعيّة وعن الحكاية الفلسطينيّة، فبدأت "بسفر أيوب" حيث فكّرت أن أروي قصة اللجوء بطريقة فنيّة تشبه السرد الشعري، ثمّ تكثّفت الحكايات في «زهرة الطين»، وأصبح هناك أسئلة وجوديّة عن الماهيّة الإنسانيّة، كأسئلة المنفى الجديد وإشكالية الهوية كما في «إيفان الفلسطينيّ»، وعن اغتيال المخيّم عبر الأرواح السوداء والشريرة كما في «حاسة هاربة» أو مكان الحلم والعشق كرواية «جفرا» أو التضحية حتى بالحياة العاطفية كما في «شيرديل الثاني» وثمّ كما حدث في «60 مليون زهرة»، قصص البطولة التي يرويها نصب الجندي المجهول حيث تتوِّج ذلك بالإيمان بالأمل والآن «الزعتر الأخير».
البنيّة الروائيّة بالنسبة لي هي مِدماك في مشروع ثقافي يستجمع ليس لذاكرة الشتات بل لشتات الذاكرة، شتات الذاكرة، كمعادل لرواية فلسطين الحية والحقيقية، ما يتنافى ومعظم المقولات والحلول المطروقة، التي تروِّج لها الرواية الصهيونيّة وتدفع لترويجها في العديد من الآراء والرؤى العامة، الرواية الفلسطينيّة هي أمانة للجيل الفلسطينيّ الجديد، يجوز أن تكون سلاحاً أمضى من التاريخ المكتوب نفسه. التاريخ ليس حيادياً، غالباً ما يُكتب في ميزان النصر والهزيمة.
لذلك الرواية الفلسطينيّة هي أصدق من كل السرد المزيف لذاكرة صهيونيّة مُخترعة ومُستجدة ولا علاقة لها بالمكان البتة، ذاكرة مسبقة الصنع، تستند إلى أكذوبة بخلفية أيديولوجية قائمة على ممارسة الإقصاء والنفي والإحلال.
تقول: "كتابتي لا تتوخّى كتابة أو توثيق التاريخ بقدر ما هي محاولة لرؤية التاريخ مِن زاوية أُخرى". فكيف ترى العلاقة بين الأدب والذاكرة في فلسطين؟ وبالتالي هل تعتقد بأن الأدب قادر على تعويض التاريخ؟ وكيف تراه كشهادة حيّة عن اللحظة التاريخية؟
أنا لا أوثّق التاريخ فعلاً، لكنني أقول بشفافية ما أرى على طريقتي، وظيفة الرواية أن لا تستنسخ أو توثق أو تُسجّل التاريخ، قد تستند إليه ولا تستحضره، لكن بشروط وعي التاريخ ونقد التاريخ. ما حدث وما يحدث هو جزء من تراكمات مكدسة في أرشيف الحياة الإنسانيّة الفلسطينيّة، وجزء من شخصيته الوطنية، كيانه الروحي الذي يحتاج إلى سرد عميق وروائي ليتوغل فيه. إنّه ليس التاريخ فقط، بل تقاطع أشياء كثيرة محاذية للتاريخ ولها بُعدها الزماني والمكاني والإنساني من الشخصيات والفن والحوار والذات والآخَر والبطل السلبي والايجابي، وما يصدر عن هذا اللقاء من قرارات تؤثر في مجرى الأحداث.
الأدب يعكس المعنى العميق والمركّب للإنسان الفلسطينيّ، والقيمة التاريخية تَكمُن في قدرته على إنتاج الغاية النبيلة، وهي التعويض عن خسارة الضياع واستعادة معنى فلسطين داخلنا.
إلى أي حدّ أثّر "اقتلاع" عائلتك من أرض الآباء والأجداد على حياتك المطبوعة باللجوء؟
إنّ اقتلاع عائلتي هو ما أثر كثيراً في داخلي كروائي، لقد رحل أجدادي ولكن حكاياتهم المروية ظلت على قيد الحياة، ظلّ صداها يتردّد في نفسي، جدّي إسمه الحقيقي "أيوب"، بكل ما يرمز من نبوة وتحمّل وصبر، منذ طفولتي ظلّت شخصية أسطورية في نفسي، فهو شخص لصيق بالثوار الأوائل في البلاد، وهو محارب قديم، في ريعان شبابه كان ذاك الثائِر المبدع في صيانة وإصلاح أعطال بنادق الثوّار التي كانت تجمع أو تُشتَرى حتى أو كانت غير صالحة من العواصم العربيّة، كلّها تجمّعت في ذاكرتي وحزمة من الأسئلة الكبيرة، التي ظلّت تكبر معي وشكّلت حياتي، وَوَرِثت معه الحكايات والمنفى وتفاصيل اللجوء، وتعبيراته القاسية الذي صار دافعاً كبيراً، لأن للأسئلة أن تتواصل وتتفرّع في أنفسنا: لماذا نحن غرباء؟ ولماذا الذين في المخيّم غير الذين خارجه؟ هكذا صار اللجوء هو سؤال الهوية! وبدأت ذهنية الاقتلاع داخلنا تعبر عن ذاتها، ونَمَت عقلية المنفى "الغيتو" الذي نحلم أن يكون مؤقتاً على وعد العودة إلى الوطن الأم، وعندما يكون هناك لجوء في منفى جديد نصير نحلم بالرجوع إلى المخيّم الأول بوصفه "المنفى الأم".
وعند كل نكبة نعيد إنتاج السؤال من نحن؟ الذي هو سؤال مهم جداً في كل الروايات التي كتبتها، وحتى الآن ما زال هذا السؤال قائماً ولا نستطيع تجاوزها. إن سؤال المخيّم هو سؤال فكري وإنساني كما هو سياسي وثقافي، قبل أن يصبح اختزال معرفي لهويتنا ولتكويننا الاجتماعي، فهو سؤال أدبيّ بالدرجة الأولى، فقد أثّر على حياتي بأنّها رُبما جعلني كاتباً.
ما بين الحياة في مكان والجذور في مكان آخر، وتحت وطأة الحنين والشعور بالغربة، ماذا تعني لك لحظة الكتابة؟ ولمن تكتب؟
الكتابة تعني لي أن أكون صادقاً وشفافاً مع نفسي ومع الآخرين. أن تعكس ذاتك الحقيقية دون مساومة، دائماً يترافق الشعور بالغربة مع إحساس بالقصور وبالنظرة السلبية، وأحياناً ثقافة الكراهية، تعيش كآخر أي كغريب بكل وقائع الاغتراب، هذا تحدي إبداعيّ لأنّك تنتمي لذاكرة وطنية منقولة وذاكرة نكبة نعيشها، فيطغى بمثل هذه الحالة الحضور للمُتخيّل أكثر، وهذا شعور صادق وطبيعي، وتأتي الكتابة لتجعلك تنتمي لما تشعر به من حنين وفي مكان آخر الكتابة حالة تمرّد أخلاقي على البشاعة..
هل تتّسع دائرة الحرية في لبنان بقدر يسمح لك بطرق مواضيع حسّاسة واختراق التابوهات؟ ومِن ثمّ كيف تتعامل مع رقيبك الداخلي أثناء الكتابة؟ وهل يسبب عنصر قلق لك أثناء الكتابة؟
وُلدت في مناخ الحرية في لبنان، ولكن في دائرة المخيّم الفلسطينيّ المقفلة، في عُمر المراهقة بدأت مع الحرب الأهلية اللبنانية، عِشت سنواتها العجاف متأثراً بالفضاء المتاح في إثبات الذات ومعاكسة القهر والشعور بالاضطهاد، وسط ثُنائيات متناقضة ومتصارعة حيناً ومتعايشة أحياناً أخرى. لبنان مسقط الرأس الذي أعطاني كثيراً من تنوعه وتعدديته وحريته وجماله وفنه وناسه، ولكن حرمني من حقوق بديهية وفق المواصفات والمعايير الإنسانيّة لللاجئ، تحت فزاعة التوطين وغيرها، رغم ان المخيّم مأوى مؤقت ولن يكون يوماً أي وطن على الأرض يساوي الوطن الأصل الذي يظل مسقط الحلم. لكن هناك تُخوم بين تناقضات المشهد اللبناني عامة وبين الظلم والانصاف، والمنع والحرية، والكبت والإبداع، وبين التمييز والمتاح، بين الإغلاق والانفتاح، هذه تصدُّعات البنية الطائفية، التي تتسع وتتفاعل فيها ضمن واقع متنوع ويتسع للاختلاف. في الكتابة لا يشكّل رقيبي الداخلي سلطاناً علي، سواء كان من دولة أو حزب أو دار نشر.
أكتب دون التفكير بالتابوهات، لأن وظيفة الكتابة أقرب للدواء حتى لو كان مُرّاً، فغايته علاج الداء وليس إثارة المريض، نحن في بيئة استثنائية ولا قيمة دون تشخيص وعلاج، أنا أدافع عن المُثل الأعلى الجمالي، ولا أبحث عن الشهرة عن طريق القتال ضد المُثل العليا، المهم أن أكون حقيقياً ليس مخترعاً أو خادعاً، وفي هذه الحالة الكفيلة بأن يسيطر فيها الكاتب على النص، ومن المستحيل أن أكتب رواية بدون حرية، لأنه لا إكراه في الرواية.
في سياق متصل بالذاكرة كثرت في الآونة الأخيرة كتب السيرة الذاتية لمثقفين فلسطينيّين، أي دلالات يحملها ذلك الاتجاه برأيك؟ وهل تفكر في كتابة سيرتك الذاتيّة؟
تأتي السيرة الذاتية في سياق التأريخ لأحداث مهمة، هناك خوف لفقدانها أو نسيانها ولا سيما أن الأرشيف الفلسطينيّ يتم فقدانه شيئا فشيئا، لذلك تأتي السيّر في سياق الاعتراف والكتابة عن أحداث هامّة، بالنسبة لي لا أريد كتابة السيرة الذاتية، بل أنحاز بقوة للذاكرة الجماعيّة أكثر من الذاكرة الفرديّة، انتهى زمن البطولة الفرديّة، أحياناً أشعر أنّ السِير الذاتية هي تبرئة للذات من ماضي مهزوم، قلّة من كتب سيرة ذاتية كمراجعة نقدية ذاتية، وهذا يحتاج لمستوى من الغيرية لا تتسع لها السيرة الذاتية. كما أنني أعترف بكل شيء في رواياتي، لأن الشخصيات التي كتبت عنها اكتسبت شيئاً منّي، وقد حمّلتها الكثير ممّا أريد قوله.
بأي الطُرُق ساعدتكَ السياسة، أو أعاقتكَ، ككاتب للأدب؟
لم تكن السياسة عائقاً في طريقي، لأنها ليست حِرفة أو وظيفة عمل بالنسبة لي، عندما تكون السياسة كمهنة، تضع حاجزاً بين الواقع والحلم، وتتسع المسافة وتكثر القوالب الجامدة ويزداد الإحباط والتحنيط واللغة المجَنّحَة. لذلك يزداد التنافس السلبي الفئوي على حساب الطاقة الإيجابية وتُصبح أبعد من القدرة حتى على حل مشاكل الناس، وهذا ما يفسر العزوف عن السياسة وهجراً لها عموماً. هذا الشكل الأناني للسياسة هو معيق لكل إضافة نوعية، حيث يصبح الشكل أهم من المحتوى والتراتبية، أهم من التربوية السياسية، تتحوّل إلى "ما قبل السياسة"، عندما تتسطّح ويغيب العمق الفكري والقيمية والثقافي والتربوي والأخلاقي. حاجتنا للسياسة ليس كشطارة ومنصب وسلطة، إنّما السياسة التي تصيغ الرؤية وتحفظ المعنى وتفتح نافذة للحلم، بآليات ومصداقية عملية.
لهذا النوع من السياسة أنتمي وعنها أدافع، فقد ساعدتني دائما في فهم كينونة الإنسان الفلسطينيّ وعلاقته بكل شيء، بذاته ومكانه ومشاكله اليومية، السياسة كانت دائماً جزءاً من فلسطينيّتي ومن ثقافتي، هي إنتماء وطني وليست رغبة تنظيمية، لذلك لم أجعلها في الرواية إلا خلفيةً في المشهد. حرَّرتنا الثقافة من لعنة الغباء السياسي التي تخدم هدفاً ذاتياً، نقيضها هي سياسة إنتماء وطني وإلتزام نضالي هدفها تحقيق فضيلة الحق والعدالة والحقيقة والمصلحة العامة.
ألا ترى أنّ الجمالية النضالية المقاومة في الكتابة الفلسطينيّة الإبداعيّة، قد استنفدت وأدّت دورها في فترة تاريخية معيّنة، وأنّ المقاربات بدأت تختلف وتتنوّع؟
الكتابة الفلسطينيّة الحالية، تتوغّل أكثر في الذاتية والوجودية والابتعاد عن أسئلة القضية التي كانت سائدة فيما قبل، هناك مواضيع كفاحية جديدة، خاضها الأدب سابقاً ولا يزال يمتلك إرادة الإبداع أو الأمل الجيّد من أجل قضية عادلة وشائكة ومركبة، وازدادت تعقيداً، بعيداً عن سطوة الخطاب السياسي وأحياناً "الشعاروية" على الثقافة الفلسطينيّة، لكن هناك ديناميات إجتماعية وتحوّلات مُؤثرة في الواقعين العربيّ والفلسطينيّ، بل تبدّل الوضع جذرياً، من المرحلة الأولى القائمة على تثبيت الهوية السياسية للشعب الفلسطينيّ ومنع تحوُّله إلى تجمّعات لاجئين، إلى مرحلة جديدة والتي تتعلّق بما يُمكن تسميته بـ ”الإبادة السياسية“، أي فصل المجتمع عن كيانه السياسي وتحويل الخصوصيات إلى كيانات منفصلة عن الأرض الواحدة، أي الانتقال من وطن مسلوب إلى أراض ٍمتنازع عليها ثمّ إلى تدمير "الوطنية الفلسطينيّة". يجب أن نعترف أن عقولنا تعرّضت لتخريب ممنهج، ممّا إسهم في إحداث شرخ إجتماعي وتفتيت للنسيج الوطني في محاولة لتحويلنا إلى هويات وأطياف وحيثيات طائفية أو إثنية أو جَهَويّة أو تنظيمية، هذا التشتيت مدعوم بإرادة دولية تدفع بهذه العملية نحو تحويل الأوطان ألى أسواق والمواطن إلى مستهلك.
هذه حقيقة نعيشها نعم ولكن لا يجب ان نستسلم لها، لدينا طاقات وقُدرات لو تمّ تفعيلها وإدارتها فهي قادرة على إنتاج وضع تاريخي جديد، وهذا حكماً يحتاج إلى تقنية جمالية جديدة، وهذا ما أعتبره إلى حد ما تقصير في مواكبة القضية في أدق مراحلها. لكن برأيي أنّ كتابة السيرة الجماعيّة مستمرة لم تنته بعد، وما زال هناك الكثير من الزوايا التي لم يسلَّط الضوء عليها، خصوصاً أنّ اللجوء وأسئلته ما زالت، والمنفى الآن مليء بالقضايا الوجودية والسرديات التي لا زال الأدب يفتقر إلى كيفية التعامل معها وطرحها من جديد بطريقة أخرى.
يُلاحَظ أنّ الرواية اليوم تحتل المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ. فهل هذا ناجم عن إنجازات حقيقية اجترحتها هذه الرواية أم هي مجرّد موجة عابرة؟
الرواية اليوم تحتل المشهد الثقافي نظراً إلى قبولها وقراءتها من قبل القرّاء أو لأنّها الوسيلة الأكثر تملكاً للتعبير عن أدق التفاصيل الإنسانيّة، خاصةً في مركبات هذا الواقع الاجتماعي القسري وخصوصياته الموضوعية وتداخلات المشهد السياسي، فلا بدّ من استراتيجية إبداعيّة بأفق ابتكاري يدخل في متاهات الشخصيات المُلتبسة كحالات إشكالية ناتجة عن تبدّل سُلّم القيم وتَعثُّر الحالة الوطنية والتداعيات الإنسانيّة لحالة الفشل في عملية الصراع. يجب أن نعترف أنّ الإنجاز الفلسطينيّ الروائيّ يظل محكوماً بِبُعدين:
أولاً: البعد الاجتماعي، أي اتساع دائرة الإهتمام بما يصدر، وأنا أركّز على القراءة والتي هي بحالة تراجع.
ثانياً: البعد الإبداعيّ، سيّما غزارة ونوعية وجودة المنتج الروائيّ الفلسطينيّ، وتحقيق مراتب وجوائز على هذا الصعيد. ولكن على أساس الحفاظ على منسوب المعادلة الناجحة، وهي تشجيع الكتابة الجيدة مع رفع نسبة القراءة.

هل فعلاً أنت من جيل أدبيّ بلا نقاد، إذ ليس هناك دراسات نقدية على كتابات جيلك، وإنّما هناك عروض صحافية للنصوص الأدبيّة، عروض تَخلو من النقد بالمعني الحقيقي؟ ومن منظورك كيف يستطيع النقد "ترشيد" المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ، وبالتالي توسعة الإشارة إلى آفاق جديدة؟
يفتقر المشهد الفلسطينيّ إلى نُقاد حقيقيين، باستثناء بعض الأسماء الذين ما زالوا يتعاملون مع النقد بِرشد. نحن بحاجة إلى نقد حقيقي، يوجّه الأدب نحو آفاق جديدة على مستويين:
المستوى العامودي: إلى ناحية التقييم الجمالي للبناء والسرد والصور الجديدة واللغة والتجريد والفن والرمز يرصد التجديد ويكتشف بنية الإخفاق، كذلك وتفكيك "الكود" الروائيّ ومفهوم البطل الجديد والمنفي أو اللاجئ المكرر الذي انتقل من حالة إلى أخرى وتماهى فلسفياً بين السلبي والايجابي، وبين البطل الفردي ولكن ليس الهوائي والجماعي ولكن ليس الشعبوي وحتى البطل الذي أصبح ذاتاً بذاته، هذه المسافة النقدية لا زالت غائبة.
والمستوى الأُفقـي: من أجل توسيع دائرة الفعل الأدبيّ في مواجهة وتعدّد المنافي وتعدّد الحركة السرديّة حسب مستويات الغربة، تصبح فيها الأعمال الروائيّة مُلتبسة بوقائعها ومعزولة بواقعها، وكأننا إمّا لقطات أدبيّة هنا وهناك، وظيفة النقد الأدبيّ هو فك الحصار عن الرواية وهدم الجدارات عبر مقاربات للتعدّد الحركي للأدب، ووضع متتاليات تُخرِجه من المنفى الداخلي والاغتراب الذاتي، هو إسهام في تعميق وعي الشتات، لأن المنفى صورة مشوَّهة للمجتمع، في تجاوز ظاهرة الاغتراب والتوزُّع والانتشار إلى المنفى الأقصوي.
ماذا عني لك حصولك على جائزة القدس للثقافة والإبداع للعام 2016؟ ومن ثمّ هل يمكننا القول، إن الجوائز تلعب دورًا مهمّاً في المسار الأدبيّ للمبدع؟
الجوائز لا تفعل شيئاً سوى إنّها تشجع المبدع وتقدره وتشكره، لقد شعرت بمحبة القراء وكان لي شرف الفوز بهذه الجائزة. أولا: القدس وبما تعني فهي إرْث الرباط والثبات والتمسك بالثوابت الأساسية، وأنّ القدس هي قلب فلسطين النابض والعاصمة الروحية والوطنية والسياسية لفلسطين التاريخية والحرة المستقلة. ثانياً: هي حافز لدعم معنوي لثقافة المقاومة لكل محاولات طمس الهوية، وتثبيت الوجود الفلسطينيّ عربياً وعالمياً. ثالثا: دلالتها كتجسيد روحي لوحدة الشعب الفلسطينيّ في الوطن والمنافي. فاللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربيّة، شرفني إختيارها منحي الجائزة وأشعرني فعلاً أن "الفلسطينيّ للفلسطينيّ بيت ووطن" على حد قول وزير الثقافة الصديق د. إيهاب بسيسو، إنّها بالنسبة لي مسؤولية كبيرة اتجاه القدس واستمرار في مسار الإبداع عامةً والنضال والكتابة خاصةً.
سؤال أخير عن انشغالاتك الآن، وما الذي تهجس به على صعيد الكتابة في قادم الأيام؟
أنشغل الآن بقراءات جديدة وبنَدْوات حوار عن رواية «الزعتر الأخير» وأنشطة ثقافية مرتبطة بها، حق الرواية يظل قائماً حتى تكتمل دائرتها الثقافية، وتصل إلى سن الفطام وهي بين العام ونصف إلى العامين من تاريخ الإصدار، تجبرني على البقاء في حالة استنفار، لتلَقي ردود الفعل والتفاعل مع آراء ونقد وأسئلة القرّاء فيها وعنها.
تعليقات
إرسال تعليق