سعاده… فلسطين الشهادة والغاية
مروان عبد العال
كاتب روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
الفكرة الحيّة التي لم تخترقها رصاصات تموز، وهي تشع قيماً ووعياً وإرادة قوية، بل تزداد بريقاً كلما إدلهم ليل المرحلة. كأن ذلك الإغتيال الشنيع أشعل الحياة في شرايين الولادة في صرخته الأقوى من الموت “كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل العقيدة”.
هكذا الزعيم أنطون سعاده الذي أفنى حياته فداء للمبادئ والفكرة والغاية النبيلة، لذلك عند الكتابة عن ذكراه تتماهى حياته بفكرته بإستشهاده بحال الامة، وأول قبس يضيء من بعيد تلك المفردات التي تتناثر في الفضاء السياسي وفي خضم الصراع الذي يعصف بالمنطقة والتحذير المستمر من “فقدان البوصلة” أو ضياع الهدف أو تدمير الغاية، وفي التجربة الخاصة والعامة فإن ضياع الهدف يقود إلى التصويب بالإتجاه الخاطئ، أو ما نسميه في الحركة السياسية “الدوران في الحلقة المفرغة”!
لقد استشرف المؤسس أنطون سعاده بفكره الاستراتيجي الخطر الصهيوني على الأمة وأدرك أن الخطر ليس حصرياً على فلسطين بل كل كيانات الامة. كل ذلك ينطلق من “قوة الغاية” التي تشكل الفكرة المحفّزة لمشروع النهضة القومي، وهنا يكمن السر الروحي الذي يشكّل الوعي الجمعي للأمة. لذلك ليس من باب الصدفة أن تكون “الغاية” محور الفكر الاستراتيجي في خطة الزعيم سعاده، بل إنها حددت الغاية بوضوح دون أي التباس، ورسمت إستراتيجية العمل لتحقيق هذه الغاية، حين شرح سعاده في محاضراته “إن غرض الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدم والفلاح” وحين حمّلها بالغاية العميقة والواضحة “فالحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة”. وبدت الغاية بأعلى تجلياتها بقوله “إن الغرض الذي أنشىء له هذا الحزب غرض أسمى، هو جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها و وطنها”.
ما فعله الحالمون أنهم قدموا لنا أحلاماً إستثنائية، فلا يكمن تحقيق حلم غير موجود أو هدف نؤمن بالقدرة على تحقيقه، لأنك إن لم تكن تعرف أين تذهب فجميع الطرق قد تنتهي إلى اللاشيء. أي إدراك سرّ قوة الحلم الثوري وحين يقترن هذا الحلم ببناء القوة الثورية لتحقيقه، يتحول إلى مشروع كفاحي نهوضي وتحرري.
الناظم الإستراتيجي للتطور يستند إلى قوة الحق التاريخي الذي هو الهدف النبيل والغاية الواضحة والعادلة والواعية.
الفارق بين الأمنية والغاية في فكر سعاده يكمن في ثنائية ايجابية متبادلة وليست متناقضة لا تذعن لمنطق الفشل إنمّا تتمسك بسر النجاح. لأن وضوح الهدف وأهميته وعدالته يظل ناقصاً دون إمتلاك خطة إستراتيجية متعددة ومتدرجة ومرنة في التنفيذ، وتستند إلى عناصر القوة لتحقيقه. أمّا الأمنية فهي قد تبقى مجرد رغبة ان أفتقد للقدرة، وتظل تعيش في دائرة الإنتظار، تستجدي قوة الغير أو قوة خارجية، أو مؤثرات غيبية لتحقيقها.. أو حتى الإنشغال بالعقبات التي تولّد عناصر تجزئة الغاية أو إلتباسها، أو حتى تفكيكها وإلا لما قال: “إن فينا قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ”.
الفارق بين السؤال والتساؤل من موقع إيمانه بالغاية الواضحة، إيمانه العميق لقوة المعرفة، أي سلطة العقل والنزاهة الفكرية والأخلاقية، حيث لا يكون الخطر في الرأي الخطأ بل في امتلاك عقل جامد.
حين يتحول السؤال إلى انتظار تلقي الفكرة الجاهزة تكون قد عطلت قوة العقل مسبقاً وحولته من منظومة منتجة إلى مستهلكة، إلا أن التساؤل هو العقل الفلسفي الذاتي وصامت، قد يستغرق بتفاعلاته الفكرية الى مدى زمني فسيح.
ما أحوجنا لإستعادة روح الغاية في عقيدة “سعاده”، وغيابها أو عدم الادراك الكافي لمفاتيحها الاستراتيجية في ذروة الصراع الحالي هو بمثابة إرتكاب خطأ أيديولوجي، كي لا نصبح أسرى للرؤية الناقصة والمحتجزة بالانشغال الحلقي وبالفكر اليومي بعيداً عن رؤية وعرفة ووعي الصراع. قد نتحول إلى حالة مغلقة تحرم عقولنا من التفكير النقدي المنتج، والتحليل المجرد من التصور المسبق والموروث.
عناصر الحياة في فكره لا زالت تنبض، بكل ما فيها من قوة روحية، هي حافز لإستعادة الغاية الجامعة وإعادة تصحيح وبناء الهدف بكل مكوناته الحضارية.
لقد استشرف الزعيم مبكراً مخاطر إسقاط “المناعة القومية للأمة”، بل أن وظيفة هذا الكيان الصهيوني هو تجزأة هذه الغاية الجامعة، وتحويلها إلى غايات متصارعة ومتفرقة ومتآكلة، تمهيداً لإستلاب الأمة ومحو هويتها ومصادرة تاريخها ومستقبلها.
لقد فعلت الإستراتيجية المعادية فعلتها في خلق غايات بديلة وخاصة، وفئوية ووهمية، ومذهبية وسلطوية وقطرية وأثنية، مما أفقدت المجتمعات عناصر قوتها وإرادتها الجامعة وتحولت روح التضحية إلى سؤال عن سبب فقدان غاية التضحية نفسها.
لطالما سعت المشاريع المعادية لتتغذى بالانقسام والتفتيت والتجزئة، وككل المشاريع الاستعمارية لا تنمو إلاّ وسط روح مبعثرة ومشتتة. وما صفقة العصر إلا التجسيد الأمثل للتحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، الذي يستهدف بخطره روح الامة عبر طمس التاريخ واحتلال الحياة والإبادة السياسية لكل حقوقنا، بل لتعمميم اليأس والإحباط و ثقافة الهزيمة. ان وعي قوة الغاية النبيلة التي اجترحها فكر سعاده هي هدف المقاومة الشاملة لصيانة ذاتنا واستقلالنا وحريتنا وهويتنا وتاريخنا وفلسطيننا وقدسنا وعودتنا، تتشبث بالحقوق التاريخية والقانونية والأخلاقية والقومية. تلك الغاية الكبرى التي تستدرك الخطر التأسيس وترسم اتجاه البوصلة التي أشار لها دم “سعيد العاص” غاية فلسطين أنها هي العقدة وهي الحل، هي المبتدأ والخبر. فالامة بدون فلسطين هي أمة مستلبة والعكس صحيح. وما نادى به الزعيم ومات لأجله “إنكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ”. هي شهادة بحجم درس التاريخ، شهادة الغاية التي ترنو نحو المستحيل، يحتاج لفعلها دائماً قناعة قوية وراسخة ومسبقة بالقدرة على فعل المستحيل.
تعليقات
إرسال تعليق