إسم عن إسم بفرق أيضاً

غسان كنفاني


إسم عن إسم بفرق أيضاً



بقلم : مروان عبد العال

لرواية غسان كنفاني " عائد الى حيفا" طعم أخر عندما تولد بعد ثمانية وثلاثون عاما على رحيله. في ظل إزدحام الكلام عن اللجوء وأثمانه على الانسان وحملة الموضة السائدة ضد التوطين وهواجس الهوية. لتبدو ذاك التلازم بين خط "دوف" الذي كان أسمه خلدون عندما ترك طفلا في مهده أثر حرب عام 1948 .وخط اللاجئ " عرب" الذي صار أسمه "أيفان". لما عاد سعيد بطل الرواية مع زوجته صفية كي يتفقد بيته في حيفا، ليبدأ حوار مع ابنه خلدون عندها اكتشف أنه أصبح مجندا في جيش الدفاع الاسرائيلي . عن معنى الوطن والهوية وأن الانسان في نهاية الامر قضية. وهو السؤال ذاته الذي حضر في أخر نسخة من كلفة اللجوء مع صديقي " أيفان" وبينهما وقائع جديدة وتحولات وأمكنة وأزمنة مختلفة ولكل أسبابه المتعددة.

مثل تلك المرارة المجبولة بالخيبة، أنتظر المفاجأة ذاتها، التي كتبها غسان كنفاني في روايته عائد الى حيفا، عندما أدرك أن الطفل الذي بقي منسيا في البيت عند وقوع النكبة كان أسمه خلدون وصار " دوف". وأن الشخص الذي انتظرته في الفندق، بدل اسمه بمعرفته وليس بارادته كما قال، وهو غير "دوف" الذي أعطوه اسمه مرغما يوم كان صغيرا وترعرع في كنف عائلة يهودية وصار جنديا في جيش الدفاع الاسرائيلي، كما تقول رواية عائد الى حيفا.

"أي خلدون يا صفية؟ أي خلدون؟ أي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش.. ثم تقولين: خيار عادل! إن خلدون، أو دوف، أو الشيطان إن شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضى. انتهى الأمر. سرقوه".

سرقوه.... هكذا قالها سعيد بحسرة في عائد الى حيفا.... لكن مفاجأتي أن أيفان المنتظر هذا، هو ليس ذاك المعروف بالرهيب، وليس شابا المانيا، كما اعتقدت، أنه صديق من المخيم أسمه "عرب"، كنا زملاء في الزقاق والمدرسة اطفال زمن اخترعناها في حدود الرواق السري، عندما استفقنا من غفلة زمن غليظ، في حضن مكان أليف، يتكور كجنين من طين، يتحول الى بيت مهما يكبر لن يتحول الى وطن، الخيمة مهما كبر عامودها ستبقى خيمة، ونحن نفتقد الى موطئ قدم كي نسابق عظمة الاحلام. يومها كان شاباً وأختفى في مواسم الهجرة الى المانيا. في رأسي حضر ذات المشهد في رواية غسان.

"تعال يا دوف، يوجد ضيوف يرغبون برؤيتك".

وانفتح الباب بشيء من البطء، ولأول وهلة لم يصدق، فقد كان الضوء عند الباب باهتاً، ولكن الرجل الطويل القامة خطا إلى الأمام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبعته بيده.

وقفز سعيد واقفاً كأن تياراً كهربائياً قذفه عن المقعد، ونظر نحو ميريام وهو يقول بصوت متوتر:

ـ "هذه هى المفاجأة؟ أهذه هى المفاجأة التى أردت منا انتظارها؟".

نظرت بوجه عرب أو أيفان، مدركاً انك لن تستطيع أن تكون بطلاً أو اسما ما لم تعيد قراءة نفسك ولو خارج الرواية حتى تخلقها وتحيا وتحلم. ومرغما تفتح نافذة الاسئلة من السطر الاول الى لغز الاسم الجديد، كيف ؟ ولماذا؟ تستهجن وتهيج وتبرر.

في الحارة الساحلية، آخر بيت على حافة الشارع، حيث تفصل عيادة الانروا بينه وبين رمل الشاطئ، والطفل يجفل من اقتحام الريح وطعمه المالح، وان كان يسامراجفانه، يداعب خياله في هسهسة ليلية يعزفها فوق وسادته كي يغط في نوم يضبط على منبه يقرع مع آذان الفجر، والبحر يرمي امواجه، مطمئنا وديعا تحت أبط الدنيا.

"عرب" الولد الأسمر، بعينين تكتحل بالسواد، وبشعره الفحمي الداكن، يسوح بخصلة تتدلى على يمين الوجه. تصدح قهقاته الساخرة، فتخترق جدار المدرسة، يفيض بالنكات والقصص والنوادر والأغاني.

كرسي القش الصغير، شاهد صامت على ضجيج الازقة المعتمة، وفي الزاوية الرمادية الحادة التي احتجزت نصف الزاروب كي تصير ملحمة، تقبع على طرف باب سوق الخضار، يستخدم السكين الصغيرة في تشقيف اللحم فوق طاولة خشبية، ويدندن كي يؤنس وحدته راقصا، وينتظر حضور المصغي النجيب، كي يروي على مسامعه نزوات المراهقة الشقية والشيقة أيضا، ومغامرات ممتعة في سيرة أول الحب، متباهيا بأن خط شاربيه بدأ بالظهور، معلنا موسمه الشبابي، هناك مرآة بحجم الكف معلقة على زاوية الحائط. يرمقها رافعا غرته للاعلى كلما كانت في مرمى النظر، ويلقى بانفاسه على جمال نسائي معلق امام ناظريه، على جدار يحتفل بميلانه، وبصور مقصوصة من مجلات الفن، وبشغف للتصوير والتمثيل والغناء..

تربى هنا تحت الزينكو في زواريب المخيم، ولم تربه مريام ولا أيفرت، ولكنه أنتهى الى دوف!

"أنا لم اعرف ان ميريام وايفرات ليسا والدى إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغرى وأنا يهودى. اذهب إلى الكنيس والى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية. وحين قالا لى ـ بعد ذلك ـ أن والدى الأصليين هما عربيان، لم يتغير أى شيء. لا، لم يتغير. ذلك شيء مؤكد.. إن الإنسان هو فى نهاية الأمر قضية".".

أنت لست أيفان القديم ولا الجديد، أنت عرب الحقيقي الذي تغير في كل مرة فكيف يكون خارج اسمه؟ يعني ماذا نسميه؟ اسمه أيضا قضية.... هو صراع على الأسم كما المعنى.

يوم كان يساعد والده في الدكان، لم يجرؤ ان يبالغ بمزيد من صور الاغراء، حتى لا تكشحها سكين الوالد الوقور، يدمن الحركة في مسرح سردابي يسمى الملحمة، لا يكاد ان يتسع لشخصين، اضيق من سرير نوم مزدوج، يستطيع الزبون ان ينحشر معه في مساحة ضيقة وان كانت أمرأة ، فتكتفي بالوقوف خارجا وتتناول البضاعة من الشباك.

عزف وخبيط منظم تتناوب في الحانه سن السكاكين وتبديلها بطريقة تقنية في تنعيم عالسكين أو فرم القطعة رأس عصفور حسب رغبة الشاري، ويردد مع الكاسيت الذي يدور في مسجلة صغيرة أغنية "زاي الهوى يا حبيبي..." مع المطرب عبد الحليم حافظ قبل أن يرمي ما بين يديه على كف الميزان.

طقوس يمارسها "عرب" في ايام الضجر. يخرج من عباءة الملل نحو البلاطة الخارجية للملحمة. ذكرني كيف كان يردد مع فيروز أغنية:" صرلي شي مية سنه مشلوح بهالدكان عافتني الحيطان". ولأن قضية الاسم المستعار بقيت تحتل عقلي... أتمتم أغنية "أسامينا... شو تعبو أهالينا".

"وسأل نفسه فجأة: ما هو الوطن؟ وابتسم بمرارة، وأسقط نفسه، كما يسقط الشيء فى مقعده، وكانت صفية تنظر إليه قلقة، وتفتح فى وجهه عينين متسائلتين، وعندها فقط خطر له أن يشاركها فى الأمر، فسألها:

ـ "ما هو الوطن؟"

وارتدت إلى الوراء مندهشة وهى تنظر إليه كمن لا يصدق ما سمع، ثم سألته برقة يكتنفها الشك:

ـ "ماذا قلت؟".

ـ " سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسى ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا فى هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟ إننى أسأل فقط".

"دياسبورا" ليست الوطن ولا حتى الخيمه التي نلتحفها من السلك الى السلك، الوطن لا يحده الاسلاك، يضيق السرير اكثر كلما كبرنا، فيكتب سيناريو جديد لغربة أشد مضاضة. كان الهوس بالصورة الى درجة الدخول في الصورة. وحينما تتلون الصورة وينظر "عرب" في نفسه، ليشاهد صورة "عربسيك"، يظنها نفسه، ترف جفنيه كي تصحو ثانية في بيت قديم، وترتعش الرجولة فيستعيد داخلي، ذاك الشريك الذي وصل الى مرتبة أعز الاصدقاء، مراهقا يتأتئ في مرآة نفسه. وكي يطيب لنا أن نلتقي في الزاوية الحادة وباسم جديد في ساحة مدينة غريبة في غربة يصر على أنها قسرية. في الاسم غربة جديدة.

( أما بالنسبة لي فأنا هنا بعد انهيار جدار الشرق لندخل في جدران الغرب، تغير الكثير من تفاصيل حياتنا، فلا الرفيق ولا الصديق ولا من يريد تغيير العالم أصبح موجوداً، والجميع تحول الى ماكينات تعمل 8 ساعات في اليوم، وربما لهذا السبب أشعلت تلك الصورة في داخلي بركاناً خامداً ظننت أنه خرج من الخدمة.

بعد تنقلي في محطات التلفزة الألمانية حطت بي الرحال في القسم العربي لمحطة" دويتشه فيلله")

خاطبته قائلا: إسمنا ليس صورة وليس مرآه نكسرها إن لم تعجبنا الصورة، إنها هويتنا وأنت "عرب" لست "إيفان" البتة...."

وعاد فنظر إلى (دوف) وبدا له مستحيلا تماما أن يكون هذا الشاب من صلب تلك المرأة"

وانا أقول: أنت من صلب ذاك الوالد الذي إعتمر العقال وعبس في وجهك كي تكون رجلأ، وحدثك عن الجليل وأيام الحصاد والبيادر، بأي حق تلغي أسمه بجرة قلم، من أجبرك؟ رد فورا:" نعم أجبرت. ثم صمت، وأكمل: السبب نظرة الريبه والاتهام والشك. كلما تصادفت بواحد هنا وقلت اسمي عرب ينزع يده من يدي وخاصة بعد حادثة 11 سبتمبر. صار العربي متهما. كل العرب. فكيف بعرب فلسطيني مثلي. حتى المطارات العربيه. نعم العربيه يا صديقي في تونس مثلا، زرتها موفدا من الاذاعة الالمانية وانا احمل الجنسية الالمانية. ولكن عندما قرأ الامن أسمي قلت عن حقيقة هويتي بصراحة. فكان التعاطي مختلف عن الذين يحملون أسماء أجنبية. الان وباسم أيفان نلت أحتراما أكثر."

مثل كل اترابك في القريب الذي هو بعيد والبعيد الذي هو أبعد أن تكون بغير أسمك كأنك بلا رواية، معزولا في دهليز "الدياسبورا" تنتفى الذات، لا تكلف نفسك عناء الاختباء وراء الأسم، لذنب الغياب وربما تصير انت الممنوع وحين لا تقوى على ان تشهر الاقامة، انك خلف الوقت تبحث في الساعة عن عقاربها، كي تمنحك اجازة مرور. الزمن يتحكم بجرعة الشوق في رئتيك. المكان يحلق بعيداً وشبح الحكاية يحوم فيه، كأنك تفرط بالغضب وبما تبقى من الفرح. تدخن بشراهة وتعطي نكهة الايام الخوالي كأسا آخراً من الحب القرمزي المشتعل من قلب واحد.

"هذا هو الوطن"، قالها لنفسه وهو يبتسم، ثم التفت نحو زوجته:

ـ "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

هل عرفت ما هو الوطن يا صديقي؟ خذ وقتك كافيا للأجابة وستردد مع العائد الى حيفا ذات الجواب، نعم "الا يحدث ذلك كله" من حياة مليئة بالمعنى، يوم تترك لي ابتسامه خاصة في مواجهة دمعة مواربة، مازالت تتلكأ في العين ولم تسقط بعد ، يوم وجدت نفسك في حالة جدار... قصة مزمنة من قيد الجدارات، كي تنشطر هائما بين جدارين، تحمل حقيبتك، تلملم داخلها كل الاراجيح الطفوليه، ستصدق نبوءة غسان وكأنك تهتف لي بلسان بطل عائد الى حيفا عندما " قال سعيد:

ـ "ليس ثمة ما يقال. بالنسبة لك ربما كان الأمر كله حدثا سيئ الحظ، ولكن التاريخ ليس كذلك، ونحن حين جئنا هنا كنا نعاكسه، وكذلك، أعترف لك، حين تركنا حيفا، إلا أن ذلك كله شيء مؤقت. أتعرفين شيئا يا سيدتي؟ يبدو لى أن كل فلسطينى سيدفع ثمنا، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم، وأعرف الآن أننى أنا الآخر دفعت ابناً بصورة غريبة، ولكننى دفعته ثمنا.. ذلك كان حصتى الأولى، وهذا شيء سيصعب شرحه".

لأن كل فلسطيني سيدفع ثمن الشتات وانت دفعت الثمن بأن انتحلت اسما غير اسمك، شطبته بجرة قلم، ولأي سبب؟ حتى يحترمك الاخر... وهل احترمك أكثر؟ هي أخر حصة من طعم اللجوء التي تلوكها غربتك. نضرس من حصرم لم نأكله، أعرف بأنك ربما تستطيع أن تزور فلسطين باسمك الجديد" أيفان الالماني"، لكنك لن تستطع العودة اليها الا بأسمك الاصيل" عرب" الفلسطيني.

في لحظة عشق تستنفر كل الاساطير المختبأة في كيانك، ستقاتل لاستعادة اسمك أيضا وتفتح صفحات من تاريخ الضياع، أسماء نحملها ونحميها من خناجر الغير ومن طعنة الذات لذاتها، قهرا او قسرا. فأسماؤنا هي بذور أحلامنا وقد تنبت في موسم واحد وتخرج دفعة واحدة عن بكرة ابيها. لتعلن للتو، بأننا على وعد "العائد الى حيفا" أن الظلم هو ألاب الشرعي لدوف وأيفان وغيرهم، وأن" دوف" يعلن هزيمته، لحظة التوقف عن التناسل فينا او حتى للولادة من جديد داخلنا، مدركا أن الانتصار على الظلم هي فرصته كي يستعيد خلدون مرغما من وصية غسان كنفاني عندما طلب العائد سعيد من ابنه خالد أن يبقى يحمل سؤال الذكرى ومقاوما من أجل المستقبل.

"دوف" لم يتماهَ من جديد في شكل "ايفان"، ينزع اسمه القناع عندما تحترمه المطارات العربية، وربما تلغى حدود الأسم بين عرب وعرب. وتبقى أنت "عرب" الغير قابل للصرف، أو إحالة الاسم للتقاعد أو حتى اخراج الهوية من الخدمة العربية، فاسمك الوحيد يدلني عليك، واسم عن اسم بفرق أيضا. كي تعود أنت الى نفسك تعود حيفا فيك فنعود اليها وتعود إلينا، وحتى لا ندعهم يسرقون أسماءنا، ستبقى "عربَ" حتى آخر رمق وان طال دهليز السفر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كنفاني المثقف يستعيد نفسه

قراءة انطباعية في رواية جفرا والبحث في البقاء

قلم أخضر