محمد الزيات وقصة لوركا القومي العربي
أجمل المساءات للتلاقي الجميل بين جدارة المنبر الثقافي الرفيع منتدى الفكر والأدب بمدينة صور في ذكراه العاشرة ، وجدارة الصرح التربوي العريق في المدرسة الجعفرية ، من رعيل جديره به تلك الابجديات الاولى لقداسة النضال الذي وسم سماء المدينة كسحابة ثقيلة بالتجربة وإن مضت على عجل .
مساء الفتى الجنوبي ، لوركا القومي العربي المتمرد ، حتى يوقظ فينا بعض من أحلامه المكدسة بين ضفتي التاريخ والتراب ، الممتد بين اضلاع الأرض كالجداول ورغم كل سنوات اليباب لكن العشب لا يزال نضرا ينبت بين أصابعه. يلوح بقبضته البيضاء فوق رؤوسنا، آنذاك، كانت السماء ازهى ألوانا مما هي الآن ، محمد الزيات المحارب الشاب المزهو على قلب حلم واحد وبين حالمين كبيرين جورج حبش ووديع حداد .
" هذا الشاب قصة كبيرة " هكذا هتف جورج حبش منذ اللقاء الاول به ، قصة كبيرة في حياة لم يتجاوز فيها الثلاثين عاماً ، لكنها صاخبة كمقطوعة موسيقية جامحة ، تعزف بكل ألحان النضال وألوانه ، مواصفات قيادية ، وقدرة نقابية ، عقل تنظيمي، روح قتالية ، شخصية متميزة ، يقبض على كل حلقات النضال كقوس قزح ويشد جدائلها إليه كي لا تفلت منه ، لذا لا زلنا نغرف منها و نعود نحن إليها حين يأذن لنا ولو مؤقتا .
الشاب القصة الكبيرة المشبعة برحيق التاريخ ، قصة لم تتوقف في مدينة تستريح على طريق توابل العشق القديم وعلى وجع النكبة عام 1948ويظل أسمها العربي الفصيح وفي كل الفصول " فلسطين " تكبر القصة بحجم قلب مدينة صور ، الذي يخفق على الوتر البري الاخضر ببساطة فلاح يزرع ويقاوم وتقدم قرابين على مذبح الحرية والعروبة فكان : معن حلاوي ومحمد قاسم وابراهيم سلامة ، وتداعب الشريان البحري الأزرق الممتد على افق مالح كدمع برتقالها الحزين. وفوق شفاه الجرح الطازج في الخمسينات كان قنديل لوركا يكتب السيرة القصّية بشغف وطهر وزخم المقاومة الشعبية في المدينة . " وجدت نفسي امام شاب يمتلك مواصفات قيادية عالية جدا انتابني احساس ان هذا الشاب الذي سيشكل قصة بكل معنى الكلمة حملت فعلا وبموضوعية شخصية جيفارية استثنائية "...هكذا وصفه الحكيم وأضاف" ولكن رحيله العاجل سبق نية اعلانه مؤسسا في حركة القوميين العرب ."
القائد محمد الزيات لم يكن قائدا سياسيا كما يظن البعض بل كان قائدا ثوريا بأمتياز ،"شخصية جيفارية استثنائية " لم يكن يناضل لشخصه لمنصب او زعامة او لمكانة ولا لزمنه الخاص، بل يدرك توارث الاجيال "زرعوا فاكلنا نزرع فيأكلون" وان التغيير يبدأ باحداث نقلة بالوعي ، بالعلم والمعرفة مدركا ان السياسة بلا ثقافة تكون جسدا بلا روح ، وفي عرينه الرياضي والثقافي والقومي العربي يخوض في نادي التضامن دروس في محو الامية والمعارك النقابية الى استضفة الشخصيات الفكرية والشعرية والكفاحية والثقافية من بدر شاكر السياب، جورج حبش، وديع حداد، جوزف مغيزل، كلوفيس مقصود، شكر الله حداد وغيرهم . هكذا صار لاعب كرة القدم في «نادي التضامن»، محاضرا في المخيمات الفلسطينية لنشر الوعي القومي ، ضد الاستعمار القديم والجديد وضد الاحتلال الامريكي والمنادين بالوحدة زمن عبد الناصر ، وكما نعلم انه في عام1960 ترشّـــح الشابّ الكاريزميّ منفرداً بقرار من الحركة ، الكل ضد محمد الزيات من العائلات التقليدية النافذة وقتها ومع ذلك نال أربعة آلاف صوت. هناك في نادي التضامن في الغرفة الصغيرة الجانبية يجلس من يشرف شخصيا على الحملة الانتخابية كان ذلك الشاب القائد د. وديع حداد .
القصة الكبيرة في اجتراح الرمزية التاريخية لا الاكتفاء في الاتكاء عليها . لان شباب الحركة الذي مثلّه حينها جيل محمد الزيات ، هم في ذاتهم رمزية تاريخية ، تستمد رصيدها النضالي من سيولة يومية تتراكم وتنمو و ترنو نحو الغد ولا تكبل ذاتها بالماضوية ، التى تختلف عن الاستمرارية التاريخية حيث يصبح الانتماء هو تأكيد هوية ومكانة تاريخية وليس تعويضا عن نقص في المكانة الاجتماعية .
الشباب قصة كبيرة حينما كان محور الفعل الحركي ، لم ينتظر كرماً حاتمياً كي يمنحه دورا ، فقد كان رائدا في صناعة القرار بابداع لا ينضب حتى الساعة ، بل انه يضخ الدماء في عروق السياسة كما كان جيل محمد الزيات ، ويطرح السؤال عن الكينونة التنظيمية للأحزاب السياسية التي شاخت وبات الواقع يلزمها بتجديد نخبها وقادتها، لتجد نفسها في حاجة ماسة لتجديد الدماء لتتجدد الفكرة ويتجدد العطاء وتتجدد الغاية.
قصة بحجم الفكرة الطليقة التي تستحيل على الحَجر في قمقم الجمود "حين يبزغ الصنم تنطفيء الفكرة " على حد قول مالك بن نبي ، حياة الفكرة تستمدها مساحة الحرية كجزء من حالة الجدل الفكري المشتعل ، وموتها يحولها الى حجارة صماء معرضة للكسر مع اول صدمة ، يخطئ من لا يعرف ان العدو دائما يقف وراء كل اطروحة فاسدة والي استخدم لذلك كل ادوات السيطرة تاريخيا لمنع وجود فكرة جامعة ، رؤية لحركة تحرر عربي. تكون القضية الفلسطينية العنوان الرمزي المكثف لقضية التحرر العربي وهي كذلك لم تكن ولن تكون يوما قضية دينية طائفية او مذهبية او فئوية او قُطرية بل في العمق قضية الحرية الوقائع تؤكد انه بلا راية العروبة الجامعة لا تبقى الاوطان أوطانا ولا فلسطين عنوانا.
قصة عظيمة بحجم الحلم الذي لا يقبل المتاجرة ولن يبتلعه البحر رغم موج التخلف والتسيب والتيه والتاريخ عصّىٌ على المناكفة ، مهما استخدمت البدائية من ادوات بشعة . نعلم ان الطريق متعرجة وقاسية ، نحن قدرنا المقاومة قبل ان تكون خيارنا ونؤمن بها قبل ان نحبها ، لانها عنوان انسانيتنا و صاحبة الشأن في استعادة الفكرة العربية الجامعة والروح الوطنية الاصيلة ، ورفع منسوب الحس بالكرامة العربية كحس وطني بامتياز، لذلك الوحدة الوطنية لها حيز معنوي ومادي يضيف لهذه الفكرة قوة ويسندها بالطاقة الايجابية ، أما التمزق فأنه يقع في نطاق الانكسار الروحي والاهانة الوطنية ، الانقسام يولد مشاعر الاحباط الوطني ويبدد الروح الثورية .
تكبر قصة الهوية من الماء الى الماء ، تكبر الروح والارادة والوطن . فيكون مسعى تمزيق المجتمعات بفقه الفتنة وفتاوى الدم وتحويل العشيرة او القبيلة او الطائفة او العرق الى "وطن"، كي يجاز للعدو وجوده وعنصريته الدينية ، مقدمة لإلغاء حلم وقضية بل لوجود شعب وشطب حقوقه الوطنية ، لقد شنت الحروب لضرب مقاومته واخماد روحه وكسر ارادة الحق التاريخي للامة ، الحق هو فلسطين ، وفلسطين هي فلسطين الحقيقية بلا وهم وخديعه، والحق الوطني هو النص الذي لا اجتهاد فيه الحق غير قابل للتقسيط او المقايضة او مبادلة جزأ منه بآخر هي مسأله كفاحية شرسة وليست سهلة.
محمد الزيات .. أنت جزء من حلمنا الجميل الذي لا يسقط بالتقادم ولا نتخلى عنه.
*كلمة مروان عبد العال
إلقيت في 14 آذار 2015.
قاعة المدرسة الجعفرية ـ صور ضمن احتفالية أيام صور الثقافية منتدى الفكر والأدب ـ تكريم المناضل القومي العربي الراحل محمد الزيات.
.
تعليقات
إرسال تعليق