حكايتي


في برنامج من فئة البورتريه الحواري يستضيف أحد الشخصيات السياسية، الثقافية، الفنية، الإعلامية والأكاديمية حيث يدور الحوار حول أهم المواقف والتجارب التي تعلّموا منها وطبعت سيرتهم المهنية والشخصية وأبرز الشخصيات والأحداث التي تركت بصمة في حياتهم. كان لقاء مع مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الكاتب  الروائي والفنان التشكيلي مروان عبد العال، وعبر برنامج علمتني الحياة  قال:

علمتني الحياة كيف أكون إنساناً حقيقياً، علمتني أن أحب وأعطي بلا حدود، وأن اقرأ نفسي، وأن أكون نفسي، وأن أناضل من أجل أن أحقق ذاتي.
فأنا فنان فلسطيني بالفطرة، فمنذ تفتح طفولتي كنت أبعثر بين أصابعي آلوان والدي، وهو يحترف الرّسم، ومنذ الخربشات الأولى، سواء في دفاتر المدرسة، أوعلى مقعد الدراسة، أو على جدران المخيم، نمت عندي موهبة الرّسم. كنت أمارسها كحالة، وربما كانت محاكاة لقضايا بصرية، وحسية، يعيشها الإنسان نفسه، وفي لحظات ضغط، كما كنت أشعر أنها لحظة فرح حقيقية. ربما تسرق الشخص من خضم المعارك، والتعب، والركض.
مرّات عديدة يعجز الإنسان عن نقل الصورة التي يريدها، ولكنني كنت أحاول خلال الرواية أن أصورها بالكلمات، وأحياناً من خلال رؤية من زوايا متعددة. هناك العديد يكتبون وكأنهم يروون رواية على مسرح، لكن الفنان يستطيع أن يرى الكثير من الأشياء التي لا تراها الكاميرا، حيث إن الفنان يستطيع أن يراها من أكثر من زاوية، وبالإمكان رسمها من أكثر من مكان، فالكاميرا أحياناً تلتقط شيئاً بصرياً، لكن من الصعب أن تلمس المسألة بداخلها الحسي، وهذا أكثر ما لمسته في روايتي "حاسة هاربة" حيث سردت الأحايس أكثر من سردي لها بصرياً.
في لبنان، كان هناك أزمات بشكل دائم، وولادتي كانت في العام 1957، في مخيم نهر البارد، شمال لبنان، تزامنت مع فيضان نهر أبي علي في مدينة طرابلس. حدثتني أمي لاحقاً عن الأزمة التي سميت بأزمة رئاسة شمعون. لم أولد في خيمة، بل ولدت في منزل متواضع سقفه من (الزينكو)، لأن الخيام كانت في مراحل اللجوء الأولى، للإقتلاع، للتشتت الفلسطيني. في تلك السنة، أي السنة التي ولدت فيها، كانت قاسية جيداُ، فكانت موصوفة بالعواصف الثلجية، عدد كبير قضى في الثلج. ما زال صوت المطر حينما كان يتساقط على (الزينكو) عالقاً في ذهني. تلك المحاكاة، وذلك الصوت كنت أحبه، وأغفو عى صوته. فقد كان مؤنساً، لكني في الوقت نفسه كنت أخاف صوت الريح، فالريح بالنسبة لي كانت تعني الاقتلاع، والقتل مشهد كنت أراه منذ أيام الطفولة، خاصة عندما يقتلع (الزينكو) في لحظة عواصف قوية. هذا الأمر جعل والدي يعمل كثيراً على تقوية (الزينكو)، ويضع فوقها الحجارة، المدارس أيضاً كانت سقوفها من الأترنيت، وهي مادة بلاستيكية. في أحد الأعوام كانت الرياح شديدة جداً، قضى أحد أبناء صفي في الدراسة نتيجة ذلك.
كنت أعتقد أن المخيم الذي أعيش فيه هو العالم، بعد ذلك بدأت اكتشف العكس. في اللحظة الأولى التي ذهبت بها إلى المدينة، وصرت خارج المخيم، كنت أعتقد أن كل الناس فلسطينيون، وكلهم يعيشون كما نحن نعيش، لكني تفاجأت بأن الحياة خارجاً مختلفة، وهنا بدأ إحساسي بالهوية، بالمعاناة بطرح السؤال التالي، من نحن ؟ ولماذا حياتنا مختلفة عن الآخرين؟
أبي، أطال الله بعمره، كان يشتري الكتب عن الرصيف، ثم يعيد تجليدها من جديد، ويخطط عليها، فهو خطاط ورسام، ولديه لوحات عديدة، كما لديه مكتبة في البيت، فيها كتب التاريخ وكتب الفتوحات، ومجلة العربي في عددها الأول، وكل هذه الكتب قرأتها وأنا في سن الطفولة، واضاف لي الكثير، عشقه للمطالعة وللفن. كنت أصغي لنقاشاته مع الفنانين، وأنا في حضنه، كما أنه زرع فيّ شيئاً جميلاً، وأنا ممتن له. دائماً أتحدث عنه بخشوع. على الرغم من أنه يعاني من ضيق في التنفس، ولا يرى إلا بعين واحدة، ما زال يرسم وبإصرار. 
والدتي هي الرواية الأولى في حياتي. "أمي خرجت من فلسطين صبية، قبل أن تتزوج، لكنها عاشت تفاصيل أغنتني كثيراً، علماً أنّها نست الكثير في المخيم لكنها لم تنس فلسطين، خاصة رحلة الخروج من فلسطين بدءًاً من الجنوب اللبناني، وصولاً إلى ميناء طرابلس، ثم إلى المخيم، فهي تتذكر أدق التفاصيل، وهذا أضاف لي الكثير، وأولها أن شقيقتها ماتت عطشاً لأنها لم تجد ماءً تشربه، وقد دفنت في قانا. وأمي تتذكر تماماً تفاصيل هذا الموضوع. كما أضافت قصصها وحكايا عديدة، كانت قد سمعتها من والدتها. ذاكرتها الشفوية كانت خصبة، وغنية، وما زالت إلى الأن ذاكرة المكان. حتّى اللحظة تشغلني قرية اسمها الغابسية، وهي قرية مدمرة، ومقتلعة. لم يعد فيها الآن إلا المسجد. لكن لا يمكن (لإسرائيل) أن تغتصب هذه الذاكرة، أو أن تغيّر أسماء الأماكن، وهي أسماء لا يعرفها أحد إلا أبناء المنطقة. مصادفة التقيت بأحدهم، عانقني، وقال لي: "أنت من تلك القرية"، لمجرد أن تقول عن ذاك الوادي أن اسمه وادي المجنونة، يعرفك الشخص منها، وأنا كتبت عن ذاك الوادي في روايتي (جفرا). وكنت أسمع من أمي أن اسمها وادي المجنونة، وهذا الاسم غير موجود في الخريطة الجغرافية، لكنه محفور في الذاكرة الشفوية، ذاكرة أهلها.
جدي كان ماهراً بصناعة الأسلحة منذ أن كان شابا ًصغيرًا، فمنذ طفولته هرب من القرية، يشتغل فلاحاً. هرب إلى أحد المصانع التي كان يشتغل فيها بتصليح الأسلحة، واكتسب هذه الخبرة. وفي ثورة العام 1936 كان جدي مسؤولًا عن سلاح الثّوار، وأرسل أخاه إلى بيروت لشراء أسلحة، اشترى الأسلحة من أموال حلى النساء في القرية، فقد حمل هذا اللواء لفترة طويلة بتصليح الأسلحة، بالإضافة إلى أنه أقام مصنعاً في لبنان لتصليح الأسلحة. كان جدي يتساءل دائماً، لماذا نمتلك اسلحة صدئة؟ بينما العدو كان يمتلك أسلحة إنكليزية يعرفها، ويعرف قوتها. لماذا نحن ممنوع علينا هذه الأسلحة؟ ولماذا لا أحد يمدنا بها؟ حتى وصول جدي إلى لبنان، كان يقوم بتصليح هذه الأسلحة، ويعدل عليها ويطورها، ويعطيها أبعادًا تقنية عالية جدًا، وهو المتدين المعروف لدى أهل المخيم بالشيخ، وهو من ركائز المخيم، ويوجد مسجد بإسمه (مسجد أبو عدنان) ومن الممكن أن تكون مهنته قد ذهبت معه. لقد كتبت مقالاً يوماً تحت عنوان "لماذا لم تعلمني مهنتك يا جدي؟"، وقلت له أيضاً: إن مهنتي بالكتابة لا تقل عن مهنة تصليح السلاح، لأنها أيضاً سلاح.
هناك العديد من الأشخاص الذين لديهم فضل علي، لكن هناك شيخ ضرير كان يؤثّر بي، وهو شيخ كان ينتمي إلى حركة سياسية، وإلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان لا يستطيع المشي من دون مرافقتي. كان يعتبر فيلسوفاً، كان يرغب بمطالعة الكتاب، يومياَ. لا يبصر، لذلك كنت اقرأ له الكتب، وهو كان قارئًا لكتب الفلسفة، والتاريخ، والروايات، وهذا ما أفادني. بعد الانتهاء من القراءة كنا نناقش الكتاب الذي قرأته، وكان يسترجع معي ما كنت قد قرأت له، وحتى غسان كنفاني أذكر أن أحداً طرح أن يصير أدب غسان كنفاني مادة فكرية ثقافية في البناء الحزبي، فيكون علينا أن نقرأ رجال في الشمس، وأم سعد، وعن ثورة الـ 36، وأسباب إخفاقها وعن الأدب الصهيوني، وهو واحد من الذين ناضلوا لإقرارها كمواد تثقيفية، فهذا صراع إنساني شامل. ضد هذا العدو، فكان يجب أن نستند إلى كل هذه العناصر. وأضف إلى ذلك أن هناك قائداً ملهماً، هو الدكتور جورج حبش. هذا الشخص الذي تعاديه الإمبريالية، كان لديه الخلفية الثقافية الواسعة، أوسع من فلسطين، كهوية إقليمية فهو قومي، عربي، متخرج من الجامعة الأميركية. المحيطون به كانوا من الكويت، والبحرين، وإلخ. وكذلك وديع حداد، والصراع مع الإمبريالية فيه حياة أو موت، فكانت لحظة عنفوان شبابية، كان قائداً لهم، وأنا عندما تعرفت إليه، ورأيته، وناقشته، ازداد تقربي منه، وكنت حينها أفكر أن القائد مشقوق من صخرة، لكني فوجئت حينها أن لديه كتلة كبيرة جداً من الأحاسيس، وأدركت هذا عندما بكى لحظة حديثي معه عن أمي.
فتحت معركة الذاكرة وجعلت البطل يصاب بمرض نادر، وهو الإفراط بالاستذكار لدرجة أن كل التفاصيل تعيش داخله، وأنه لا يستطيع التخلي عنها، وأنا أعتبر أن هناك محاولة لتصليح الذاكرة، وهناك من يسعى إلى عبرنة الذاكرة، أي الذاكرة الفلسطينية نفسها، ويريد أن يحولها إلى ذاكرة عبرية، وأعتقد أنه نجح بشكل عابر، ومؤقت. هم المصابون بداء غير الوطنية، وأقول إن هناك ذاكرة سلبية، وهناك ذاكرة إيجابية، ولكن حتى الذاكرة السلبية نريد أن نستفيد منها، ويجب أن نتذكر من خانوا الشعب الفلسطيني، الذين ذبحوا الشعب الفلسطيني، وأتكلم عن زعتر جميل، يجب أن لا أنساه، وذكرت ذلك في روايتي (الزعتر الأخير)، هو زعتر فلسطين كان يرعى فيه هذا الشاب الذي كان يرعى الماعز، ويعيش التفاصيل الصغيرة، وتمنى ذاك أن يكون العشق الأخير، لكن في الوقت نفسه هناك جراحات عاشها في المخيم، ويرى مخيماً يقتلع، وهذا ترك جرح عميق بداخله، وتمنى أيضاً أن يكون الأخير، لأنه لا يتمنى له أن يستمر.
يجب أن نحمي الرواية الفلسطينية. (الإسرائيليون) يناقشون طريقة السرد، وهم يعتبرون أن الفلسطيني متفوق في معركة السرد. هناك أناس يعتبرون هذا الكلام (طق حنك)، لكنه في الحقيقة يقوم على اختراق الوعي، لأن فكرة النصر ليست فقط تحقيق نصر عسكري، وقد يحقق الإسرائيليون نصرًا عسكريًا، لكنهم ينهزمون سياسيًا، والإسرائيليون يعتبرون أن أي انتصار للمشروع الصهيوني لا يمكن أن يكون إلا على مستوى الوعي، أي أنك تحتل وعي الآخر، وهو يقيم تطبيعًا وعلاقات مع إمراء وملوك لكنه يريد أن يصل بذلك إلى القاع الاجتماعي في العقل العربي والإسلامي. هو يريد أن يحتل العقل، وهنا تأتي معركة الرواية والذاكرة. قدرتنا على حماية ذاتنا وحماية عقولنا.
الرواية الفلسطينية مرت بمراحل تاريخية، خاصة في فلسطين، فهذه قائمة وموجودة من أقدم من كتب الرواية بفلسطين، قبل الانكسار لكن الرواية الفلسطينية بعد ذلك كانت الرواية (الفجيعة)، ورواية (البكاء على الأطلال) وهذا له علاقة بالحنين، ليس المطلوب فقط أن نبكي فلسطين، فالدموع لا تستطيع أن تحمل  القارب.
لذلك بدأ السؤال هنا (لماذا لم نقرع جدران الخزان؟)، والدعوة الى الثورة وخرجت أم سعد البطلة التي ترسل أولادها إلى القواعد، وتقول (خيمة عن خيمة بتفرق)، (إحنا ما بدنا خيمة لاجئ، بدنا خيمة ثائر)، وهذا أيضاً محمود درويش عندما قال: (وطني ليس حقيبة)، هذه مسألة مهمة جداً، خاصة وأنها حصل اعتداء على الوطنية الفلسطينية، وصار البطل إنسانًا، وهناك بطل سلبي، وبطل إيجابي، مثل إيفان الفلسطيني، هو بطل سلبي، وهو لا يستطيع أن يغير نفسه، وأن يغير هويته، ويغيّر اسمه، وبالمناسبة هو غيّر اسمه العربي، لأنه غير قابل للتعايش في مكان ما، في الغرب تحديداً. فهذه فكرة الاستلاب، فهل سيكون ألمانياً بالمعنى الكامل للكلمة؟ وهناك الكثير من التناقضات الأخرى لا يستطيع الخروج منها .
"لم أعد قادرًا على أن أكون نفسي، ولا أعرف لأي فصيل من النمل أنتمي، الأحمر أم الأسود، فوق قطبين، الرمل الأصفر تغوص قدماي الحافيتان، وتنخرط بين أصناف النمل المنتشرة، كفرق عسكرية. مشهدٌ من خيالٍ طفولي لنمل غريب، لا يشبه ذلك النمل الذي يعشش في غابة بيوتنا، وفي شقوق الدور، وتحت حوافي الشبابيك تبحث عن حبيبات سكر، سقطت سهوًا من مؤونة شتوية مخبأة على رفوف المطبخ، ذو حجم أكبر، وعندما يشيخ يتحول إلى نمل مجنح، ولأن أقدامه أكبر نسبياً من النمل العادي. كان يسير بسرعة قياسية، والمتعة التي تناسب شقاوتي أن النمل يتألف من لونين، الأسود، والأحمر، ولطالما كنا نعطي لكل لونٍ هوية بلد، أو طائفة، أو حزب، أو ميليشيا. بحسب المرحلة تكون اللعبة، ووفق الفرز السياسي، تفرز الألوان بلمح البصر، وسرعة البرق. أعادنا المشهد إلى زمن من رمل تسرب من خيالي على مهل. أنا وأترابي نتحالف مع الأسود، ونسمّيه النمل العربي، وهو بنظرنا يعبّر عن محور الخير دائمًا، حتى الاعتقاد أنه نمل مسالم أليف، ولا يعقص أبدًا، لكنه يفوز في النهاية على النمل الشّقي، والشّرير ذي اللون الأشقر، أو الأحمر، وليس عبثاً أن نسّميه اللون اليهودي، لأنه لا مهنة له سوى أن يغدر بنا ويعقص أقدامنا العارية أيضاً ." من روابة ايفان الفلسطيني.
أعتقد أن الرواية الفلسطينية بشكل عام هي جزء من الرواية العربية، لكن الرواية الفلسطينية تحديدًا استطاعت أن تقدم القضية الفلسطينية، كرسالة إلى الإنسانية جمعاء. عندما نسمع عن أسماء موجودة في كل بقاع الارض، تدرّس في جامعات عديدة في الخارج، ومنها أعمال غسان كنفاني التي ترجمت كتاباته إلى 40 لغة إلى العديد من الكتاب، وكلنا نتذكر جبرا إبراهيم جبرا، وما قدمه من أعمال روائية هائلة، وجبارة، وأيضاً إبراهيم نصر الله، والكتاب، وأكثر من كاتب وروائي على هذا الصعيد، وبالتالي تعيش بأزمات بين أجناس الأدب، لكن أعتبر أن هناك غزارة في الرواية الفلسطينية بشكل عام، وتعددها. كما قلت في أكثر من مكان، مكتشف الآخر، وأصدم عندما أسمع أنا فلسطينياً في غزة يقول: "أنا لم أكن أعلم أن الفلسطيني في لبنان، يعاني الى هذه الدرجة إلى أن قرأت الرواية فالفكرة، لماذا كل هذا الغياب لعقل كل إنسان فلسطيني؟ 
حكمتي  في الحياة : (الإنسان في نهاية الأمر قضية )كما قال غسان كنفاني.
الرواية الأخيرة وضعتني في اختبار هائل، هو تدمير مخيم نهر البارد، فقد كنت فيه، وعشت كل اللحظات المرة. لم أعش النكبة، لكني وجدت نسخة عنها، ورأيت لجوءًا جديدًا فأكثر من 30 ألف نسمة خرجوا من المخيم، وأيضاً عشت اللحظات العصيبة، كشاهد، وكبطل، وكضحية، وككاتب لمأساة جديدة، لذلك تصديت لأكبر مهمة وأصعبها، ولم أستطع رفضها من الجانب الفلسطيني، بالتكامل مع الجانب اللبناني، وهي مسؤول ملف إعمار مخيم نهر البارد.
هذا الدرس هو منشط للذاكرة الفلسطينية، وافتقاد المخيم، هو موت هذا المنشط وبالتالي محاولة لقتل الشاهد.
وجدت كتاب اسمه "فن الحرب" في شارع المتنبي في بغداد. في أطراف الطريق، وتعلمت منه أمورًا استراتيجية كنت أستفيد منها، وأستند إليها ضمن التحليلات، وكان عندي مكتبة فيها الآلاف من الكتب، وبيتي بلوحاته الفنية كله أحرق في المخيم لكن فجأة وبينما كنت أبحث عن بقايا المكتبة كتابًا على رأس السقف لم يحرق، وأنا أعتقد أن يكون أحد قد تناوله من المكتبة ليقرأه، لأنه كان خارج المكتبة، ومتسائلاً عن سبب عدم حرقه، وهذا الأمر شكل عبرة، وخطر ببالي هولاكو الذي أحرق المكاتب، وكان واضحًا أن هناك أحدًا يقرأ به، وبالتالي هناك محاولة لاغتيال الذاكرة، واغتيال الوعي، فهذا الدرس الكبير الذي تعلمته.
رسالة  من  أنيس محسن.
"مروان ابن المخيم وهو خارج المخيم، يردد وأردد معه حكمة شيخنا الأكبر، (ابن عربي) مكان بلا مكان، لا يعول عليه، والمكان هو المخيم، ليس لأنه المخيم، بل لأنه يعيد إلى المرجع الأصل فلسطين.
مرة قلت لمروان في لقاءاتنا غير السياسية أنت ترسم خطوط لوحاتك كما ترسم حبر رواياتك، عندما تمزج ألوانها، فتأتي الرواية صادقة وعميقة كوضوح اللون وعمقه، قلت للرفيق والصديق مروان: لماذا عنوان روايتك هو الزعتر الأخير؟ فالزعتر هو بحد ذاته الأول ويبقى لأنه لا آخر له."
انيس محسن
أشكر صديقي العزيز أنيس، وأعتقد أن لديه أيضًا ما يمكن أن يعطيه من إبداعات. بالنسبة لسؤاله: هناك التباس، فعن أي زعتر أكتب؟ عندما تقرأ الرواية تشعر أن هناك نوعين من الزعتر "زعتر وادي الحنداج" الذي هو في جليل فلسطين الذي عاش فيه البطل، وعاش راعيًا صغيرًا، ولم يكن معه مال فباع والده بندقيته، واشترى له ماعزًا لكن كان يشعر بأمان لا يضاهيه أمان. تمنى أن يكون ذات الزعتر الذي يبحث عنه. هو والماعز أن يكون الحب الأخير، وأيضاً ظروف الحياة كل تغريبة فلسطينية التي عاشها، وهي رحلتنا كلنا انتهت به إلى تل الزعتر، وهو تمنى ما حصل لهذا المخيم أن يكون الأخير، هو تذكره في هذه الرواية بكل تفاصيله حتى الفاشية منها، ولا يشكل بالنسبة له نستولوجيا، وهناك النستولوجيا الفاشية أحياناً تعيد التكرار، وتمنى أيضاً أن يكون الأخير.
أسئلة سريعة:
1- عماد الثقافة؟ المعرفة.
2- المبدع الشامل هو؟  المثقف الشامل.
3- الهوية؟ النضالية.
4- اللجوء؟ كفاح.
5- أكبر سلاح؟ القناعة.
6- صناعة الوعي؟ سلاح فتاك.
7- يضيع الوطن عندما؟ تضيع الذاكرة.
8- سأسعى إلى؟ تحرير فلسطين.
9- العودة؟ الحلم المنتظر.
10- لبنان بالنسبة لي هو؟ ابنها بالتبني.
11- أغلى ما في الحياة ؟ الوطن.
12- السياسة؟ فن المستحيل.
13- أحترم من؟ الذين ضحوا.
فسحة كلام .
اعجبت بحادثة الروائي العالمي غابرييل أغارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل، والروائي الكولومبي في أحد المرات طلبته مؤسسة أميركية لتكريمه، لكنهم رفضوا إعطاءه التأشيرة فكتب (إنهم أغبياء،  إنهم يدركون أن الجسد لا يسافر، أما الأفكار التي تسافر بدون. تأشيرة). هذا الكلام أخذني لطفولتي، ودائماً أكررها وأقولها: لم يكن لدينا لوح للكتابة، كنت دائماً أستخدم الكتابة في الهواء، فأكتب كل الدرس في الهواء، ثم لم أكن أعرف بأن هذه الكتابة لم تذهب من الهواء، صارت أبطالاً، وشخصياتٍ، وكتابات أعذرها، لأنها تعبر كل الحدود اكثر منّي، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من هؤلاء الأبطال.
تعرف عليهم أبناء فلسطين، على أرض فلسطين، فأحسد كل الأبطال من أبطال الروايات التي سبقتني ربما كان ذهابها مقدمة لي كي اتبعها إلى حيث يجب أن أكون..
المصدر :   برنامج "علمتني الحياة"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قلم أخضر

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء