صورة المحتل والماعز المتوحش في رواية " الزعتر الأخير"
يبحث الروائي الفلسطيني مروان عبد العال عن عشبة خلود الأرض في روايته الأخيرة "الزعتر الاخير" مثلما فعل جلجامش بعشبته التي يؤمن أنّها قد تسعى لخلوده ، صعد الجبال، وسقط في الحفر، وعبر الوديان، وقاومَ الأفعى المتوحشة التي سعت إلى سلبها منه، كل هذا، كان من أجل العشبة الخضراء/ الذاكرة والفكرة، وإيمانه المطلق بها.
نجد الصراع ذاتهُ، الشبه والشبيه، في رواية الزعتر الأخير التي تصوّر الفلسطيني الذي لا يكفُّ عن النضال المستمر في سبيل حماية الذاكرة من التلاشي في غياهب النسيان، وهذا الزعتر الذي يملأ وادي "الحنداج" في فلسطين، يخوض معركته التي لا تنتهي مع الماعز المتوحش الأشبه، بالأفعى المتوحشة، لكنّهُ يسعى إلى نهش اخضرار الزعتر من ذاكرة الأرض، يقول :
" معك يا زعتر تظل ذاكرتي يقظة ونضرة، تحملني كغيمة رطبة إلى تلك السهول المبللة بندى الصباح....الخ.
بعد طوفان تيوس المدينة صرت أرى الماعز البيزنطي بشكل مخيف، يأتي محمولاَ على شهوة الدم وشذوذ الذبح وقطع الرؤوس."
هي الحرب التي لا تتوقف بين الزعتر والماعز البيزنطي، كما صوّرهُ الكاتب كي يجسّد الإحتلال القائم، وهو يبتلع طبيعة الأرض رويداً رويداً أو زعتراً زعتراً، ولا يجد القارىء الفرق الشاسع بين الزعترين، تلّ الزعتر " المخيم" ، وبين الزعتر في وادي " الحنداج"، لأنّ الزعتر / عشبة الخلود، هي تلك المعجزة التي تجعل الذاكرة حية، مفرطة، عصية على الموت والنسيان معاً، رائحة تتلبس جلد الإنسان المشرّد عن ترابه الواحد إلى لجوئه المتعدد.
كما وقعت الحرب، وقع الحب، من ناحية أخرى، لم تغب ملامح الأنوثة والذكورة ، والسرد السلس في علاقة "أميرة" الفتاة الجميلة مع زعتر " الراوي"، لكن الحوار العاطفي في لحظة الإشتهاء المفتوحة على مصرعيها، لم تبتعد عن عمق الصراع القائم في الوجود والجغرافيا،
يردف : " زعتر يتنفس الصعداء ويعدُّ أضلاعهُ كلما بدأ الشجار والجدل البيزنطي بين قطعان الماعز المستذئبة؛ تدور معركة عنيفة تتكسًر فيها القرون، من أجل أنثى ماعز."
يعيش الفلسطيني هذا الواقع اللاطبيعي تحت الإحتلال الذي يسلبه كل شيء ، حتى لحظة الحب، والتفكير بالأمل الممكن، يتّضح لنا أنّ هذا المحتل/ الماعز المتوحش، عدوّ الإنسان وما يحيط به ، من تفاصيل عيشه، وكرامته، بالإضافة إلى ملبسه ومأكله، ليس فقط، على المكان، فحسب، بل بالدرجة الأولى على مصدر ذاكرته.
كما جاء في الرواية :
" ذاكرتي المشبعة بالجنس الذكوري، تبوح من تلقاء نفسها استعداداً لحالة أخرى من فقدان مختلف. كل الأشياء داخلي كانت خارج السيطرة ولحظتئذ أدركتُ أن الرجولة تعني أن تمتلك رغباتك وأن تسيرها أنت وفق ما تشاء وإن فقدت قدرتك على السيادة عليها تكن قد خسرت نفس" .
يلاحظ المتأمل في حالة " زعتر" المصاب بالذاكرة المفرطة التي منحته قدرة هائلة على الإستذكار، يدرك تماماً مقصد الرواي من جوهر الفكرة المطروحة، والمعنى المقصود، كيف أنّ الذاكرة تستحتضر كل تفاصيل حياته بشكل فوتوغرافي؟، والأحداث اليومية التي مرَّ بها بمنتهى الدقة؟، كأنّها فيلم، إذ أنّه لا يستطيع الهروب من نوبات هذا التذكر القوي المحيط به، والمسجون فيه، وهنا يكمن نقيض النسيان مع الزمن، والإستسلام للواقع المعاش كيفما كان، عكس الإصابة بمرض النسيان المفرط الذي قد يؤدي إلى التفريط بالحقوق المسلوبة، وانتزاع الأرض من سكّانها الأصليين" فالهايبرسيميثيا كان أرحم من الزهايمر"برأينا، يقول :
" ذاكرتي المضطربة التي قيدتني بمتلازمة هايبرسيميثيا وجعلتني أسمع نداء وادي الحنداج يقول لي إنّ فيه مقادير كبيرة من الحجارة، ذكّرتني أنّني أستطيع أن آخذ معي من يريد النجاة، وأن يلقي بيده حجراً في الوادي ، فتتحوّل الحجارة إلى بشر جدد."
يختم :
" أثناء زياراتي للطبيب أهديت إليه مخطوطة رواية كتبتها أثناء مرضي، فالتقطها وتصفّحها ثمّ قرأ " زعتر آخر" اعترض قائلاً: لا، أقترح أن يكون اسمها " الزعتر الأخير " ... وأردف أينما ينم الزعتر فينا نرقص فرحاً وحياة ، لا يوجد آخر هناك زعترنا الأخير ابن زمن أخير ، لنرقص له ولأجله .. الزعتر الأخير هو الشاهد الأخير وكفى."
هل كان نداء وادي الحنداج سيخترق أذن "زعتر" ويعرفه، لولا إصابته بالذاكرة المفرطة؟، كيف يسقط وادي تفوح منه رائحة الزعتر؟ وكيف تشهق الجبال دونه؟، من يكون زعتر؟ هذه الأسئلة تقرع خزّان المخيلة فينا، كي توقظ الوعي في ذاكرتنا المتعثرة.
باسل عبد العال
http://www.alsabaah.iq/uploads/Bain%20Nahrain/4321/87.pdf
منشورة في الملحق الثقافي "بين النهرين" التي تصدر عن شبكة الاعلام العراقي
تعليقات
إرسال تعليق