أوكسجين فلسطين

 

 

بقلم : كاظم الموسوي

 

رواية “أوكسجين”, وهذا عنوانها، هي الرواية التاسعة لمروان عبد العال، صدرت عن دار الفارابي، بيروت تموز/ يوليو 2019، وقد صدرت روايته الأولى، سفر أيوب، 2002 عن دار كنعان، دمشق، وصدرت له عن دار الفارابي، الروايات; زهرة الطين، 2006 ، حاسة هاربة ،2008 جفرا.. لغاية في نفسها، 2010، ايفان الفلسطيني، 2011 ، شيرديل الثاني 2013 و60 مليون زهرة2016 ،، والزعتر الأخير، .2017 والروائي مروان عبد العال، عربي فلسطيني، مقيم في لبنان، ومناضل سياسي، وفنان تشكيلي، له إسهامات أدبية وسياسية وفكرية واجتماعية وفنية وثقافية. وحاز كما سجل على الغلاف الخلفي للرواية، عدة أوسمة وميداليات وجوائز منها جائزة القدس للثقافة والإبداع، عام2017 ، وفي هذا الكم الإبداعي يوضع في صف أبرز المبدعين العرب في الرواية والفن وفي الثقافة المقاومة.

رواياته تسجل الهم الفلسطيني، أبطالها وأجواؤها وسطورها تنقل ما يعيشه الفلسطيني ويكابده في حياته، وتمسكه بهويته، التي تحاول الروايات والإبداع الفلسطيني عموما عكسها في صفحات ومسميات الإبداع، من النص الأدبي، في الشعر والقصائد والتشكيل والمسرح والغناء والرقص والفلكور الشعبي وإلى العروض والمتاحف ونتاجات الثقافة المتنوعة الأخرى. ومن عناوين روايات مروان يتأكد القارئ مما ذكرت، فهو كاتب رواية الفلسطيني في تغريبته، داخل فلسطين وخارجها. صمود الفلسطيني في إبقاء قضيته العادلة أمام النص والمشهد والعالم. أي أنه الراوي لقضية شعبه، والقاص لعدالتها، والأمين على الذاكرة الحية المروية في الكلمات والخيال والواقع والحلم والمعاناة والألم والقسوة والعذاب والحب والأمل، وبالتالي سجل هويتها ولسان الحال في الثوابت والخيبات، النكسات والانتصارات.

يبقى الأسلوب والعتبات التي ينص عليها الكاتب ويبدع فيها، وهو ما تنوع الروائي مروان عبد العال فيها خلال نصوصه الروائية المتتالية، مستخدما أساليب متعددة وموظفا فيها قدرة سردية ولغة روائية متصاعدة في الأثر والتأثير لدى القارئ والنص السردي. كما أن محاولات الروائي استمرارية التدفق السردي والنص على البطل أو المكان والزمان الذي يعيشه، متنقلا بينه في عتبات روائية تعكس تواصل القص والحكايات والمشهد والدلالات، مبقيا وهج القضية الفلسطينية في النص والسرد وشروط الرواية الفنية والغنية في لقطات دالة ومعبرة. مستعينا بأساليب سردية متنقلة بين الواقعية والسحرية والخيال المكثف للصورة والحكاية والذاكرة والسيرة للبطل أو الأبطال في صفحات الرواية. متعمقا في رواية حداثية فنيا ومبدعة في صورها المتشظية والمركبة والمعبرة في دلالاتها ونهاياتها التي تنطلق من عتبة الغلاف الخارجي وتواليها داخل النص السردي، حيث صورة لوحته الفنية تضيف إلى النص هم الفلسطيني اللاجئ والأمل في استمرار الحياة في الطبيعة ورمزها الورد، لوحة الغلاف الزيتية لفتاة تنظر إلى زهرة زرقاء.

ينتقل الروائي في هذه الرواية إلى بلد عربي آخر، إلى تونس، وسرد قصة فلسطينيين فيه، أو حياة اللاجئين واستمرار معاناتهم وهمومهم ورغباتهم وذكرياتهم وخيباتهم وآمالهم، بين وطنهم الأول وانتقالاتهم أو مهاجرهم وما واجهوه فيها، خلال الغور في مراجعات ومواجهات. وقص صور واقعية عن مكابدة اللاجئين الفلسطينيين أينما حلوا أو أقاموا أو ارتحلوا، مطعما بسرد فني يتلون بين هلوسة وخيال عبر اصطدام بصخرة الواقع.

الشخصيات الرئيسية في “أوكسجين” تعبر عن حياة الفلسطينيين، مرددة اسم “حياة” في المكان والخيال والحب والأحلام. فاسم الملجأ أو المأوى في تونس، “جنة الحياة”، وللاسم مدلوله وانعكاساته في سيرة البطل وأمثاله، واسم حبيبته الأولى “حياة” التي توفيت في مدينته الأولى في فلسطين، وكنيته “أبو حياة”، وتراكمت عذاباته في افتقاده الوثائق المطلوبة التي تخنق حياته، كما يحصل للشخصيات التي تشاركه المكان، أو التي التقت به هنا، في تونس، وخلفها تاريخ فلسطين، قبل النكبة وبعدها وإلى النكسة وتداعياتها، تغريبة الفلسطيني المستمرة. ورغم العنوان وروتين المكان يختنق الجو، بفقد الأوكسجين، الذي يتحول إلى كابوس جديد آخر، برمزه وواقعه، وموقعه السردي.

يصبح البحث عن الأوكسجين معادلا للبحث عن وطن، وأي وطن للفلسطيني، غير فلسطين، أينما وجد، في المنفى الخارجي أو الداخلي. يتكرر أمامه المشهد بكل تلاوينه الصارخة. ويتساءل الروائي على لسان أحد أبطاله: ما قيمة الكون دون أوكسجين؟ وما الحرية بلا وطن؟ الحرية ناقصة بلا جغرافيا الوطن، كلما تمسكت بالوطن زادت قيمة الحرية للإنسان والوطن معا، حاجة الوطن إلى الحرية كحاجة الإنسان إلى الأوكسجين (ص(186. ويسرد الروائي عبر أبطاله ما يريد أن يصل إليه في الرواية، مؤكدا على الانتماء الوطني وما تعيشه القضية، برمزيتها أو بمعادلاتها السردية، فمأوى جنة الحياة، الذي ابتدأت الرواية به، يتقرر غلقه وتحويله إلى سجن متطور للأحداث، في خاتمة الرواية، بسبب انتهاء التمويل المرصود له، وتفاقم أزمة هجرة جديدة تشهدها أوروبا، والضغط على الدول للتعاون في موضوع اللجوء والهجرة. ويختنق المكان بفقد الأوكسجين. مسجلا ما يريد للنص أن يصل إليه، فيكتب: “تمر في الحياة إشارات لا يمكن طردها من الحياة بل تحويلها إلى خيال، تتوالد من جديد في حياة محام مخضرم صار يحمل اسم “أبو حياة” (ص110 )، لتبدأ مرحلة أخرى، تبدأ بتحطيم السجن والتفكير بحياة جديدة، باوكسجين كامل. “أول انتصار تفاخر به الثورات الشعبية عادة، لذلك كسر القيد هو المهمة الأولى لأي حركة شعبية، نظرا لأنه رمز للقمع ونقيض الحرية”، (ص 200) ومن بينها ما ختم الروائي به الرواية على لسان بطل فيها:”.. وعاد يسأل حائرا: أين أنا؟ ولم أتيت إلى هنا؟ أو حتى… من أنا؟؟! “وجملته الأخيرة”: وتنهد هامسا: أوكسجين… هذا كل ما ينقصنا…!

رواية “أوكسجين”، استمرار لإبداع الروائي، تواصلت بجمل رشيقة سلسة انسيابية تدعم موضوعها في الإبداع الفني، الواقعي، وتطور في أساليب الحوار والمشاهد المسرحية واللقطات السينمائية المتتالية في النص الواحد، أو الضربات التشكيلية لألوان اللوحة، كما في لوحة الغلاف التي أضافها الروائي لروايته. جامعا فيها قدراته السردية، والتشكيلية، والنضالية السياسية والتعبير عن تطور القضية الفلسطينية وتحدياتها المتصاعدة. لتكون الرواية “أوكسجين” صورة للفلسطيني الباحث عن أوكسجين فلسطين، كملاذ حقيقي، لقضيته وهدفه، وكرامته، وحريته، وإنسانيته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر