قبل ان تنتصر ثقافة الحرب
مروان عبد العال
تعلن "ثورة الفرح" عن نفسها وسط الاهازيج التي تصدح بحناجر الشباب ، وتترك بصماتها الإنسانية في عمق تيار من جيل كامل، وكما يوجز (درويش) بقوله: "... وعلموك ان تحذر الفرح لأن خيانته قاسية"؛ لذلك تبقى غبطة مقيّدة بين إيجابية النبض الحي وسلبية ضغط الحدث، و دون حزمة الأفكار التي تطلقها " ثورة العقل " ، تظل الشوارع غير مكتملة إلا بتناقضاتها وأسئلتها الملتبسة والمفتوحة على كل الإحتمالات. في بئية ممتدة على عموم المنطقة. في كل بقعة لها لونها و عنوانها و مساراتها وما آلت إليه، فكانت النتيجة هذا المزيج من مشاعر التشاؤم والتفاؤل، وتكاد صورة الثقافة تكون غائمة في ضجيج و صخب الثورة. هذا المصطلح الذي خضع للتقريع والتمحيص والتشكيك ، لذلك المقصود هنا المعنى الواسع للثورة ، كمفهوم خارج التخصيص لحالة ما في هذا البلد او ذاك؛ لأن الثورة ووفق تعريفها تتحدد بالاستناد الى قوانينها الناظمة. لذلك ليس جديداً القول ان الثورة هي في الجوهر كسر للتقليد وتسريع للتطور وتحويل للمجتمع تحويلاُ ثورياُ. إذا كان هذا محل اتفاق وبديهي، فإن السؤال الثقافي هو المعني بتقديم الإجابة التي تؤسس للخطوات القادمة كونها فعلاً غير منجز بعد وترسم خارطة النضال الشعبي واتجاه التحوّل ومعيار التقدم المراد تحقيقه والتغيير المُركّب لشكل ومحتوى وبنية النظام الرأسمالي القائم والموازي والعميق وطغمته المالية، ارتباطاً بدائرة الصراع الاوسع مع الرأسمالية العالمية وادواتها واذنابها وسماسرتها ، وبأبعاده الجيوسياسية والاقتصادية.
المسألة محل الحديث في تناول دينامياتها الداخلية المتلازمة مع حركة الوعي، شرط ضروري في العملية الثورية، تواكبها موجة ثقافية معيارية غير معزولة عنها، والتي تحتاجها كثورة على الذات ، بمثابة جهاز للفحص الدقيق وفرز الاساسي من الثانوي والغث من السمين، كي لا يتم اسكات "ثورة العقل" تحت وطأة ضجيج "ثورة الفرح" التي تجسد دهشة الحدث والفعل المباشر فتسود اللازمة المعروفة : "لا صوت يعلو فوق صوت الحراك/الانتفاضة"، أي ان الأولوية للفعل وليس للرؤية ، وعليه تعطل آليات القراءة و النقد وتصويب للممارسات الخاطئة، وهو سيؤدي الى تحويل الصراع وتغيير الغايات التي شكلت انفجارها. فعندما تتأخر الأسئلة الموجهة لمسارها يؤثر على بيئتها، مثل التلهي الشكلي على المسمى قبل المعنى، هل هي حراك أم هبّة؟ انتفاضة أم ثورة؟ ثم إدخالها في ماكينة الاختبار الثوري عمّا قبلها وخلفها وبعدها؛ وان كانت فوضى داخلية أو مؤامرة خارجية؟ دون ان ننسى المقولة القانونية التي تقول "الخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في الإدانة"، وبغض النظر عن النوايا، إن كانت سوء نية أو حسن نية، لكنه جدل بلا طائل، قد يهدر الجهد والوقت ولزوم ما لا يلزم، وقد تكون غايتها لأحداث غيبوبة، تسهل على مهندسي الحرب الناعمة القدرة على السيطرة عليها وتوجيه حركتها، و والقوة النظيفة التي تمثل تياراً جديداً ، قد تجد نفسها تنساب موضوعياً في مجراها، دون قدرة على التحكم بمساراتها. لذلك لا بد من حراك ثقافي، واطلاق حوار تقويمي جاد، يبدأ من أسئلته الفكرية المتعلقة بكيفية حمايتها وتدعيم ركائزها وتحقيق أهداف جماهيرها، الذي يمنع اختطافها وإخمادها، بل يبقى المعضلة المفصلية الأهم: كيف نبنى ركائزها كي نجعلها تنتصر؟ السؤال الذي غيّب دائماً، لأسباب متنوعة، وسط حالة دائمة من اللهاث تحت ضغط اللحظة واللقطة وكي لا تضيع الفكرة في نشوة السكرة.
السؤال المحوري وبمناسبة الحدث اللبناني كسؤال مُعجّل مُكرّر، في تجارب متناقلة منذ بدايات الانتفاضات الشعبية ، من هو قائد الثورة؟ من يمثلها؟ وهكذا يدور الجدل حول الثورة والقيادة، وليس حول معنى القيادة وتصل الى ضرورة تحديد اسم شخص، وإن كان معلوماً أم مجهولاً؛ ويغيب الحديث عن القيادة كهيئة ناظمة تدير الفعل، وهي مسألة خلاف بين توجهات عدة، لكل توجّه حيثياته وخلفياته وغاياته. توجّه أول يقول: ان الثورة يجب ان تظل بلا قيادة، وعادة ما يقال بلا رأس، لأنها بذلك تكون أكثر فاعلية وحرية ومرونة من وجود قيادة، وبذريعة ان اختيار قيادة سيؤدي الى نشوب خلاف وهذا ليس وقته. وتوجّه ثاني: أن الأمر بدون رأس سيؤدي الى الفوضى، وكي لا يكون هناك من يدير الفاعليات في الغرف السرية كما يخمن بعض المشاركين فيها، يجب ان يكون هناك قيادة بعدة رؤوس، وهي تذّكرنا بالتنسيقيات في "الثورات العربية". وتوجّه ثالث: ينادي بقيادة في الثورة وليس للثورة! تخوفاً من الافتقاد الى قيادة، حتى يصبح الشارع كسيولة جاهزة بمسارب متعددة ينساب في جيوب الآخرين، بل يضرب مقومات ومفهوم ومآلات أي حركة او انتفاضة والثورة مسبقاً، حينما يفصل بشكل ارادي بين جسدها وعقلها. ومن الاهمية معرفة ان من يسعى الى رفض قيادة لها، هو ذاته يعمل بشكل مُمنهج على خلق رموز جديدة ، يتم تصنيعها اعلامياً ونفسياً وسياسياً، تحت مسميات التكنوقراطية والأكاديمية والعصرية، فالكارثة ليس اذا كانت الثورة بدون رأس فحسب، وهذا يؤكد أن المسألة ليست برأس أو بدون أو عدة رؤوس، انما الدفع نحو انتصار الفراغ ، ريثما تأتي قيادة مسبقة الصنع كي تملأه .
حتى لا تقوم بإحتلال القيادة! أي مصادرة قرارها، لذلك تصبح مهمة بناء قيادة ليس لها رأس بل لها عقل، أساسه رؤية واستراتيجية وهدف! قيادة ليس بالضرورة ان يعلن عن اسمائها بل ان تعرف وظيفتها، بجبهة واسعة وطنية للتغيير وتعلن عن برنامجها، قيادة موحدة جماعية متبلورة ومتسلحة بالارادة، وبالمدى الثقافي الذي يؤهلها أن تقود، وان تضبط الغرائز السياسية وعقلنة الانفعالات العاطفية؛ ولا مغالاة في الاعتراف ان الأفكار تنفجر اليوم بتناقضاتها من موقع الذاكرة الغير محايدة، التي تراقب بحب حذر لساحات وميادين التظاهرات وفي ذات الوقت ذاكرة استرجاعية، لكل الصور القديمة العالقة في ألبومات محروقة، فتختلط مع دمار واتربة ورماد وانفجارات وان كانت البداية رقصات وصرخات وزغاريد. مرت من هنا، تورايخ سوداء، لم تعد حصرية لبيروت بل جربت في عواصم ومدن عربية شتى، لا زالت تحري فصولها ونشتم رائحة ترابها المجبول بالقذائف العشوائية والرصاص العبثي والموت المجاني والقتل على الهوية.
كون الانتفاصات الشعبية تنطلق بشكل عفوي فهذا يؤكد مصداقيتها ولا ينفي شرعيتها، بل هو عمل جنيني يسبق أي ثورة! لكن انتصارها يحتاج للتنظيم، فالتنظيم يضاعف القوة. ويستثمر كافة الطاقات الكامنة، انما عكس المعادلة التي تقول أن قوة الانتفاضة في عفويتها، هنا يكمن مقتلها بتقديس العفوية. والتي ذهبت الى حدد تبرير الفوضوية بحجة العفوية من جهة، او بان الغضب الشعبي يستطيع فعل ما يشاء، انه تمرد مشروع على الجميع، مستنداً الى انتفاضة السترات الصفراء في باريس، او حتى الي الثورة الطلابية عام 1968م: "ممنوع أن تَمنع". أي ان تكون حراً بلا حدود او حتى الى حد الفلتان، تعززت في اذهانهم ثقافة المليشيا، أي ان لا فرق أبداً بين الثورة والفوضى! ولا فرق بين تحطيم المرافق والمنشآت العامة واسقاط نظام الفساد. او قطع التواصل والطرق وكل ما بستعيد فكرة ال"غيتو". وتصبح السياسة العفوية وسيلة انتقامية من التنظيم السياسي، واعتماد "اللاسلطوية" كنهج يرفض سلطة أي نظام او حزب، سياسي كان أو إجتماعي، هناك من يعتبر ان المطالبة بالتنظيم يعني سيطرة الأحزاب على الانتفاضة، فالعفوية عموماً انكفأت تلقائيــاً لمصلحة أدوات وكتل حزبية. ودائماً كانت الصيغ الحزبية تعزز من تنطيمها ولكن غالباً على حساب جماهيريتها واحياناً عن بعدها العفوي التمردي. هناك أهمية لحضور لغة التمرد في الانفجارات الشعبية، مثل مادة الاشتعال الذي يمدها بالوقود المعنوي، ولكن المسألة في توجيه التمرد وإدارة الغضب، والذي يقود هو الأكثر قدرة وتنظيماً ، فالمطالبة بالتنظيم لا يعني طغيان الحزبية، بل إدارة صراع مُركب وذكي ومديد ، ضمن معادلة النوعية والكمية،والحزبية والجماهيرية والتنظيم والعفوية؛ والعجز عن ذلك هو استسلام لثقافة الحروب ومافيا السلطة والثورة المضادة التي تشد المجري العفوي الى حيث تريد. دائماً تستند الثورات المضادة على مراكمة الخطأ لتدمير الفعل الصحيح، هكذا قالت التجربة، الحركات الفطرية والحالمة للجماهير والتي عادةً تبدأ على أساس هجومي، بالمطالب الاجتماعية والحياتية والسياسية كالمطالبة بالدولة المدنية الحديثة والعصرية. ثم سرعان تعود أدراجها الى الموقع الدفاعي، و بالمطالبة بالحريات بعد تقييد الحريات من قِبل النظام والتضييق على المفكرين وأهل الأدب والسياسة بحجة حفظ الأمن ومنع الفوضى والفلتان والسلم الأهلي.
يحكى عن ذاكرة السمك التي تجعل الضحية تعود لابتلاع الطعم ذاته عدة مرات، ذاكرة اقل من ربع دقيقة، لهذا تبتلع الطعم وتكرر الأخطاء ذاتها ليس بسبب الاصابة بداء النسيان او الخَرَف المزمن بل لأن تكرار الاخطاء وعدم الاتعاظ من التجارب والانكسارات والهزائم. هكذا هم أصحاب ذاكرة السمك الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يعيدوه أكثر من مرة. وأن يلدغوا من ذات الجحر ألف مرة. اذكر في الأشهر الماضية وعلى سبيل المثال عن مسؤول حكومي لبناني، علّق على تحركات المخيمات الفلسطينية ضد إجراءات وزارة العمل اللبنانية قال: لماذا تستعيدون أجواء الحرب الأهلية اللبنانية؟ فكانت الاجابة: الذي يحرص على عدم استعادة أجواء الحرب، عليه ألاّ يستعيد هو الثقافة التي شكلت بيئة الحرب الاهلية. فالحرب تبدأ عندما تنتصر ثقافتها، حتى لا يكرر التاريخ نفسه، وفق عبارة ماركس الشهيرة: "التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة". وهذا ليس مشروطاً فقط بالنوايا الحسنة أو بالطموح الجامح للتغيير أو بالعفوية الصادقة. وعدم الاستخفاف بكل تحذير بإعتبار تهويل وترهيب مقصود، وبالقول الجاهز هذه الأيام "لا تخوفونا من الحرب الاهلية"! وفي أمكنة أخرى وبكل استهتار يقال: " نحن لا نخاف الفوضى"، فالذاكرة تظل طرية وموجعة بوحي من موجات الدخان والصخب والالوان التي تملأ الشاشات، رغم شغف وتجاربها الغنية وخاصة بيروت ومعاناتها ليس فقط من تداعيات الحرب الطبقية، بل للفصول الثقيلة من حروب التفتيت والتجزأة والكراهية، نموذجاً لما جاء بعدها، وان تعوّض أنكسارها باستدعاء عطرها الباريسي إلى ميادين انيقة مستعادة ومضاءة وراقصة، فتتحول الثورة الى اثارة وفرح ، تشتعل بالألوان البراقة على الطريقة افتتاح المهرجانات الاولمبيادية!
ثمة ذاكرة مستعادة من مخاض ثوري ساخن يكتوي باللغة والخطاب والهتاف، يشق زمن الحرب التي إكتوبنا بها، فقد كانت يوماً ما ساحات الحرب، التي عادة يذكرها اللبناني بالقول (تنذكر ما تنعاد). لكن محاربة الشيطان لا يكون بكثرة التّعوّذ منه! الثقافة جمرة المقاومة والثورة الشعبية و لا يخمدها شيء أكثر من ثقافة الحرب الاهلية، كما انتصار "ثورة فرح" يكون بثورة العقل والابداع والتجديد، بأسلحة الوعي الشامل من فكر و فن وادب ومسرح وموسيقى ورسم وتربية وانشطة متنوعة ترفع المناعة الوطنية في وجه الآفات المذهبية والجهوية والفئوية ، دروس الماضي والحاضر والتي لم تكن مجانية على أي حال!
تعليقات
إرسال تعليق